"زومبي مصر".. وجوه وأطراف متآكلة وبشر منبوذون يعيشون كالموتى الأحياء - مستعمرة أبو زعبل عمرها 80 عامًا يحكمها قانون ملكى صدر فى 1946.. والمرضى يلجأون إليها هربهًا من مجتمع لا يرحم - غرفة بتر الأطراف أكثر ما يخشاه مريض الجذام.. والرجل الأسد يرفض تحويل المستعمرة إلى مستشفى حتى لا يخرج إلى الشارع - 649 حالة جذام جديدة سنويًا والصعيد الأكثر إصابة ومدن القناة اقل المحافظات إصابة بالمرض.. والصحة العالمية: الجذام يتناقص فى مصر منذ 10 سنوات
"يا ساتر يا رب.. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.. يامة" تخيل أن يكون هذا الرد العنيف هو الذى يواجهك طوال الوقت ليلا ونهارا، فى الشارع فى العمل فى الأتوبيس، والأسوأ أن تواجهه فى بيتك الذى من المفترض أن يكون المكان الوحيد الذى يمكنك أن تستريح فيه، هذا الهتاف الحاد الذى أطلقه ركاب الأتوبيس دفع فضولى للنظر إلى ما أثار اشمئزازهم إلى هذا الحد، وهالنى أن وجدته رجل مسكين لا يمكن تحديد عمره لأنه متآكل الملامح، يبدو عليه آثار مرض الجذام الذى نخر فى ملامح وجهه كثيرًا فأصبح بلا شفايف تقريبًا. نظرات الحزن والأسى كانت الشيء الوحيد الذى جعلنى أدرك مدى استياءه من تعامل الناس معه، ورغم ذلك يبدو عليه وكأنه أعتاد ذلك الأمر، إلا أن ما أثار إزعاجه صراخ طفل صغير لا يبلغ من العمر أكثر من أربع سنوات يقول وهو يخفى وجهه فى صدر أمه "عفريت يا ماما"، لم يحتمل هذا الموقف فراح يخفى وجهه المشوه بكفين اختفت فيهما الأصابع، ففزع الركاب وابتعدوا عنه خشية الإصابة بعدوى الجذام. انزوى مريض الجذام فى ركن فرغ منه كل الركاب وهو يقول بصوت منخفض مهزوز باكى "أنا مريض لكن مش معدي.. والله مش معدي"، كان لذلك المشهد اللإنسانى دافعًا للاقتراب من الرجل وسط توسل الركاب بعدم الاقتراب منه حتى لا أصاب بالعدوي، إلا أن إصرارى دفعنى للاقتراب منه لأسأل، من أين جاء؟ وما وجهته؟، فعلمت من خلال كلماته المتقطعة التى تحمل نبرات الخوف والريبة أنه خرج من مستعمرة الجذام لأنه أشتاق إلى أبنائه كثيرًا، وكل ما يتمناه أن يرى أحفاده الذى لم يراهم فى حياته قبل أن يموت. وصل أخيرًا الأتوبيس إلى المحطة التى يريدها مريض الجذام الذى رفض أن يقول اسمه، فهب واقفًا واتجه إلى الباب مهرولاً ليخرج من الأتوبيس ورواده الذين لم يرحموا آلمه، اختفى الرجل عن الأنظار وتحرك الأتوبيس، ولكن أحدًا لم يجرؤ على الحديث أو الاقتراب من الكرسى الذى كان يجلس عليه مريض الجذام، ووصل الأمر إلى حد أن بعض الركاب أصر على النزول من الأتوبيس باحثًا عن وسيلة مواصلات أخرى واصفين الأتوبيس بالموبوء. تلك هى باختصار الحالة التى يعيش عليها مريض الجذام فى مصر، مرفوض ومكروه ومطارد، اضطر رغمًا عنه أن يعيش فى