«المستعمرة» أو عالم المنفيين بعيداً عن الحياة رغم أنهم ما زالوا يتنفسون.. مازالوا يتألمون.. مازالوا يحلمون.. ففى تلك المستعمرة حفر المرضي ذكرياتهم الأليمة علي جدرانها منذ نشأتها في عهد الملك فؤاد الأول منذ ما يقرب من المائة عام بعد عزلهم لرعايتهم إجبارياً علي مساحة من الأرض بمنطقة أبي زعبل بالخانكة إنها «مستعمرة الجذام» التي يقطن بها المئات من المرضي والذين تم عزلهم عن باقي البشر نتيجة إصابتهم بهذا المرض اللعين. «الوفد» قررت اقتحام العالم السرى للمستعمرة ورصد ما يحدث فيها من معاناة للمرضي نتيجة إصابتهم بهذا المرض الخطير من جهة، والإهمال في مباشرة علاجهم من قبل طاقم الأطباء والممرضات المسئولين عن علاجهم من جهة أخرى. السطور القادمة هي نتاج يوم كامل عشناه داخل مستعمرة الجذام للتعرف علي طبيعة الحياة بداخلها عن قرب، فالرغبة فى اقتحام هذا العالم الخطير كانت أقوي من الخوف من الإصابة بهذا المرض، في البداية نشير إلي أن مرض الجذام هو مرض بكتيري تسببه بكتريا تسمي «مايكو باكتيريام» وهي بكتريا تصيب الجلد والأعصاب، ويتميز المرض بحدوث أورام وعقد في الوجه تؤدي إلي سقوط الشعر والحاجبين وتآكل الأغشية المخاطية في العين والفم والأنف. كما تتواجد هذه الأورام أيضا باليدين والقدمين مسببة سقوط الأصابع كلها أو بعضها وحدوث تشوهات جسيمة، والمستعمرة مساحتها 350 فدانا تمت احاطتها بسور عال – شديد الحراسة - لمنع الأهالي وغير المصابين بالمرض من الدخول والمستعمرة تحتجز 700 مريض يتواجد منهم 277 في المبني الإداري والذي يضم بدوره قسم العلاج الاقتصادي وغرفة العمليات والعيادات الخارجية، بينما يوجد 132 مريضا في القسم الثاني الذي يضم عيادة للغيار وسجناً للمرضي الصادر بشأنهم أحكام قضائية، أما باقي المصابين فهم سيدات يتواجدن بالقسم الثالث. ويحيط بالأقسام الثلاثة سور كبير يتواجد بجواره محطة لتنقية المياه التي يشربها المرضي ويقال إنها السبب في إصابة العديد منهم بالفشل الكلوي نتيجة ارتفاع الأملاح وعدم كفاءة عملية التنقية. وفي المستعمرة يتواجد مخبز ينتج 3000 رغيف يوميا وهو لا يكفي عدد المصابين، وبالتالي يضطر المرضي لشراء الخبز من الخارج فضلا عن عدم تواجد أطعمة للمرضي داخل المستعمرة، وبالتالي يضطر المرضي إلي شراء أطعمتهم من الخارج وعلي نفقتهم الخاصة. الإهمال هو المسيطر تماما علي المكان، فالمرضي ينامون علي الأرض والقاذورات تحيط بهم من كل جانب والحشرات صديقهم الحميم في هذا المكان. والأطباء لا يسألون عليهم أو يباشرون علاجهم خوفا من العدوي. والمرض يأكل في أجساد المرضي والنتيجة الحتمية بتر الأطراف. رشيد عبد الوهاب محمود، قال: إن أحوال المرضى لا تسر عدواً أو حبيباً وهدد بقيام المرضى بمنع ممثلى المنظمات التى تقدم الخدمات وممثلى الصحة وأطباء المستشفى من الدخول، مضيفا بقوله: إن ثورتهم ستكون بالداخل بمنع من يسمحون لأنفسهم بالسطو على حقوقنا من الدخول، وقال: إن ادارة المستشفى تتعامل معهم بأسلوب غير آدمى، والاخصائيون يتعاملون معهم بشكل سيئ وطالب بتشكيل لجنة لفحص مطلبهم فى العلاج والإقامة والغذاء وحقهم فى التعامل الآدمى، وأضافت الحاجة نعيمة والمقيمة بعنبر 3: إنها تتواجد في هذا المكان منذ سنوات طويلة مع زميلاتها المصابات بنفس المرض ورفضت الخروج إلي العالم الخارجي خوفاً من نظرات الناس إليها. عبير زميلتها في نفس العنبر تؤكد أن المريض يدفع تكاليف طعامه وشرابه علي نفقته الخاصة رغم ضيق ذات اليد لمعظم المرضي المقيمين بالمستعمرة ويتكفل المستشفي بجزء ضئيل جدا من علاجه فهو يعطيهم كل شهر نصف كيلو سكر ونصف زجاجة زيت وكيلو أرز لكل مريض وهذا هو الطعام الشهري لمرضى المستعمرة وتضيف مريم المقيمة بعنبر 2 إن المريض يعتمد علي نفسه في إعداد كل شئ فهم يقومون بأداء كافة الأعمال المنزلية بأنفسهم من طهي الطعام وغسيل الملابس وتنظيف العنابر ولا يوجد بالمستعمرة أي عمال نظافة