مراد وهبة مفكر وفيلسوف مصري، درس الفلسفة وأحبها، صاحب فكر مستنير أثرى به وجدان المجتمع، حورب كثيرا واتهم بالكقر تارة وبالزندقة تارة أخرى، هو أستاذ الفلسفة في جامعة عين شمس وعضو في مجموعة من الأكاديميات والمنظمات الدولية المرموقة، كما أنه المؤسس ورئيس الجمعية الدولية لابن رشد والتنوير، فكان ل"فيتو" هذا الحوار معه ليثري قراءها بتجربته ويقدم خلاصة تجربته للنشء والشباب. كيف بدأت معالم المفكر تتشكل بك في سنوات عمرك الأولى؟ كنت اجتمع يوم الجمعة من كل أسبوع مع أفراد أسرتي بمن فيهم والدي ووالدتي وأشقائي وجدي، نتناقش بصورة دورية متبعين المدرسة الوجودية، في أحوال ومشاكل البلاد الاجتماعية والثقافية والسياسية، ونحاول قدر الإمكان أن نعمل العقل في محاولة إيجاد حلول جذرية لها، وقد كنت بطبعي أميل إلى الإنصات أكثر من التحدث وهو ما كان له بالغ الأثر فيما بعد في نشأتي الفكرية وتكوين شخصيتي المبنية على التفكير العميق وتناول الموضوع من كل جوانبه لكي أستطيع الحكم عليه بشكل صحيح. حدثنا عن طفولتك وصباك؟ وهل كانت لك نشاطات اجتماعية أو ثقافية في شبابك؟ كنت في شبابي عضوا في قسم الصبيان بجمعية "الشبان المسيحيين"، حيث كان يعقوب فام هو المشرف على هذا القسم، وهو مفكر ليبرالي معروف حصل على درجة الماجستير في التربية بجامعة ييل الأمريكية، وكان له دور كبير في تشكيل وجداني. وتميزت جمعية "الشبان المسيحيين" عن نظيرتها جمعية "الشبان المسلمين" في أنها كانت تسمح للشباب المصري المسلم بالالتحاق بها والتعلم داخل أسوارها، بعكس الأخرى والتي ينص ميثاقها التأسيسي على حصر الالتحاق بها على من يدين بالإسلام فقط، وتكون قسم الصبيان بالجمعية من 5 أندية كل ناد يتألف من 35 عضوًا يسمون الأسماء الفرعونية بشرط أن يكون سن العضو بين 8 و16 عاما، وكان ينتخب لكل نادٍ رئيس وسكرتير وأمين صندوق، كما كان يوجد ما يشبه مجلس الوزراء وبرلمان ونائب عام وعمدة. وأذكر واقعة طريفة حدثت لي في أكتوبر 1942، عندما كنت عمدة لناد بقسم الصبيان ولم أكن تجاوزت ال16 من عمرى، وكان من طقوس الجمعية تنظيم حفل يسمى "وليمة الولد والوالد" وهو عبارة عن احتفال بالأعضاء، ويحضر فيه كل عضو بالجمعية بصحبة والده ويتك توجيه الدعوة إلى شخصية عامة أو أحد كبار رجال الدولة ليكون ضيف شرف الحفل، وحينها في ذلك الحفل كان الضيف هو شفيق بك غربال المؤرخ الشهير، وكان من سلطات العمدة في النادي أن يدير الاجتماعات أو المناسبات كتلك المناسبة، ولا يسمح لأى من الحضور بالتحدث أو إعطائه الكلمة إلا بموافقة العمدة، وهو ما حدث بالفعل ولم يتكلم شفيق غربال إلا حين أعطيته الإذن، وهو ما عزز لدى شعور عدم الرهبة من السلطة أيا كانت في تلك السن الصغيرة. ماذا عن مراد وهبة الطالب؟ هل كنت طالبا مثاليا؟ على الرغم من كوني في ذلك الوقت عمدة لنادٍ بجمعية "الشبان المسيحيين" وما يمثله ذلك من ثقة الأعضاء في شخصي وتحملى المسئولية، فإنني دائما ما كنت متمردا وناقما على أنظمة التعليم البالية في تلك الفترة وساخرا منها، وذلك يرجع إلى أن الروح الليبرالية تملك الجرأة في التساؤل والتعبير عن الرأى دون الخوف من تبعات ذلك، مما أدى لفصلى من المدرسة عدة مرات في المرحلة الثانوية. هل تذكر أحد المواقف التي تعرضت فيها للفصل من المدرسة؟ أتذكر مواقف عدة تسببت في فصلي، إلا أن أكثر ما يعلق في ذهني تلك الواقعة عندما كنت في السنة الرابعة من الثانوية وكانت تسمى في ذلك الوقت "الثقافة"، وفي إحدى حصص اللغة الفرنسية سخرت من المدرس وانتقدته نقدا لاذعا، فاشتكى مني للمشرف المسئول وحين أتى بي وسألني عن سبب فعلتي، ظللت أدافع عن نفسي وأجادله في الحوار ما يزيد على ال8 دقائق، فنظر إلى مندهشا وقال لى معتليا وجهة نظرة مليئة بالإعجاب: "من أين تعلمت هذا المنطق في الحوار؟ بسبب هذا المنطق لا عقاب لك"، وكانت هذه بداية تساؤلاتي الداخلية، لماذا أطرى على هذا الإطراء؟ أيضا هناك موقف غاية في الغرابة كان له فضلا كبيرا فيما أصبحت عليه الآن، فبعد أن أتممت السنة الرابعة من الثانوية، كان لزامًا على الاختيار بين القسمين العلمي أو الأدبي في السنة الخامسة وكانت تسمى حينها "التوجيهية" ونصحني الناظر وقتها بالالتحاق بالقسم الأدبي بالرغم من ضعف درجاتي، وميلي الشخصي للالتحاق بالعلمي، ولكنه أقنعني بحضور حصة لمادة الفلسفة عله ينجح في إقناعي، فظللت صامتا طوال الحصة وحتى نهايتها إلى أن فوجئت بالمدرس يقول لى فجأة: "ستصبح فيلسوفا عظيما ذات يوم"، وهو ما أصابني بالدهشة والصدمة في نفس الوقت، هذا المدرس لم يكن سوى الدكتور أحمد فؤاد الأهواني الفيلسوف الشهير، الذي أصبح فيما بعد أستاذ الفلسفة الإسلامية بكلية الآداب جامعة القاهرة، وبعدها التحقت بالقسم العلمي كما رغبت. هل مررت بلحظات انكسار كادت أن تفقدك الأمل يوما ما؟ دائما كنت أتحلى بالأمل وما زلت رغم أصعب المواقف وأحلك الظروف التي مرت على، وأذكر أنه في إحدى المرات تم فصلي من ناظر المدرسة لتهكمي على مدرس اللغة العربية، وعاقبني الناظر بأن آتى إلى المدرسة يوميا من الثامنة صباحا وحتى الثالثة عصرا دون الدخول إلى الفصل، فلم أصب بالإحباط وقررت استغلال هذا الوقت في العلم والمعرفة وأمضيته في قراءة كتب فلسفية باللغة العربية لمدة شهر كامل بمكتبة مدرسة التوفيقية الثانوية بشبرا. وعندما اقترب ميعاد الامتحانات، انتابني القلق وخطرت بذهني فكرة الاستعانة بيعقوب فام والذي كان يملك علاقات جيدة مع ناظرى المدارس ووزير التربية والتعليم شخصيا، فما كان من الناظر إلا أن عفا عني تقديرًا ليعقوب بك. ماذا عن الجامعة.. كيف درست الفلسفة رغم حبك المواد العلمية؟ عقب إنهائي دراستي الثانوية بمجموع 54 %، وجدت أنني لا أستطيع الالتحاق بكليات الطب والعلوم فقد كان يفصلني عنها درجات ضئيلة، وكان نظام التعليم حينها يسمح للطالب بأن يعيد السنة الأخيرة "التوجيهية" إذا ما رغب في تحسين مجموعه، وبعد أن اتخذت ذلك القرار الصعب، لعبت الصدفة دورا محوريا في حياتي، حيث كان شقيقي في ذلك الوقت طالبا في كلية الآداب وزعيما لطلبتها ومنتميا لحزب الوفد، وبحكم علاقاته الوطيدة في الكلية توسط لي لدى الدكتور حسن إبراهيم أستاذ التاريخ الإسلامي والذي كان عميدا للكلية وقتها ووفدي أيضا، حيث كانت الكلية تقبل طلاب العلمي بشرط حصولهم على درجات معينة في اللغات، والتي لم اكن أيضا نجحت