مستعمرة فى أحضان الجبال بعيدًا عن أعين الناس وألسنتهم التى لا ترحم، هذا الموقف اللإنسانى جعلنى أصر على الذهاب إلى تلك المستعمرة بمنطقة أبو زعبل بمحافظة القليوبية للتعرف عن قرب على مرضى يخشاهم المصريون. رحلة طويلة استغرقتها للذهاب إلى مستعمرة الجذام، ورغم بعد المسافة عن القاهرة ومشقة الطريق إليها، إلا أن الرحلة كانت فرصة للاقتراب من عالم يتعامل معه الجميع بلا رحمة، هذا العالم الذى أخبرنا بهم الأدب اللاتينى فى أول وصفه لمرضى الجذام الذى تم اكتشافه فى جزيرة هايتى فى النصف الأخير من القرن التاسع عشر بالميت الحي. لم تكن وسيلة الذهاب إليها متوفرة كما يعتقد البعض، فعليك أن تستقل قطار أبو زعبل المتهالك من محطة المرج الجديدة للذهاب إلى محطة أبو زعبل وتستغرق الرحلة 20 دقيقة، وبجوار المحطة يقف عشرات من سيارات "التوك توك"، وعندما اقتربت من أحدهم لأسأله عن المستعمرة أبدى تذمرًا وضيقًا لخوفه من الذهاب إلى المكان الموبوء، أنقذ الرحلة تشجع أحدهم للذهاب معى إلى المستعمرة ذهابًا وإيابًا بعد أن اتفق معى على المبلغ المحدد. استغرقت الرحلة 17 دقيقة كاملة لم نر خلالها سوى الرمال وبعض حدائق التين الشوكي، ولم نسمع فيها سوى أصوات الكلاب والذئاب، إلى أن اقتربنا من البوابة الرئيسية للمستعمرة بلافتة ضخمة مكتوب عليها "مستعمرة الجذام بأبو زعبل". لا حراسة.. لا أبواب مغلقة.. فقط عشرات من سيارات "التوك توك" استقلها أهالى بعض المرضى الذين حضروا من كل محافظات مصر حاملين معهم الجبن والقشدة والفطير والعسل. دخلت من البوابة المفتوحة على مصراعيها إلى داخل مستعمرة الجذام، أتلفت يمينًا ويسارًا باحثة عن أحد المرضى الذى يميزهم المرض بالتشوهات الجسدية، الانطباع الأولى لمدخل مستعمرة "الموتى الأحياء" أزال عنى الرهبة قليلاً، فقد استطاعت الأم فكتوريا وهى راهبة إيطالية قطعت آلاف الأميال لتأتى إلى مصر لتعمل فى خدمة مرضى الجذام من تحويل مدخل المستعمرة إلى قطعة صغيرة من الجنة بحدائقها وزهورها ونظافتها. هاهو أخيرًا بصورته وهيئته التى تشبه من بعيد "الزومبي" أو "الموتى الأحياء"، يهيم على وجهه على عكازين ويرتدى حذاءً تم تصنيعه بشكل خاص متكور، وقد قصر طوله بفعل بتر الأطراف، أسرعت أنادى عليه فالتفت إلى بوجهه الذى نحت فيه الجذام وجعله أشبه بأسد باسم قائلاً بلهجة ريفية بسيطة "عايزة إيه يا بنتي.. ليكى حد هنا بدورى عليه.. ولا أنتى بتشتغلى هنا جديد"، لم أعلم سبب التردد الذى تملكنى خوفًا من عدوى الجذام فأخذت أقترب منه بخطوات مترددة، فابتسم الرجل نفس ابتسامة الأسد وهو يقول بكلمات شبه مرحة "أنتى خايفه منى ولا إيه.. قربى ما تخافيش.. صحيح أنا مشوه بس قلبى طيب"، شجعتنى كلماته بالاقتراب منه رغم هيئته ومرضه. إنه "حجاج البوهي" رجل بلغ من العمر 70 عامًا يرتكز على عكازين خشبيين بيدين خلت من الأنامل التى تآكلت بفعل الجذام، يرتدى حذاء صنع خصيصًا داخل المستعمرة لكل من بتر جزء من ساقه، ولاحظت أن وجهه ازدادت به البقع بشكل جعل أوردته وشرايينه تبرز إلى الخارج. كان العم حجاج، قبل أن يأتى إلى المستعمرة منذ 21 عاما فلاحًا أجيرًا يزرع الأرض بقريته الصغيرة بالمنوفية إلى أن نهش الجذام جسده الضئيل فأضطر للمجيء إلى المستعمرة بعيدًا عن البشر حتى لا يصيبهم بالعدوى بعد أن نفروا منه، ومن آن لآخر يذهب إلى قريته ليرى الأرض التى زرعها وأبناءه، وعندما سألته عن كيفية قضاء حياته مع المرض قال بصوت شاحب "ربنا كريم.. أهو كويس دلوقتى بقى فيه علاج". بدى فى عين العم حجاج نظرة حنين ولمعة دمع مدفونة وهو يحكى عن أبنائه الذين أصبحوا يزورونه بعض الوقت كل شهر، وارتسمت على شفتيه ابتسامة باكية حين قال بصوت كطنطنة الرحايا "و كمان بقيت أروح البلد أقعد يومين وارجع تاني". فسألته متعجبة من عودته بعد أن تحسن ذهن أولاده عن المرض، فتضاحك وكأنه الموج الهادر قائلاً "يا بنتى إحنا ناس على أد الحال.. غلابة قوى.. قوي.. أجيب منين حق غيار كل يوم للجرح اللى فى رجلي.. أدينى قاعد وربنا كريم". قطع حديثنا أحد الموتى الأحياء أقترب منا متحدثًا إلى عم حجاج قائلاً "يا عم حجاج.. صلات الظهر وجبت.. مش هتصلي"، فأشار إليه عم حجاج وهو يقول له "تعالى سلم الأول على الأستاذة.. دى جايه من مصر عشان تشوف أحوالنا"، إنه أيمن جاد عبد الرءوف ذلك الفتى الذى لم يتجاوز الثلاثين من عمره جاء من إحدى قرى سوهاج منذ 12 عامًا إلى المستعمرة للعلاج من الجذام بعد أن فشل أطباء المحافظة فى علاجه لجهلهم بالمرض مما تسبب فى تأخر حالته إلى أن وصل إلى هذه الهيئة البشعة، وقبل أن أتوجه إليه بالسؤال رفع يديه أمام وجهه صارخًا "يلا صورى بسرعة إن كنتى هتصوري.. مش هو ده اللى فكركوا بينا.. كل شوية تيجوا وتاخدوا صورتين وتنشروا فى الجرنال وخلاص". ابتسم العم حجاج مشفقًا على رفيقه الشاب الذى ضاعت منه حياته بين جدران المستعمرة دون أن يكون أسرة أو ينجب ولدًا يحمل اسمه، فاقترب منه محاولا أن يربت على كتفه وهو يتكأ باليد الأخرى على عكازه قائلاً "وماله لما يفتكرونا يا أيمن.. كويس عشان ما ينسوناش". "وازاى تكلمها يا عم حجاج.. هى جايه تتفرج علينا.. هو أحنا مش بنى أدمين.. ولا هيه فكرانا أية" التفت أنظر إلى صاحب الصوت وجدته أحد المرضى التى ساءت حالتهم كثيرًا فأصبح وجهه يأخذ شكل الأسد قليلاً خاصة أن عصب الشفايف لا يتحرك كاشفة عن أسنانه والتى كانت أغلبها صناعية، أما كفه فمنحوته بخطوط سمراء، وأصابعه متصلبة على شكل مخالب الأسد، يرتدى قميصًا أزرق متسخًا قليلا وسروالاً