تتجسد معاني الانسانية النبيلة بأدق تفاصيلها.. وتتلاقي الآمال والأحلام بين مرضي فضلوا عزل انفسهم عن العالم ولا يعرف الكثيرون عنهم شيئا.. هنا الحب الحقيقي الذي لا يعترف بشكل او دين او عرق.. في هذا المكان التقي مينا المسيحي ب"محمود" المسلم جمعهم المرض ليجسدا أجمل معاني الوحدة الوطنية بعيدا عن تعانق وقبلات العمم البيضاء والسوداء.. ومنذ 20 عاما نشأت قصة الحب التي جمعت بين قلبي "فؤاد وعديلة" المريضين بالجذام وانتهت بالزواج واثمرت عن6 ابناء. هنا داخل مستعمرة الجذام ب"أبي زعبل" في القليوبية قصص وحكايات ربما لا نجدها في الشارع وتصلح لأن تصبح عملا سينمائيا عظيما.. فالمرضي جاءوا من مختلف المحافظات منذ عشرات السنين ليستوطنوا هذا المكان ويعيشوا مع بعضهم البعض علي "الحلوة والمرة".. ولكن اكثر ما يؤلم هؤلاء نظرة المجتمع لهم حيث يهرب الناس منهم كأنهم "طاعون". لم يكن قرار الذهاب الي هناك سهلا او عاديا فكل ما يتردد عن خطورة العدوي بالمرض كلام لا يمكن إهماله او التغاضي عنه إلا ان لقاءنا بالدكتور أحمد رشاد مدير المستعمرة بعث الطمأنينة في قلوبنا حيث أكد ان مريض الجذام بمجرد ان يحصل علي جرعة واحدة من المصل المضاد للميكروب يصبح غير معد. وعن تاريخ المستعمرة قال"رشاد" تم انشاؤها عام 1933 لعلاج ورعاية وايواء مرضي الجذام وتنقسم الي ثلاث اقسام المستشفي والمزرعة وقرية للمرضي الذين يبلغ عددهم 800 مريض محجوزين بأمر القانون رقم 130 لعام 1946 الخاص بعزل مرضي الجذام خوفا علي المجتمع من العدوي وما زال القانون ساريا حتي الان لافتا الي انه عالميا بدأ التعامل مع مريض الجذام كمريض عادي لا يتم حجزه إجباريا وله الحق في الخروج والدخول وقتما يشاء خاصة بعد وجود الادوية التي حققت نتائج هائلة في علاج المرض. مرض معدٍ وعن الجذام قال مدير المستعمرة: انه مرض معدٍ يسببه ميكروب يسمي "باسيل" ويؤثر علي الاعصاب الطرفية والاغشية المخاطية في الجهاز التنفسي العلوي وتتراوح فترة حضانته من 6 شهور الي 30 سنة وينتقل المرض عن طريق "الرذاذ" او الدم ويظهر كبقع جلدية تختلف عن لون الجلد اهم مميزاتها عدم وجود احساس فيها. اضاف ان خطورة المرض تظهر بعد تناول العلاج حيث يحدث تفاعل شديد نتيجة تعاطي الادوية المخصصة للمرض ويسبب ذلك آلامًا شديدة جدا تؤذي اعصاب المريض فضلا عن التهاب الاعصاب في مختلف انحاء الجسد وتزداد خطورتها بالنسبة للعين وقد تؤدي الي فقدان البصر. في نهاية لقائنا بالدكتور "رشاد" اكد ان اكثر المشاكل التي يعاني منها المريض تكون نفسية نتيجة نبذ او خوف المجتمع منه وعلي هذا يفضل المرضي العزلة والعيش داخل المستعمرة خوفا من الناس. بين أسوار المستعمرة عشنا يوما كاملا وسط المرضي.. استمعنا لحكاياتهم عن احلامهم وطموحاتهم.. همومهم ومشاكلهم.. ورصدنا علي الطبيعة كيف يعيشون.. فإلي التفاصيل. محمد بدر اسماعيل احد المرضي من كفر الشيخ يعيش في المستعمرة منذ 25 عامًا اصيب بالمرض وهو في سن العشرين واضطر الاطباء الي بتر ساقه اليمني يقول: أذهب لزيارة أهلي كل 3 شهور الا انني افضل الاقامة في المستعمرة حيث لا اشعر بأي تفرقة هنا فكلنا مصابون بنفس المرض.. وأضاف انه عاني كثيرا من نفور الناس منه ونبذه خوفا من الاصابة بالجذام وهذه هي اصعب اللحظات التي يعيشها في حياته وكل ما يتمناه هو دراجة بخارية ليتحرك عليها. عنبر الرجال انتقلنا الي العنبر رقم 3 وهو خاص بالرجال ويحتوي علي 20 سريرا وهناك تقابلنا بعم احمد محمود.. أقدم مريض في المستعمرة فقد حضر منذ 60 عاما وهو قعيد