فيلجأ المرضي إلي تنظيف المستعمرة من القاذورات والقمامة بأنفسهم رغم أن بعض المرضي لا يستطيعون الحركة فضلا عن أن هذه الأعمال تعتبر شاقة عليهم نظرا لظروفهم المرضية الخاصة . أما الحاجة أم محمد فهي دائما تطلب حضور الطبيب المعالج دون جدوي لدرجة أنها قد تنتظر لأسابيع ولا يأتي الطبيب، فهي تقول «أنا نفسي الدكتور يجي علشان أنا مش عارفة أشوف خالص رغم أني أستخدم المرهم اللي اشتريته علي حسابي ب 80 جنيه». أما عم «صادق» فيؤكد أنه لا يستطيع الخروج من المستعمرة نهائيا لأن الأطفال والشباب ينظرون اليه وهم يتغامزون ويضحكون ويقولون له «أنت شبه القرد ياعم روح موت أحسن» مما يجعله يبكي ويفضل العزلة. أما عن الأعمال الأخري التي يزاولها المرضي داخل المستعمرة فهم يزاولون مهنة السباكة والنجارة والخياطة والكهرباء والجزارة ورغم ذلك يتقاضون القليل الذي لا يكفي لشراء العيش الحاف. أما عاطف سلامة، فيقول: إنه يقيم بالمستشفى منذ 10 سنوات وأنه متزوج من سيدتين وأنجب 5 أطفال وقال إنه يقوم بمساعدة باقى المرضى فى الاستحمام وإعداد الطعام وطالب بإصلاح منظومة المستعمرة والاهتمام بالمرضى. ويقول حنفى أحد المرضى دخلت المستشفى منذ 20 يوما فقط وأعيش حالة نفسية سيئة بسبب نظرة المجتمع لي والخوف من الاقتراب منه، وأضاف: انه متزوج وأنجب عدداً من الاطفال يقوم بزيارتهم بين الحين والآخر أما عم محمد فقال: إن عمره 106 سنوات وأنه مقيم منذ سنوات طويلة بالمستشفى وأن حلم عمره (انه نفسه يشرب شاى). أما الحاج أحمد فقال: إن المسئولين وأولهم محافظ القليوبية لا يعرف شيئا عنهم، وأضاف: «قنديل مينفعش يكون رئيس وزرا.. وأنه لم ينتخب مرسى وغير راض عن ادائه» وأضاف: إن المسئولين وأعضاء الشعب لا يزورونهم ولا يعرفون شيئا عنهم أو عن حياتهم. خرجنا من المستعمرة وتوجهنا الى عزبة الصفيح أو عزبة الشهيد عبد المنعم رياض وعند دخولك للعزبة الخاصة بالمرضى القدامى وذويهم فإنك قد لا تتمالك نفسك من البكاء لقسوة ما تشاهده، من صور وملامح لمرضى خرجوا من إطار العدوى ولكن تبقى التشوهات التي سببها المرض، لتشكل حاجزاً نفسياً بينهم وبين كل من يتعامل معهم. استوقفنا محمد الشرقاوي، والذى قال: «أبلغ من العمر 60 سنة، وأعيش هنا في المكان من زمن، وافتكرنا لما الثورة قامت إن المستعمرة حالها هاينصلح، لكنها محتاجة ثورة لوحدها، فالفساد لسه معشش فيها، وعلى الرغم من أننا بيجيلنا تبرعات كتير من أهل الخير لكن بيوصلنا فتافيت منها». وقال الدكتور هانى حسن، ممثل منظمة الصحة العالمية، إن مرض الجذام أصبح متوطنا فى مصر، وأن وضع المرض صار مخيفاً عالميا بسبب فقدان أولوية علاجه على قوائم وزارة الصحة والجهات المعنية. وأضاف: إن عدد المرضى وصل إلى 228 ألف حالة عام 2011، على مستوى العالم، وأن أكثر الدول تضررا من المرض وتأثراً به هى 17 دولة أبرزها الهند والبرازيل وإندونيسيا، أما الدكتور صلاح عبد الغنى مدير إدارة الجذام بوزارة الصحة، فقال إن عدد المرضى بمستعمرة الجذام بلغ 700 حالة، بالإضافة إلى 300 حالة تتردد يوميا، مطالبا بتوفير الدعم للأطباء والعاملين وفتح أبواب التعاون مع كليات الطب بالجامعات لتقديم خدمة طبية لهؤلاء المرضى. من جانبه أكد الدكتور على شمس الدين رئيس الجامعة، أن مرض الجذام من الأمراض المسكوت عنها والتى يجب أن تلقى عناية لمواجهتها، مشيرا إلى أن فترة حضانة المرض تصل إلى 5 سنوات بما يتيح إمكانية علاجه. وأضاف الدكتور صلاح عبد النبى مدير ادارة مكافحة الجذام بوزارة الصحة ان المستشفى افتتح عام 1933 بعدد 1200 سرير وحاليا فى عام 2013 يوجد 1100. وأضاف: إن المجتمع به خلفية مشوهة عن مرض الجذام ويتم الخلط بين الجذام وبين البرص، وأشار إلى وجود 644 حالة مريضة بالمستشفى تقريبا 90% منهم يتلقون علاجاً لمدة 12 شهراً و10% يتلقون علاجاً لمدة 6 شهور فقط، وقال: إن الشىء المؤثر عند انشاء المستعمرة فى علاج المرضى هو عزلهم.