عاطف العراقي..لايحب الحقائق التامة التكوين, ومرد ذلك رغبته في ترك باب الحركة والتحرر مفتوحا, لأن الحقائق التامة التكوين, كما يقول, تغلق باب التفكير وتوقف السير في طريق التحرر والتنوير. فكما لايستطيع العقل أن يتصور للمكان والزمان نهاية, كذلك لا يستطيع أن يتصور( للكمال) حدودا, بل الكمال الحق هو الحرية. وفي هذا الحوار جانب مهم وخفي من هذه الجوانب التي مر بها خلال مشواره, خاصة خلال مرحلة الطفولة والشباب التي شكلت وجدانه وعقله ورؤيته لنفسه وللآخرين. * قلت له بداية أود لو أعطيتنا نبذة عن مرحلة الطفولة والصبا كيف كانت, وهل مازال تأثيرها عليك إلي اليوم أم لا؟ ** ولدت في قرية كفر الدبوسي بجوار مدينة شربين بالدقهلية, وكانت العائلة تقيم في دمنهور, لأن والدي خريج كلية دار العلوم وكان يعمل مدرسا للتعليم الابتدائي بين دمنهور وأبو حمص, وكانت العادة المتبعة في ذلك الوقت أن الأم حينما تقترب من الولادة ترسل إلي بيت أسرتها لكي تنال رعاية أفضل( كما حدث مع الشيخ محمد عبده). وأضاف دخلت المرحلة الابتدائية مدرسة رأس التين بالإسكندرية وأكملتها في مدرسة المنصورة الابتدائية, ثم أخذت المرحلة الثانوية( التوجيهية آنذاك) خمس سنوات بمدرسة دمياط الثانوية. ونظرا لأن والدي كان يعمل بالمدرسة الخاصة بوزارة المعارف العمومية, فكان يحضر لي من المكتبة بعض القصص والروايات والكتب التاريخية بحيث أقوم بقراءتها بجوار استذكار الدروس المقررة, وحدث أن حصلت علي الدرجة الكاملة في الفلسفة40 من40 بمدرسة دمياط الثانوية, وكنت الطالب الوحيد الذي حصل علي هذه الدرجة بمصر يومها وكان ناظر المدرسة أشهر من أي رئيس جامعة حاليا! المهم كان والدي يميل إلي إدخالي قسم اللغة الفرنسية, لأنه كان متأثرا بالترجمة العربية علي الأفلام الأجنبية. غير أنني كنت أميل إلي مادة التاريخ إذ قرأت تاريخ الرافعي كله قبل أن أحصل علي الشهادة التوجيهية, ولم يكن أيامنا مايسمي بمكاتب التنسيق, فسافرت من دمياط إلي القاهرة, وقدمت طلب الالتحاق إلي قسم التاريخ, ولكن المصادفات تلعب دورا رئيسيا في حياة الإنسان, إذ قمت بالسير من الجامعة إلي الدقي كحب استطلاع, لأنها كانت المرة الأولي التي أنزل فيها للقاهرة فقابلت مصادفة أستاذي بالمرحلة الثانوية بدمياط في مادة الفلسفة وأسمه أحمد أبو طالب, وقلت له لقد قدمت أوراقي لقسم التاريخ,فنصحني بأن أتقدم إلي قسم الفلسفة,وقال لي: مستقبلك سيكون فيه, فذهبت مرة أخري, في نفس اليوم إلي كلية الآداب جامعة القاهرة, وعدلت رغبتي إلي قسم الفلسفة. * وما الذي بقي في الذاكرة من سنوات شبابك في الجامعة؟ ** ببداية دخولي الجامعة كانت الفرصة متاحة لي ولزملائي, نظرا لقلة عدد الذين دخلوا قسم الفلسفة, وكانت متاحة للاستفادة من أساتذة كبار لأننا في السنة الأولي كنا طلبة قسمي فلسفة واجتماع نحو150 طالبا, منهم محمد صالح وفايزة واصف, فدخلت قسم الفلسفة وكان عددنا حوالي30 طالبا منهم: الكاتب الكبير مكرم محمد أحمد نقيب الصحفيين وزوجته الراحلة السيدة صديقة..كانت الفرصة متاحة بمعني مقابلة الأساتذة الكبار الذين كانوا يدرسون لنا, مقابلتهم خارج قاعات الدرس, منهم زكي نجيب محمود وعثمان أمين ومصطفي حلمي وزكريا ابراهيم وفتحي الشنيطي, وكانت الفرصة متاحة لنا لأننا كنا حريصين علي مقابلتهم إما بالنادي بكلية الآداب أو بمنازلهم أو أثناء الرحلات الجامعية. وأذكر هنا أيضا, أستاذي في مرحلتي الماجستير والدكتواره, والذي أشرف علي الرسالتين وهو الدكتور أحمد فؤاد الأهواني, الذي ألف أعظم كتاب في الفلسفة اليونانية بعنوان( فجر الفلسفة اليونانية), قامت بطباعته هيئة الكتاب المصرية منذ شهرين. وقد استفدت منه استفادة هائلة, ويشاء القدر أن يموت الرجل في الحادي عشر من شهر مارس عام1970 بالجزائر, وأكون أنا في نفس الوقت موجودا للتدريس بجامعة قسنطينة بالجزائر. هذه هي مكونات أولي في حياتي العلمية والإنسانية غير أن هناك مكونا آخر اعتبره غاية في الأهمية ألا وهو حضوري ندوات عباس العقاد بمصر الجديدة, التي كان يعقدها في العاشرة صباح كل يوم جمعة, وكم كنت مبهورا بآرائه, وشجاعته, خاصة أنه تم تعييني في أسوان, وكان العقاد يذهب إلي أسوان في اليوم الأول من يناير من كل عام وحتي آخره..