لا يستطيع المشي.. تحدث معنا وهو يجلس علي كرسيه المتحرك وقال: انا من محافظة سوهاج وقد اصبت بالمرض وعمري 10 سنوات وعندما ذهبت للمستشفي واكتشف الاطباء اصابتي بالجذام قاموا بابلاغ الشرطة وتم ترحيلي للمستعمرة وقد مر علي مرضي كثيرون بعضهم مات بالمرض ومعظهم كتب له الشفاء منه.. أوضح عم "احمد" ان كل ما يؤلمه هو نظرة الناس والمجتمع لمرضي الجذام فهم يهربون منهم كأنهم الطاعون، مؤكدا ان المريض بمجرد حصوله علي جرعة واحدة من العلاج يصبح غير معدٍ. ومن النوبة حضر عبدالمنعم عبدون منذ 7 سنوات وقد بدت عليه السعادة وعندما سألناه قال: انه سيسافر لزيارة أهله الشهر القادم وهو مشتاق لرؤية زوجته وابنائه الاربعة. اثناء حديثنا مع عم عبدالمنعم لاحظنا احد المرضي تظهر علي وجهه علامات عدم الرضا من وجودنا فبادرناه بالسؤال عن سبب ذلك قال: اسمي عبدالرسول عبدالخالق حضرت للمستعمرة في عام 1956 وكان عمري 5سنوات وأعمل في ورشة "المقشات" ومن وقتها وانا اعيش هنا ولا احب الخروج للناس خوفا من نظراتهم التي تؤذيني.. وهناك موقف لا انساه ابدا فقد ذهبت يوما الي السجل المدني بالمطرية لأستخراج بطاقة شخصية وهناك نظرت لي الموظفة باشمئزاز وأخذت مني الاوراق بطرف القلم ولم تلمسها بيديها وعندما عدت بعد فترة لاستلام البطاقة لاحظت عدم وجود هذه الموظفة فسألت عنها الموظفين فقالوا انها مريضة منذ فترة ولم يستطع الاطباء تحديد مرضها.. أضاف "عبدالرسول" انه متزوج وزوجته مصابة بالمرض ولديه 4 ابناء غير مصابين ويعيشون في عزبة الصفيح الموجودة بجانب المستعمرة وقد قام بهدم منزله واعادة بنائه الا ان المسئولين يرفضون إدخال المياه والكهرباء للمنزل الجديد. وحدة وطنية مينا كرم من المنيا حضر الي المستعمرة منذ 5 سنوات قال: فضلت الاقامة هنا حتي لا أتسبب في اي حرج لاهلي ونحن 5 أقباط في المستعمرة ونعيش كلنا كإخوة فلا فرق بين مسلم او مسيحي الكل هنا مريض ومع ذلك فإن اعز اصدقائي محمود من المسلمين وهو اكثر من أخ وقد هوَّن علي كثيرا. اما محمود احمد من الفيوم فأوضح الي ان لديه 11 اخًا واختًا وهو الوحيد الذي اصيب بالمرض وقد حضر للمستعمرة ولا يريد العودة للمنزل فوالدته توفيت ووالده مصاب بتليف في الكبد ولذلك لا يريد ان يحمل اهله فوق طاقتهم.. اضاف ان صداقته بباقي المرضي حببته في المكان وسهلت عليه الامر كثيرا. توجهنا الي المخبز الموجود بالمستعمرة وانتاجه مخصص للمرضي واهاليهم والباقي يتم بيعه للمواطنين حيث وجدنا اطفالاً ونساء يشترون الخبز ويختلطون بالمرض دون اي خوف.. قابلنا محمد جمال صاحب المخبز من ابوزعبل قال: اعمل هنا منذ 5 سنوات وقد كنت اشعر بالخوف في البداية من العدوي بالمرض الا انني تأكدت بمرور الوقت انهم غير معدين فأصبح التعامل معهم طبيعيا.. أضاف انه يخبز 12 شيكارة يوميا وقد وعده المستشار عدلي حسين محافظ القليوبية بشيكارة اضافية خلال زيارته الاخيرة للمستعمرة. عند باب المخبز استوقفتنا سيدة ترتدي زي العاملات في المستعمرة تدعي رجاء لطفي وتعمل في قسم النظافة بالمستشفي منذ 5 سنوات وزوجها مصاب بالمرض وتم بتر ساقه ولديها منه 3 أبناء لذلك اضطرت للعمل كي توفر حاجة ابنائها وتسطيع رعاية زوجها المريض. في الطريق الي عنبر السيدات الذي يبعد مسافة كيلو واحد عن عنبر الرجال قابلنا عم السيد سالم من شبين القناطر وقد بدا مكتئبا وحزينا وما إن شاهدنا حتي بدأ في سرد حكايته وأكد انه اصيب بالمرض منذ 12 عاما ولديه 11 ولدًا وبنتًا في المراحل العمرية المختلفة وسبب حزنه هو ان احد هؤلاء