دون كيشوت الطويل و حصانه الهزيل, سانشو و عقله الثخين مع حماره السمين , الكل اجتمع في السفارة الفلسطينية في بكين. الكثير منا سمع بقصة دون كيشوت و مغامراته, و من لم يسمع بهذه القصة, فهي في خلاصة سريعة , قصة كتبها الرؤائي الاسباني ميجل دي سيرفانتس في عام 1605 ميلادي , و تدور احداثها حول رجل نحيف طويل القامة , عمره ناهز الخمسين , متوسط الحال , يعيش في احدى قرى اسبانيا , كان هذا الرجل يحب القراءة كثيرا و خاصة في كتب الفروسية , حتى انقطع عما حوله و بلغ به الهوس حدا جعله يفكر في ان يعيد دور الفرسان الجوالين , و ذلك بمحاكاتهم و السير على نهجهم حين يضربون في الارض و يخرجون كي ينشروا العدل و ينصفوا الضعفاء و يدافعون عمن سلبت حقوقهم , و في احد الايام اعد دون كيشوت عدته للمهمة , فاستخرج من ركن خفي في منزله سلاحا قديما متاكلا خلفه له جده , فاصلح من امره ما استطاع , اختار لنفسه درعا و لبس خوذة و حمل رمحا و سيفا و لم يجد الا حصانا هزيلا فامتطاه و انطلق على هذه الهيئة شانه شان الفرسان السابقين الذين انقرضوا منذ اجيال , ثم تذكر و هو سائر في طريقه فرحا مزهوا , ان الفارس المرموق الجوال , لا بد له من تابع امين مخلص , فعمد الى فلاح ساذج من ابناء بلدته يدعى سانشوبانزا , فطلب منه ان يكون تابعا له و حاملا لشعاره , ووعده بان يجعله حاكما على احدى الجزر حين يفتح الله عليه , فلم يكن من سانشو الساذج الا ان صدقه , فوضع خرجه على حماره و سار خلف سيده الجديد . و اول المعارك التي سعى هذا الفارس الوهمي لخوضها كانت معركة طواحين الهواء, اذ توهم هذا الفارس المغوار !! انها شياطين ذات اذرع هائلة و انها مصدر الشر في الدنيا , فهاجمها و رشق فيها رمحه, فرفعته اذرعها في الفضاء و دارت به و رمته ارضا , فرضت عظامه . اما معركة الاغنام , فلا يكاد دون كيشوت يبصر غبار قطيع من الاغنام حتى يخيل اليه انه زحف جيش جرار , فيندفع بجواره ليخوض المعركة التي تنتهي بالهزيمة حتما !! , و لا يسلم سانشو الساذج المسكين الذي ظلم نفسه طبعا !! خلال مغامرات سيده المزعوم من الاذى, فالمشكلة ان دون كيشوت بوصفه فارسا لا يباح له الا قتال الفرسان , فاذا جاء العدوان من المدنيين , فالواجب ان يتكفل بهم سانشو , و النتيجة الحتمية لذلك ان يتحمل سانشو اللكمات و الصفعات و الضرب بالعصي و الرجم بالحصا ! تماما كما حدث عندما رفض دون كيشوت دفع اجرة مبيتهما في فندق على الطريق , اذ توهم انه بات ليلته في قلعة من قلاع الفرسان . و تاتي اهمية رواية دون كيشوت من الواقع الذي ترمز اليه , فدون كيشوت يرمزالى الانسان الواهم الذي يعيش في احلام اليقظة , و يريد ان يصبح من العظماء دون العمل الجاد و السعي الدؤوب لكي يبلغ تلك المكانة , متوهما ان الناس سوف تصدقه , و انه سيغدو من اهم العظماء في هذه الدنيا و على مر التاريخ , اما سانشو , هذا الفلاح الساذج يرمز الى الانسان الذي يطلب الفائدة الملموسة و النفع القريب , و يغيب عقله و تفكيره من اجل ذلك , و هو نموذج حي للانتهازيين و المنافقين