من تعريفات الأدب الجيد أنه ذلك القادر علي تقديم الغريب كشيء مألوف وحميم، وعلي نزع الألفة عن العادي واليومي بحيث يري القارئ فيه ما لم يكن قادراً علي رؤيته بمفرده. وفي روايته "المبعدون"، الصادرة مؤخراً عن دار العربي للنشر والتوزيع بترجمة لهبة ربيع، يدخلنا الكاتب أوجنين سباهيتش إلي عالم بعيد ومظلم هو عالم المجذومين، وينجح في تقديمه بدون أي نزعة إكزوتيكية. ذلك المرض المحاط بالخرافات والأساطير والذي لطالما تم النظر إليه كلعنة تلتهم لحم الملعونين بها، يبدو البطل الأساسي في رواية سباهيتش السوداوية والساخرة في آن. "ينظر الناس إلي المريض فيرون المرض وحده لا الإنسان المصاب به." جملة لا أتذكر قائلها، لكنها تنطبق أكثر ما تنطبق علي المجذومين، ومع هذا يري سباهيتش - شأن الكتاب الجيدين- البشر المتوارين خلف المرض المرعب ويكتب عنهم بلا مبالغة أو تهويل رغم أن حيواتهم وطبيعة معاناتهم مادة خام للتراجيديا والميلودراما بحيث تغري أي كاتب ناشئ للوقوع في فخها. في "المبعدون" أو "أبناء هانسن" وفق العنوان الأصلي، يأخذنا المؤلف إلي بقعة منسية في رومانيا حيث آخر مستعمرة للجذام في أوروبا عشية الثورة علي نيقولاي تشاوشيسكو. لكن مهلاً، هذه ليست رواية عن الثورة الرومانية وإن كانت الثورة تظهر علي استحياء كمحرك للأحداث قرب النهاية، كما أنها ليست هجاءً للحقبة الشيوعية أو حنيناً لها أو حتي رصداً لملامح الحياة في ظلها. رواية سباهيتش عن مستعمرة الجذام ومرضاها. الراوي غامض بلا اسم، لكنه مثقف؛ يستشهد بإميل سيوران ويحب البيتلز ويبدو ملماً بالتاريخ علي نحو جيد، ويجمع براعم النرجس البري في الصباح الباكر لتتفتح في غرفته. لا يحكي راوينا أبداً عن حياته السابقة علي المرض، كأن وجوده الفعلي بدأ مع الجذام، لكنه يحكي عن رفاقه في المستعمرة المنذورة للعزلة والعذاب، وتحديداً عن شريك غرفته روبرت دونكان حتي أنه مع نهاية الرواية نكتشف أننا نعرف تقريباً كل شيء عن روبرت ولا نكاد نعرف شيئاً عن الراوي سوي رغبته الجارفة في الهرب من المستعمرة وأنه لطالما كان موهوباً بأبعاد جسدية لائقة تماماً قبل الإصابة بالمرض، وسرعان ما كان وصوله إلي المستعمرة "أشبه بوصول زعيم لما يشكله الموضوع من أهمية"، ومع السطور الأخيرة من "المبعدون" نعرف بشكل غير مباشر أنه في الأصل من مدينة علي البحر الأدرياتيكي فنستنتج أنه - مثل سباهيتش - من البلقان. روبرت كان ضابط استخبارات في الجيش الأمريكي مهمته تعقب عملاء روسيا في برلينالغربية في أوخر الستينيات وبدايات السبعينيات. وإذا كانت مهنة روبرت الشائقة وبرلين تلك الحقبة سوف توحي للقارئ في البداية بمناخات حافلة بالإثارة مستلة من أفلام الجاسوسية، فإنها في "المبعدون"، وبفضل خيال سباهيتش السوداوي الماكر، كانت عتبة للجحيم، فبدلاً من إيقاع روبرت بالعملاء الروس اصطادوه هم. حصلوا منه علي ما يريدون من معلومات واحتجزوه في زنزانة عفنة الرائحة حيث التقط عدوي الجذام من مجذوم متآكل اللحم يرقد تحت كومة من الأغطية، ثم أطلقوا سراحه وهو لا يعلم حقيقة ما مر به ولا طبيعة مرضه، لينتهي به الأمر في آخر مستعمرة جذام أوروبية في رومانيا، كأننا أمام تنويعة عصرية علي "عنبر رقم 6" لأنطون تشيخوف، حيث صدفة عمياء قد تحوِّل مصير إنسان وتلقي به في هوة مظلمة. سوداوية سباهيتش مخففة بالسخرية وبعين قادرة علي اقتناص الجمال من بين ثنايا القبح. هذا السخرية تتبدي مثلاً عند تناول مهمة روبرت دونكان في برلينالغربية، فعلي العكس من رجال الاستخبارات الأذكياء والأكفاء، ثمة هشاشة ما في روبرت تجعله أقرب إلي فنان منه إلي ضابط جيش، وتحوله بالتالي إلي شخصية روائية لا تُنسي. علي مدي عام كامل، لم يقابل روبرت روسياً واحداً في برلينالغربية باستثناء "نيكولاي فلاديميروفيتش سيجيدين" الممثل الذي تسمح له لكنته بلعب أدوار الفلاحين في الدراما الروسية في المسارح الصغيرة في