الابناء مصاب بمرض خطير في الصدر ولا يستطيع الحركة لذلك فهو يطالب المسئولين بفتح كشك لابنه يعينه علي مصاريف العلاج وهذا كل ما يتمناه من الدنيا. قصة حب وفي عنبر السيدات شهدت الجدران والاسرة علي ميلاد اجمل قصة الحب بين فؤاد شلقامي وعديلة عبدالجليل المريضين بالجذام.. وقال فؤاد: انا من محافظة بني سويف وجئت للمستعمرة منذ 30 عاما ولا اعرف لي اسرة غير المرضي الموجودين هنا وقد قابلت عديلة هنا واحببتها من كل قلبي وهي نفس الشيء وقررنا الزواج ولا اخفي عليكم اننا ترددنا كثيرا في البداية خوفا من اصابة ابنائنا بالمرض الا ان الاطباء اكدوا ان المرض لا ينتقل بالوراثة.. اما عديلة فتقول انها ايضا من بني سويف وحضرت عندما كان عمرها 14 عاما وكانت متزوجة من رجل آخر ولديها منه بنتان وهو الذي احضرها للمستعمرة وتوفي وعندما قابلت فؤاد وجدته طيب وحنين علي طفلتي فاحببته وعندما عرض علي الزواج وافقت وكان ثمرة ذلك 6 ابناء بنتان منهما مخطوبتان ونريد تجهيزهما الا اننا لا نقدر علي ذلك. بناتي بالتبني بكل فخر جلست الحاجة سعاد ابوزيد 75 عاما التي عادت مؤخرا من اداء العمرة تحكي قصة تبنيها 11 بنتًا من بنات المستعمرة المصابات بالمرض فقالت: جئت من محافظة كفرالشيخ وانا في الخامسة من عمري وبمجرد وصولي طلبت احدي المريضات وقتها ان تتبناني وبالفعل هي التي ربتني حتي كبرت واكملت طريقها حيث ان حالتي ميسورة واهلي تكفلوا بكل مصروفاتي فأصبحت اتلقي البنات اللاتي يأتين للمستعمرة واربيهن حتي يكبرن وقد وفقني الله في تزويج 10 منهن وآخرهن هي ابنتي بحرية التي عقد قرانها علي احد المرضي الشهر الماضي ومن المقرر اتمام زواجهما بعد عيد الفطر. وتلتقط بحرية كمال 20 عاما اطراف الحديث حيث تؤكد ان هذه السيدة هي التي ربتني وتكفلت بكل مصاريفي حتي كبرت وقد تعرفت علي احد الشباب المرضي هنا ويدعي عبدالله عيسي من الشرقية ونشأت بيننا قصة حب وسوف نتزوج قريبا والسبب في كل ذلك بعد الله هي والدتي الحاجة سعاد التي ادين لها بالفضل. اما عصمت محمد 40 عاما فقال: الحاجة سعاد أم لنا كلنا فقد ساعدتني علي الزواج من احدي بناتها وكانت مريضة بالجذام هي الاخري وانجبت منها ولدين. 30 عاما من العزلة سعدية بسيوني من قرية بشلة بالدقهلية حضرت للمستعمرة منذ 30 عاما.. تقول ان اهلها اهملوها تماما فلا احد يزورها منذ جاءت، وقد استشري المرض في جسدها حتي اصبحت قعيدة القدمين لا تستطيع الحركة وبدأ نظرها يضيع وتطالب بإجراء عملية جراحية في عينيها.. وتقوم مريضة اخري تدعي جاز عبد العزيز بخدمتها ورعايتها والتي اكدت ان الحاجة سعدية اصبحت كل حياتها فهي امها التي لم تلدها. اصغر مريضة في المستعمرة في عنبر السيدات جلست سماح عبدالحميد اصغر مريضة بالجذام في المستعمرة علي كرسيها المتحرك بعد ان تم بتر ساقها اليمني تحكي قصتها وتقول: انا من محافظة سوهاج وقد اصبت بالمرض منذ عام تقريبا وحضرت الي هنا.. أضافت ان لديها 9 اشقاء يأتون لزيارتها كل شهر وتتمني الذهاب للمنزل لتكمل دراستها فهي في الصف السادس الابتدائي الا ان الاطباء ينتظرون التئام الجرح حتي يتمكنوا من تركيب جهاز المشي لها وبعدها تستطيع التحرك بسهولة. واكدت سماح ان الاطباء والممرضات بالمستعمرة يتعاملون معنا بكل انسانية ولا يقسون علي احد فينا مهما كانت مطالبنا. فاعل خير في طريق الخروج من المستعمرة قابلنا عبدالمجيد عبدالله لا يستطيع المشي ويأتي هو وابنه كل شهر لإحضار جرعات الانسولين التي يحصل عليها المرضي كما يتكفل بإحضار الملابس للمرضي سنويا.