في ايامنا الحالية . و من اهم اسباب شهرة هذه القصة و انتشارها الذي فاق الوصف هو تصويرها لواقع حقيقي للبشر كان قديما و انتشر في وقتنا الحالي بشكل هائل , حيث ان تعداد الدون كيشوتات في هذا العصر عصي على الحصر , اما امثال سانشو فحدث و لا حرج , و هذا يعد من اهم اسباب التطور و التقدم الكبير بل الهائل الذي شهدته و تشهده كافة فروع و مجالات الطب النفسي و علم الاجتماع الحديث, في محاولة من العلماء لايجاد حل و علاج لهذه الافة , و لكن و للاسف بدون نجاح يذكر لحد الان. فاصبح الكثيرون في زماننا هذا يفتون باي شيء دون ادنى درجة من العلم به , فاقوا دون كيشوت في تخيلاته و سبقوا سانشو اميالا في جشعه و طمعه و سذاجته , وصفهم احد الحكماء بانهم السبب الحقيقي وراء اختراع المنطاد, لكبر حجم رؤوسهم و فراغها من داخلها من اية ذرة دماغ تذكر, و عليه بان لهم فائدة في هذا العالم !!! اضلهم ابليس , فسبقوا ابليس في ضلاله, و في ذلك قول الشاعر : صفق ابليس لكم مندهشا و باعكم فنونه *** و قال"ما عاد لي دور هنا...دوري انا ...ستلعبونه. مجالات ادراكهم للامور ضئيلة ضحلة لم تبلغ مبلغ الكائنات البدائية , و صدق من قال : بعض النفوس من الانام بهائم***ليست جلود الناس للتمويه, كم ادمي لا يعد من الورى*** الا بشكل الجسم و التشبيه . و العجيب في زماننا هذا ,ان الكثيرين ممن يؤدون دور دون كيشوت لهم الكثير من صفات هذا الرجل الجسمانية , عدا طبعا عن شطحاته اللاعقلانية, و كذلك الامر ينطبق على اشباه و مقلدي سانشو الساذج الجشع. و لتوضيح الفكرة اكثر. ففي جمهورية الصين الشعبية و اخص بالذكر مدينة بكين العاصمة , توجد في هذه الايام نماذج لدون كيشوت و خادمه في داخل السفارة الفلسطينية و خارجها , فهم في اغلبهم افراد انتدبتهم دولتهم لرعاية شؤون مغتربيها و بعض شؤونها الخارجية , و لكن غاب عنها عرضهم على الطبيب النفسي قبل ابتعاثهم. فدون كيشوت بكين ايضا رجل نحيل جاوز الخمسين من عمره , يحلم احلام يقظة حتى غدا لا يعي الواقع, و لا يدرك ما يدور حوله , رسم لنفسه صورة الثائر و الرجل العظيم و صدقها و امن بها , يقضي حياته بين نوم في سريره و سرحان في يقظته, غائب عن وعيه في نهاره , وصل به الحال الى اعتبار نفسه مجدد عصره , يدعي بطولات فاقت بطولات دون كيشوت في الرواية , و الفرق بينه و بين دون كيشوت الرواية ان حصان دون كيشوت بكين هو من يقوده و يسيره حسب اهواء هذا الحصان-خلافا لدون كيشوت الرواية-. و حصانه في بكين في مظهره حصان هزيل طويل اعرج لا يقوى على الاستقامة في المشي و في مضمونه بغل بكل ما في الكلمة من معنى, يدعي الثقافة و هو ابعد ما يكون عنها , غبي لا يميز بين الطريق الممهد و الطريق الوعر , فيقود سيده دون كيشوت بكين الى مطبات و مهالك , و سيده مطيع له , لان حصانه يمجده و يزيد في غروره المريض , هو حصان لا لون له , همه الاكل و لو كان حراما , و النكاح و غاب عنه ان بغاء الطير اكثرها فراخا , منظره سخيف لدرجة انه اطلق عليه لقب العمود الاعرج , و لكي لا اطيل عليكم