كحلى اللون وجوارب بيضاء طويلة. أقترب منه عم حجاج يهدئه ببعض الكلمات إلا أنه لم يستمع إليه ونهرنى قائلاً " أنا إنسان زيك.. كنت زمان أحسن منك.. أنا أتولدت سليم ومرضت على كبر.. وده ممكن يحصل لأى حد.. أحنا مش مشوهين ولا جربانين عشان تخافوا تقربوا مننا أو تهربوا لما تشوفونا.. أحنا بنى آدمين.. بنى آدمين". كان يتحدث بصوت لاهث وبصدر يعلو وقلب يخفق بعنف، وعرق غزير بلل قميصه الأزرق فاقتربت منه قليلا فأشار إليه بيده المصابة "أعذرينى يا أستاذة اللى شفته منكوا كتير.. كل شوية يجو يصورونا ويسمعونا كلام يحرق الدم"، أنا اسمى عبد الله حضرت من الزقازيق إلى المستعمرة منذ 23 عاما بعد أن فشل الأطباء الذين ذهبت إليهم فى معرفة أسباب ارتفاع درجة حرارتي، وبصوت كجعجعة الطاحونة قال " فين وفين لما أتعرفت على دكتور جلدية فى الزقازيق وقالى إنى مريض بالجذام وحولنى على القلعة التى حولتنى إلى المستعمرة". بيده منزوعة الأنامل جذبنى عم حجاج قائلاً "ما تزعليش من عبد الله يا بنتى وتعالى أعرفك على بركة المستعمرة جدو عبد العظيم.. هو ما يقدرش يخرج يكلم معاكى لأن الأطباء بترو ساقه ولا يخرج من العنبر". ترجلت ببطء بجوار العم حجاج للذهاب إلى عنابر الرجال الذى بدى على بعد 30 مترًا بجواره العديد من أحبال الغسيل الذى نشر عليه المرضى ملابسهم، دخلت إلى العنبر ورائحة طعام الغذاء تملأ أرجاءه. كان الانطباع الأول للعنبر إنه أحد عنابر المستشفيات الحكومية المهملة فقد كان هناك صفان طويلان من الأسرة مفرودة عليها مفارش طويلة نظيفة ومرتبة بعض الشيء، كان يوجد بالعنبر 20 سريرًا على الرغم من أنه لا يزيد طوله على 12 مترًا وعرضه على 6 أمتار. اقترب بى العم حجاج من أحد المرضى والذى جاء إلى المستعمرة حتى يبتر ساقه، إنه "عبد العظيم السيد" الذى حضر من سوهاج إلى المستعمرة منذ 6 سنوات، كان الجذام قد رسم ملامحه على الوجه العجوز فازداد تجعدًا، قال لى "عبد العظيم" فى صوت التقطت منه الكلمات بصعوبة بالغة" والله ما أنا عارف أنا عييت أمتي.. لكن ولاد أخويه جابونى هنا من 6 سنين عشان رجلى كانت مكهربة جسمي، لدرجة إنى نمت على السرير شهر كامل عايش على الكلوجوز.. ولما جيت بترولى رجلى وحجزوني.. ومن يومها ماشفتش بلدى غير مرة واحدة بس.. لكن قالوا لى هاروح عالعيد". وصف جدو عبد العظيم، مستعمرة الجذام بأنها أصبحت مختلفة الآن داعيًا للماما فيكتوريا "ربنا يخلى لنا مامتنا الست ويصلح حالها ويجبها لينا بالسلامة، دى لما بترجع بلدها إيطاليا بيبقى مالناش عازه والمستعمرة ما بتبقاش هيه ومش بيعجبنى أحوالها". لم أنطق.. اختنقت كل الكلمات.. مضيت تجاه الفراش الآخر وكان العم حجاج يأتى خلفى متأرجحًا على عكازيه، وعرفنى عليه كان رجلًا طويلاً عريض