في الحصول عليها، ولكن قال إبراهيم لشقيقي آنذاك: نقبله استثناء، فدخلت الكلية واخترت قسم الفلسفة وأذكر حينها سؤال رئيس القسم لي لماذا اخترت هذا القسم بالذات، فأجبته وكلمات الدكتور الأهواني تمر بمخيلتي: أريد أن أعرف ما هي الفلسفة. وفي بداية دراستي، عملت على إتقان اللغات لمعرفتي بضرورة ذلك لكي اتمكن من إتمام رسالة الماجستير والدكتوراه إذا رغبت في ذلك، فكنت أخصص 13 ساعة يوميًا للقراءة باللغات الثلاث العربية والإنجليزية والفرنسية، حتى أتقنتهم إتقانا تاما بدخولي السنة الثانية في الجامعة. ما هو أبرز موقف صادفته في دراستك الجامعية؟ في السنة الثانية، طلب الدكتور عبد الرحمن بدوي -وكان أستاذا لي في الكلية- بحثا عن المنطق، فقمت بإعداده في 30 صفحة واستعنت في إتمامه ب35 مرجع، وبعد شهر من تسليم الطلاب الأبحاث دخل علينا الدكتور بدوي وقال: أين مراد وهبة؟؟ فأجبته والقلق يساورني، فرد على: أعطيتك 18 من 20 درجة وكتبت عنك 10 أسطر موجزها أن صاحب هذا البحث له مستقبل وشأن عظيم في عالم التأليف، فملأني السرور وتشجعت أكثر على المواصلة في هذا المجال وحينها أيقنت أنني خلقت لأبدع وأفكر. ثورة 25 يناير..كيف تراها؟ وهل نجحت في تحقيق أهدافها؟ 25 يناير عبارة عن ثورة تجاوزت حدود الأحزاب والدولة، بمعنى أنه حدث فاق تصورات الكيانات القائمة من سلطة حاكمة أو نخبة سياسية، فهي ثورة إلكترونية لشباب رافض للوضع القائم بمساوئه الكثيرة، فالنظام وقتها محا تطلعات الشباب وأحلامهم بفساد مستفحل بجميع أجهزة الدولة، فأصبح بلا وظيفة أو زواج أو مسكن. كما أرى أن ثورة 25 يناير لم تنجح في تحقيق أهدافها التي نادت بها، وذلك لغياب القيادات الفكرية التي كان يجب أن تتصدر المشهد وتقود الجماهير العريضة لضمان تحقيق تطلعاتهم، فالثورة بالنسبة لي هي أيام 25 و26 و27 يناير فقط، لأن بحلول عصر 28 يناير انقض الإخوان على المشهد وتصدروه من قلب ميدان التحرير بعد خروجهم من السجون فضاعت الثورة. وهل ترى في 30 يونيو تصحيحا لمسار 25 يناير وإنقاذا لها؟ لا، فلم يتغير شيء أيضا في 30 يونيو عن 25 يناير، الفرق الوحيد أن المواطنين استشعروا فشل الإخوان وخطرهم على البلاد، فخرجوا بحثا عن المنقذ الذي سيخلصهم من هذا الكابوس، ودون قيادة فكرية أيضا، وهنا ألوم على النخبة ممثلة في التيار العلماني لخوفهم من تصدر المشهد وقت أن سنحت لهم الفرصة، وذلك بسبب تكفير الإخوان والتيار الأصولي بشكل عام للعلمانيين مما أدى لهروبهم، فمشكلة الدولة حتى يومنا هذا تكمن في سيطرة التيار الأصولي وإقصائه وتكفيره "التيار العلماني". أخيرا..ما هي النصائح التي توجهها للشباب ولجيل صنع ثورتين؟ من وجهة نظرى، أنا أؤمن بمقولة كنت دائما أرددها: "العبقرية عبارة عن المثابرة على تحقيق الهدف مع حسن استثمار الوقت"، وهي تلخص ما أنصح به الشاب المصري، وهو تحديد هدفه وإطلاق العنان له ليبلغ عنان السماء دون قيد أو كبت، فالإبداع لا بد له من تربة خصبة لكي يرى النور، ومن ثم المثابرة على تحقيقه واستثمار الوقت لإنجاحه، وأوجه نصحي للشباب بإعمال عقولهم في التفكير واتخاذ ذلك منهجًا لهم في حياتهم وعملهم، فهذا أساس علم الفلسفة.