ننتقل الى سانشو , هذا الخبيث الجشع و لكن مع ذلك فمستوى تفكيره في الحقيقة لا يرقى الى التفكير الادمي البشري الانساني و لكنه مع ذلك ارقى من مستوى تفكير كل من دون كيشوت بكين و حصانه الهزيل الاعرج , فسانشو بكين هذا لا هم له في هذه الدنيا الا جمع المال و لا يهمه من اي مصدر كان , لانه ادرك بطبيعته الماكرة ان المال هو السلطان الحقيقي على حد زعمه , فالمبادئ و الاخلاق لا وزن لها اذا ما قورنت بالمال ! و لم يفقه قول امير الشعراء احمد شوقي: انما الامم الاخلاق ما بقيت*** فان هم ذهبت اخلاقهم ذهبوا , و للصدفة كذلك فطبيعته الجسمانية هي اشبه ما تكون بسانشو الرواية , و لكنه اقل سذاجة , و الفرق ان لسانشو الرواية حمار واحد فقط , اما لسانشو بكين عدد من الحمير و عدد اخر من الجحوش-جمع جحش- و كر واحد -و هذا لم يبلغ مبلغ الجحش بعد و لكنه في الطريق الى ذلك-, و هؤلاء كلهم يتصفون بالسذاجة و الهبل مع كثير من النفاق و الجشع و العياذ بالله , يركبهم من اراد و يوجههم كيفما يريد , هم باعوا حريتهم و ارادتهم , سلبهم سانشو بكين كل شيء حتى اغلى ما يملكون , و لكنهم مع ذلك سعيدون فرحون بما يقطر عليهم سانشو بكين من مال و خلافه! فالمال بالنسبة لهم الههم و ربهم و ابيهم و امهم , و صدق الشاعر حين قال : جروا على عارهم عار ,كان عرفوا***ان الدنيا بهم ...ام لهم و اب, لستم رجالا و لستم نسوة ابدا*** فما يعرفكم ثغر و لا شنب , عشتم و عاش لكم عار يجللكم*** فليس للمرء بعد العار منقلب . و في مقارنة سريعة , فدون كيشوت الرواية استخدم في مغامراته سلاحا و درعا تركها له جده و هي ملكه , اما دون كيشوت بكين فيستخدم اموالا عامة هي ليست حقا له , و في الرواية دون كيشوت هو من يقود حصانه اما في بكين فالحصان الاعرج هو من يقوده , اما سانشو بكين فهو امكر و اجشع بمرات من سانشو الرواية , و في الرواية لسانشو حمار واحد فقط اما في بكين فحمير سانشو كثيرة , و كذلك في الرواية حمار سانشو يتمتع ببعض الكرامة فيرفض في مرات عدة الرضوخ لنزوات سيده , اما في بكين فهي كائنات بلا كرامة , فهم لم يسمعوا قول الشاعر : ارى الدنيا لمن هي في يده *** غذابا كلما كثرت عليه , تهين المكرمين لها بصغر *** و تكرم كل من هانت عليه , اذا استغنيت عن شيء فدعه *** و خذ ما انت محتاج اليه . و لكن صدق القائل: لكل داء دواء يستطب به *** الا الحماقة اعيت من يداويها . و صدق كذلك من قال : لقد اسمعت لو ناديت حيا *** و لكن لا حياة لمن تنادي . و لدون كيشوت بكين اقول كما قال احدهم : و ان سفاه الشيخ لا حلم بعده *** و ان الفتى بعد السفاه يحلم , و اذكره بالقول: و ما من يد الا يد الله فوقها *** و لا ظالم الا سيبلى باظلم , و ايضا قول الشاعر : اذا قلت في شيء"نعم" فاتمه *** فان"نعم" دين على الحر واجب , و الا فقل لا و استرح و ارح بها *** لكيلا يقول الناس انك كاذب, و قيل ايضا : تواضع تكن كالنجم لاح لناظر *** على صفحات الماء و هو رفيع, و لا تكن كالدخان يعلو بنفسه *** الى طبقات الجو و هو وضيع , و ايضا : كل الامور تمر عليك و تنقضي *** الا الثناء فانه لك باق , و اعلم بان المكرمات عرائس *** و مهورهن مكارم الاخلاق , و قيل كذلك : اذا كنت في نعمة فارعها *** فان المعاصي تزيل النعم , و داوم عليها بشكر الاله *** فان الاله سريع النقم , و كذلك : يا باري القوس بريا ليس يحسنه *** لا تظلم القوس اعط القوس باريها . اما سانشو بكين هذا و اتباعه فانصحهم كما قال حكيم : ارى العيش كنزا ناقصا كل ليلة *** و ما تنقص الايام و الدهر ينفذ, و ايضا : ان كنت دهرك كله تحوي اليك و تجمع *** فمتى بما حصلته و حويته تتمتع , و قول احدهم كذلك : هي الدنيا تقول بملء فيها *** حذاري حذاري من بطشي و فتكي, فلا يغرنك مني ابتسام *** فقولي مضحك و الفعل مبكي , و اذكره بقول علي بن ابي طالب كرم الله وجهه: دع الحرص على الدنيا *** و في العيش لا تطمع , و لا تجمع من المال *** فلا تدري لمن تجمع , فان الرزق مقسوم *** و سوء الظن لا ينفع , فقير كل ذي حرص *** غني كل من يقنع , و قول الشاعر : قد يعشق المرء من لا مال في يده *** و يكره القلب من في كفه الذهب, حقيقة لو وعاها الجاهلون لما *** تنافسوا في معانيها و لا احتربوا, ما قيمة الناس الا في مبادئهم *** لا المال يبقى و لا الالقاب و الرتب , و اذكره بقول احدهم : رايت الذنوب تميت القلوب *** و قد يورث الذل ادمانها , و ترك الذنوب حياة القلوب *** و خير لنفسك عصيانها , و في النهاية اقول له : لو كنت تعلم ما اقول عذرتني*** او كنت تعلم ما تقول عذلتكا , لكن جهلت مقالتي فعذلتني *** و علمت انك جاهل فعذلتكا . اما حصان دون كيشوت الاعرج الهزيل , فاقول له لا احد يطمع في موقعك , و كما قال الشاعر : اذا وقع الذباب على طعام *** رفعت يدي و نفسي تشتهيه, و تجتنب الاسود ورود ماء *** اذا كن الكلاب ولغن فيه , و اذكرك بقول احدهم : قبح الله وجها انت حامله *** و دوست باقدام الخنازير ملامحه, و صدق من قال : بعض النفوس من الانام بهائم *** ليست جلود الناس للتمويه , كم ادمي لا يعد من الورى *** الا بشكل الجسم و التشبيه , و الشاعر قال: غراب ما بال قلبك ليس ينقى***كانك لا تظن الموت حقا , الا يا ابن الذين فنوا و بادوا***اما و الله ما ذهبوا لتبقى, و في الختام اقول لهذه العصابة الدون كيشوتيه ما قاله الشاعر : و سوف اجعل منكم في الورى مثلا***و عبرة تتلاقى حولها العرب, حالوا على دنس الاوكار فانتسبوا***و خالعوا الشرف المؤود فاضطربوا , و ليس عيب من عيب اذا اتشحت***صدورهم بوشاح الهون فاضطربوا , جافوا الفضائل فانهارت رجولتهم***حتى غدو خنثا في وجوههم صهب , ديوك المزابل من القاكم في سفري***منفوشوا الريش يعلو وجهكم الطرب , يا احقر الناس اني قد فتحت لكم***باب الجحيم فما تطفئ القرب , تعسا لكم اي تاريخ سيذكركم***و انكم وسخ تخزى به الكتب . و اختم بنصيحة للمغتربين في الصين ذكرها حكيم حين قال : لا تسالن بني ادم حاجة *** و سل الذي ابوابه لا تحجب , الله يغضب ان تركت سؤاله *** و ابن ادم ان سالته يغضب . د. محمود عريقات . [email protected]