كلما دُعيت لندوة أو محاضرة كان التطرف والإرهاب محورها، تتداعى إلى ذاكرتي رواية دون كيشوت أو دون كيخوتة بالإسبانية، والتي تحكي عن فارس نبيل نَهِم بقراءة كتب الفروسية، يقرر أن يحارب الشر في ربوع الأرض، فيمتلئ بالنوايا الحسنة ويمتشق سيفا عتيقا ويمتطي جوادا هزيلا متدثرا بدرع صدئ وخوذة بالية، ويتصدى لطواحين الهواء ظانا أنها أذرع شياطين فيوصف بالجنون، ويصبح كل من يجابه قضية خاسرة موسوما بدون كيشوت المحارب الواهم؛ الذي أراد أن يملأ الأرض عدلا من بعد جور وظلم، فيفشل ليصبح فارس الظل الحزين. الحقيقة كلنا دون كيشوت، فنحن مثله تماما نحمل نوايا حسنة وإمكانات مهترئة؛ بيد أننا لا نحمل حلولا؛ وعليه فلن يختلف مصيرنا عن مصيره؛ حيث كانت الهزيمة نهايته المحتمة ليعود يائسا فيُقتل بيد محبيه وسط سخط وتعاطف من حوله في آن! مازلنا - مسئولون وأفراد - نحارب طواحين الهواء، نعيش الأحلام بل الأوهام حين نقدم نظاما تعليميا غثا لا يتواءم مع مقتضيات عصره ولا زمن التحولات والتغييرات الذي نحياه، نقدم علما يعيش بعقلية أزمنة سحيقة، وفكرا جامدا غير قابل للنقاش، ونعيش وسط مناخ يسفه التطوير والفحص والتمحيص وإعمال العقل، وحياة اجتماعية بائسة يائسة فيها الإنسانية مهدورة كل لحظة. وأناس تُعتصر أكبادهم وقلوبهم كل يوم في سبيل لقمة عيش متواضعة وخدمات أقل تواضعا، وأمثالهم يسكنون المقابر أحياء وأمواتا في ذات الوقت، وأطفال شوارع أعدهم زهور ربيع منسية لكنها هرمت وذبلت قبل آوانها، وإعلام فاضح يُعلي من شأن التوافه والنماذج المتردية ويحط من شأن النوابغ والمحترمين. نستمع كل يوم لخطاب ديني يشوه العقيدة السمحاء، ويبعد الناس عن الدين فيجدون للإلحاد متنفسا وطريقا، يفتشون عن مثالب بعض الأفراد في فترات تاريخية معينة وينسبونها للدين ويصورنه على أنه فكر جامد متشدد، رغم أن القرآن دوما يوجه خطابه قائلا " أفلا يعقلون أفلا يفقهون أفلا يبصرون " فالدين دعوة لإعمال العقل؛ حتى قال العقاد - رحمه الله - التفكير فريضة إسلامية، فبالعقل نستدل على عظمة ديننا. كما نلقي بشبابنا في أتون الضياع والمخدرات والهجرات غير الشرعية والدعوة للبحث عن الملذات الجنسية؛ ثم نتوهم أننا سنجني جيلا منتميا قادرا على بناء الوطن. شبابنا الحائر يحمل في قلبه الغض فضيلة الحب والخير والجمال، يهيء له أنه قادر على نشرها وتغيير وجه الحياة، لكنه شرب من كأس مترعة بحياة بائسة اجتماعيا ودينيا وتعليميا وصحيا وإعلامي فيجد فساد عقيدته هي المحركة له، فأصبح وقودا للفتنة؛ فيوهمه عقله - الذي أفسدناه نحن بأيدينا - أن صلاح المجتمع لا يتأتى إلا بهدمه وإعادة البناء، فيُقبل تماما كدون كيشوت على قراءة كتب زمن الحضارة العربية والإسلامية وممارسات بعض الحكام الفاسدة في تقتيل بعض الفرق والمذاهب؛ ويرى أن الحل هو رفع راية الحرب والاقتتال، يتشبثون برؤية أحادية ويبتعدون عن المجتمع ويؤلفون نظاما خاصا بهم وبعقيدتهم الخاطئة فلا يقبلون نقاشا؛ إنما يصدرون أحكاما بقطع رقبة هذا وتكفير ذاك وإباحة دم هؤلاء، تماما مثل دون كيشوت حين أحب فتاة قروية لم تكن جميلة لكنه كان يردد دائما "يكفي أن أقول إنها جميلة لترونها مثلي جميلة فعلا". هكذا كلنا مخطئون.. نخلط أوهاما بأحلام بواقع غير قادر على المواكبة، واقع يحتاج مواجهة عقلانية متأنية مدروسة ذات منهج واع ينشد التغيير والتحسين، يسبر جذور المشاكل ويتحمل عبء حلها، لكننا دوما نخطئ في التشخيص وبالتالي نخطئ في العلاج، فمن يقبل أن يقتل البعض كي يعيش البعض الآخر (كما في فكر الجماعات المتطرفة) يتساوى تماما مع الأوطان التي تقتل فئة أو جماعة أو عرق معين بحجة "التطهير" كي يحيا الباقون سعداء، الكل يحارب طواحين الهواء بإصرار؛ في معركة تتبدى خسارتها بوضوح، وكلا الفريقين يُعبران عن رجعية وتحجر فكري وإصرار على الجمود والفكر الواحد، فلا يرى من الخير إلا نفسه، ولا يجد من الصواب إلا رأيه، فيغيب العقل ويسكن الخوف والإرهاب ربوع الوطن؛ وكلنا للأسف خاسرون.