المنكبين يبدو عليه الشموخ وعزة النفس التى كسرها المرض، أنه "إبراهيم جابر" الذى شارك فى حرب 73 على الرغم من إصابته بالجذام من سنة 1970 وقال "أنا كنت قوى وجامد وبصحتي.. وكنت فى الجيش بجرى وبنط موانع وأطلع الحبل.. وعبرت القناة وحاربت الإسرائيليين"، ظهرت مسحة من الحزن على وجهه وهو يتنفس بصعوبة ووهن صوته المختنق وهو يقول "دلوقتى أدينى بتعالج وربنا موجود.. لو كنت شفت نفسى سليم كنت رجعت طنطا أعيش مع أولادي.. وكانت زوجتى تخدمنى بدل ما أنا بطبخ وبغسل لنفسي"، سكت فجأة وتراجع نحو فراشه. أشار لى العم حجاج، بأن أتركه لحاله وأن اكتفى بتلك الزيارة القصيرة حتى لا يغضب المرضى، وأصر على أن يصطحبنى إلى باب المستعمرة، وأثناء سيره بجواره لمحت صبيًا يجرى مهرولاً فناديت عليه ليتوقف، فضحك عمى حجاج وقال "تعالى يا محمود.. الست عاوزه تتكلم معاك" اقترب محمود سليمان الذى يبلغ من العمر 17 عامًا وجاء إلى المستعمرة منذ أن كان فى التاسعة من عمره، فبادرنى قائلاً بسخرية "أنا مابتصورش ومابتكلمش.. أنا عايش هنا كويس ومش عايز حاجة من حد.. وسيبنى يا عم حجاج أنا رايح أوضة العمليات". لفت انتباهى كلمة "أوضة العمليات" فالتفت إلى عم حجاج لأسأله فقال وهو يشير بعكازه إلى أحد المبانى "ديه الأوضة اللى بيقطعوا فيها الأيدين والرجلين"، فطلبت منه إلقاء نظرة عليها، مجرد حجرة صغيرة نظيفة بعض الشيء بها شيزلونج وأجهزة الجراحة المعتادة، ويخشاها كل المرضى رغم إنها مخصصة لكل الجراحات وليس البتر فقط. تلك هى مستعمرة الجذام، الحقيقة السوداء لأسطورة الموتى الأحياء، أناس لا يعلمون أى شيء عن العالم الخارجى الذى يجهلهم وينفر منهم ويعتقدون أنهم مجرد أشخاص تتساقط أطرافهم بفعل قوة شريرة تقضى عليهم، تلك هى مستعمرة الجذام التى تم إنشاؤها سنة 1932 بمنطقة نائية معزولة بناحية أبى زعبل مركز الخانكة محافظة القليوبية لعزل ورعاية مرضى الجذام، وتم تخصيص الموقع لوزارة الصحة العمومية بناء على مرسوم ملكى بتاريخ 1/11/1951 بناء على المادة 11 من القانون رقم 131 لسنة 1946 بشأن مكافحة الجذام ويقضى بعزل المجذومين إجباريًا, بمحيط 4000 × 2500 × 3000 × 3250 مترًا أى حوالى 2418 فدانًا للمبانى والمزرعة للنفقة على المستعمرة والمرضى وتأهيل مرضى الجذام. وطبقًا لسجلات المستعمرة والعاملين فيها تبلغ قوة المستعمرة 571 سريرًا، وعدد الأسرة المستخدمة الآن 398 سريرًا بنسبة إشغال تصل إلى 80%، وعدد المرضى الإيجابى المترددين شهريًا للعلاج النوعى 24 مريضًا، وعدد المرضى القدامى المقيمين لتلقى خدمات طبية مختلفة 500 مريض، وعدد المرضى المحولين لإجراء عمليات جراحية للإقامة المؤقتة 300 مريض سنويًا، وعدد المترددين للعلاج الطبيعى والعناية بقرح الجذام