برلينالغربية. لم يفهم روبرت ما كان يبحث عنه فعلاً، ولم يجرؤ علي السؤال كي لا يبدو متشككاً أمام قادته، "لذا هز رأسه بتركيز وهو يدوِّن أسماء الحانات والمطاعم التي ينبغي عليه زيارتها للاستماع إلي همسات باللغة الروسية، فضلاً عن إنه لم يكن يريد خسارة إقامته المريحة في فندق أغسطس، 22 شارع فاسينستراسا، ولا الخمسمائة دولار الشهرية التي حول نصفها فقط إلي "ماركات" ألمانية، واحتفظ بالباقي جانباً لأوقات هادئة قادمة في جورجيا؛ سيارة بويك سوداء كبيرة، وقارب بخاري جيد ومعدات صيد من نوع ميتشل." سخرية سباهيتش تتبدي أيضاً حين يتناول رد فعل المجذومين حين عرفوا بمرض الإيدز لأول مرة، فحين أعلن العدد 36 من الجريدة الطبية (يناير 1984)، المنشورة في بوخارست تحت رعاية الأممالمتحدة بفخر، ظهور مرض جديد سيغير وجه الأرض، قرأ ساكنو مستعمرة الجذام المكتوب عن "المرض الجديد"،بردود أفعال تتراوح بين السخرية، وعدم الفهم، والحسد والرهبة. وبالنسبة لبعضهم كان الإيدز مهزلة طبية هدفها صرف النظر عن "مصائب الإنسانية المعترف بها" مثل الطاعون والسرطان والجذام. كأن المجذومين تماهوا مع مرضهم المنتمي إلي عصور الظلام، ورفضوا أن ينافسه مرض وافد بلا تاريخ! والمفارقة أنهم عندما عرفوا أن المثلية الجنسية من أسباب الإصابة بالإيدز، ظنوا أن المثلية الجنسية في حد ذاتها مسببة للمرض وتحاشوا المجذومين المثليين سيون وإيمستزلو؛ تماماً مثلما يتحاشي الأصحاء المجذومين. نزيلة أخري في مستعمرة الجحيم هذه يتوقف أمامها الراوي الحريص علي تغييب ماضيه هو من المشهد، وهي مارجريتا يوزيبوفتش، عجوز روسية أصيبت بالجذام في أحد معسكرات الاعتقال القاسية في سهول سيبيريا، تتحدث لغة روسية قديمة يفهمها الراوي بصعوبة، وأمضت السنوات العشر الأخيرة من حياتها "طافية علي بحر الذكريات الأسود، وشاكية باستمرار من البرد، برودة سيبيريا الساكنة في جمجمتها للأبد." هناك أيضاً إنجمار زولتان أقدم المقيمين في المستعمرة والناجي الوحيد من مذبحة ارتكبها النازيون ضد رواد المستعمرة القدامي في 14 ديسمبر 1942، وفي التاريخ نفسه من كل عام يحكي زولتان لرفاقه قصة المذبحة بعد غداء تذكاري إحياءً لذكري ضحايا المذبحة، ويجفف دموعه، وينصرف الجميع فخورين بأن "مرضي الجذام لعبوا دوراً في الحرب العالمية الثانية، وإن كان ذلك من خلال إعدام جماعي."! يحكي الراوي عن رفاقه في المستعمرة، ولا نعرف عنه إلا ما نستنتجه من الأحداث التي تجمعه بهم؛ بروبرت علي وجه الخصوص. لا اسم للراوي والهوية الوحيدة المذكورة عابراً هي هوية مزيفة في جواز سفر مزور أهداه له روبرت في عيد ميلاده كوسيلة لهروبهما المنتظر بمساعدة السيد سموز سائق الشاحنة وحلقة الوصل الوحيدة بين المستعمرة والعالم الخارجي، وحتي هذه الهوية المزيفة كان مصيرها الاحتراق في النار التي التهمت مستعمرة الجذام. واللافت للنظر أن الرواية تنتهي هكذا: "أنقب في الرمال بعصا وأكتب اسمي بين ما يلقيه البحر. أنتظر أن تقوم الموجات بعملها ثم أعاود المشي علي الشاطئ." خطة الهرب كانت المحرك لسلسلة من الحوادث العنيفة المتتالية والمتزامنة تقريباً مع تصاعد حدة الغضب بين عمال المصنع المجاور الذي كان أشبه بكوة يراقب منها المجذومين تقلبات السياسة في العالم الخارجي، فالمصنع ومجريات الثورة فيه بدوَا كمرآة تعكس صورة مصغرة للثورة التي امتدت في طول البلاد وعرضها. في النهاية، "المبعدون" رواية مكتوبة بذكاء حتي وإن تباطأ إيقاعها حيناً أو استسلم مؤلفها لإغواء استعراض معلوماته التاريخية والعلمية عن الجذام علي حساب خيط السرد حيناً آخر. وأوجنين سباهيتش كاتب من جمهورية "الجبل الأسود" وُلِد عام 1977، وفازت روايته هذه بجائزة "ميسا سليموفيتش" عام 2005 كأفضل رواية جديدة من كرواتيا وصربيا والجبل الأسود والبوسنة والهرسك، كما نالت عام 2011 جائزة مهرجان "أوفيد" المخصصة للآداب المترجمة إلي اللغة الرومانية.