المزمنة 10 آلاف جلسة سنويًا، وعدد حالات التفاعل الجذامى الشديدة 80 حالة سنويًا. انتهت الرحلة ولم ينته تأثيرها ولكن يبقى أن المستعمرة ستبقى علامة واضحة على جهل أربعينيات القرن الماضي، الذى كان يتعامل مع هؤلاء المرضى على أنهم وباء يجب حبسهم فى مكان بعيد عن البشرية، فاختاروا هذا المكان المعزول الموجود فى قلب الصحراء وكأنهم المطاريد الذين يتخذون من الجبل مأوى لهم. لم يكن العزل هو الأمر الوحيد الذى يمكن أن نقول عليه إنه سبب مباشر فى التعامل غير الإنسانى مع هؤلاء المرضى، ولكن طريقة التعامل فى أربعينيات القرن الماضى خاصة فى طريقة نقل المرضى، فعند اكتشاف أى مريض كانت تذهب إليه قوة من الشرطة تقبض عليه وكأنه فعل جريمة وتحضره إلى المستعمرة للعزل، وكانت القوة تقوم بالقبض عليه بطريقة همجية على مشهد من أهل الحى أو القرية، الأمر الذى جعل المرضى خاصة القدامى منهم هم يختزنوا فكرة أنهم منبوذون من العالم، خاصة أن هذا الإحساس يزداد مع أسلوب تعامل الأهالى مع مرضاهم. المشكلة الحقيقية أن المرض مازال يصدر حالات جديدة للمستعمرة، فهى تستقبل سنويًا 649 حالة جديدة، ورغم أن الجذام ينتشر فى كل محافظات مصر تقريبًا، إلا أن معدل الإصابة بنسب متفاوتة بشكل كبير، وتعد محافظات الصعيد الأكثر عرضة للإصابة بمرض الجذام، حيث تستحوذ مدينة إسنا بمحافظة الأقصر بمفردها على حوالى ربع المرضى، ثم محافظاتقنا وأسوان وسوهاج وأسيوط والمنيا وبنى سويف والفيوم، ومدن القناة والإسكندرية أقل المحافظات إصابة بالمرض، إلا أن منظمة الصحة العالمية أكدت فى تقاريرها الأخيرة أن الجذام يتناقص فى مصر منذ 10 سنوات. الغريب أنه بالرغم من أن المريض لا يكون ناقلا للعدوى بمجرد أن يحصل على العلاج داخل المستعمرة، فى وقت لا يزيد على ثلاثة شهور، كما يمكن شفاء المريض تمامًا من مرضه خلال 12 شهرًا، إلا أن الفكرة المسيطرة على الجميع أنهم وباء حقيقى يمكن أن يصيب المجتمع، وبالتالى لا يمكنهم استقبالهم والتعامل معهم، خاصة أن الدواء يمكنه أن يقضى على انتقال الوباء ويمكنه أن يوقف تطورات المرض ولكنه لا يمكنه أن يقضى على أثر المرض الذى ظهر بالفعل على المريض من تشوهات وتآكل فى الأطراف والملامح. هذا التعامل غير الإنسانى مع المرضى أختزن بداخلهم انطباع بشع عن البشر جعلهم لا يفضلون ترك المستعمرة، ولقد أخبرنى أحد المرضى القدامى الذى لم يرغب فى أن يذكر اسمه كما رفض تمامًا التقاط بعض الصور له لشعوره ببشاعة مظهره بعد أن تآكلت معظم أطرافه وضاعت ملامحه بفعل الجذام، أن المرضى أشعلوا ثورة منذ 12 عامًا رفضًا لتغيير اسم الموقع من مستعمرة إلى مستشفى حتى لا تطردهم الحكومة، فهم لا يريدون الخروج من المستعمرة ولا يريدون الاحتكاك بالناس مرة ثانية.