وهناك كان يعقد ندوتين الأولي يوم الاثنين, والثانية يوم الخميس, وكان العقاد شجاعا في الرأي, كما أن نبوءته بفشل الوحدة بين مصر وسوريا, وأنها لابد أن تنتهي, كانت سليمة تماما..وكان يحضر ندوة العقاد العديد من المثقفين منهم: زكي نجيب محمود, وعامر العقاد, ومحمد خليفة التونسي وطاهر الجبلاوي وأنيس منصور. وأضاف: كانت إجابات العقاد عن الأسئلة التي كنا نطرحها عليه..إجابات غاية في الشجاعة والطرافة فعلي سبيل المثال: كان العقاد يذكر أن لديه في مكتبته أكثر من مائتي كتاب في علم الحشرات, ولما كنا نسأله ومافائدة هذه الكتب بالنسبة لك, كان رحمه الله يقول: إن دراستها أفادتني في فهم سلوك الحشرات الأدبية..وأظن انه كان يعني بذلك كلا من إحسان عبد القدوس والسباعي! * إذن كانت ندوة العقاد احدي المكونات الرئيسية لعقلك ونظرتك في الحياة؟ ** لاشك في ذلك فقد ساهمت ندوة العقاد في تشكيلي كما أنها جاءت مواكبة لصلة الصداقة والأستاذية التي ربطتني بالمفكر الراحل زكي نجيب محمود مفصحا عن أن أكثر آراء نجيب التي كتبتها في الكتاب التذكاري عنه الذي أشرف العراقي عليه كانت هي الإجابات والموضوعات التي دارت بيننا في اللقاءات المنزلية التي جمعتنا في بيته....ولأنني كنت ملازما له, وكان دائم التشجيع لي, وأذكر أنه في لقاء صحفي أجرته الصحفية وفاء الشيشيني بمجلة أكتوبر, ان سألته عن امتداده في الفكر العربي فقال بنص العبارة: انه واحد فقط, وما يقوم به يذكرني بما كنت أقوم به في شبابي.. وهو عاطف العراقي. * وبم كان ينصحك؟ ** نصحني بأن يكون خط سيري في الحياة, في خطين متوازيين الأول عملي بالجامعة, حيث التدريس الاكاديمي, والثاني عملي بالثقافة العامة وقضاياها. * تقول إن هناك امورا حدثت لك لم تجد لها تفسيرا منطقيا, مع انك رجل لا يقبل الخرافة في التفكير تري كيف ولماذا؟ ** هناك أمور يعجز الإنسان عن تفسيرها, فقد ولدت في15 نوفمبر1935 ومن المصادفات الغريبة التي لا استطيع تفسيرها حتي الآن, تفسيرا علميا, هو أثر العدد5 علي حياتي كلها! فبالإضافة إلي تاريخ المولد, كانت رسالة الماجستير عام1965, والدكتوراه في1970, وتقديمي لمحكمة الجنايات بالمنصورة في15 مايو1995, ثم حصلت علي جائزة الدولة التشجيعية عام1980, وجائزة الدولة للتفوق عام2000 وكنت أول استاذ جامعي يحصل عليها فور انشائها, ثم علي جائزة جامعة القاهرة التقديرية عام2005, وجائزة الدولة التقديرية عام2010. كما أذكر ان منهجي في الحياة قد تغير جذريا بسبب محاضرات زكي نجيب محمود, فقد كنت في الصغر مؤمنا بوجود الاشباح والعفاريت, طبقا لما كان شائعا من معتقدات داخل القرية, اذ كنا نخاف من السير وسط المقابر لاعتقادنا بوجود اشباح وعفاريت بها, فجاء زكي نجيب من امريكا وبدأ في التدريس لنا دروس المنطق والتفكير العلمي, فأخرجت محاضراته من عقلي تماما, الإيمان بوجود هذه الكائنات الخرافية. لست عدوا للمرآة! * قلت له: أنت من أشهر العزاب في الأوساط الجامعية, فهل نقول انك عدولها ام ان هناك قصة مجهولة لا يعرفها احد؟ ** لا لست عدوا للمرأة, ولكن احيانا, الظروف هي التي تشكل حياة الإنسان, وما مررت به من بعض قصص الحب, قدر لها ألا تنتهي النهاية السعيدة بالزواج, منها قصة مع بنت كانت جارة لي في دمياط ايام المرحلة الثانوية, واخري مع طالبة جامعية ولم تنته بالزواج ايضا, فقد كان سنها18 عاما, وانا في الثلاثين من عمري! وكان الفارق في السن يعتبر فرقا كبيرا جدا في ذلك العصر. *علي هذا النحو هل تري ان الزواج ربما يعطل الإبداع خصوصا بالنسبة للمشتغلين بالفلسفة؟ ** لا أدري, هل إذا كنت قد تزوجت, هل كنت سأقدم للمكتبة العربية والحياة الثقافية, هذا الكم من الكتب(40 كتابا) ام ان الزواج, وخاصة الزواج علي تقاليدنا الشرقية يفرض علي المشتغل بالفكر, مشاغل كثيرة, معظمها يؤخر ولا يقدم؟ وأضاف: ويل لأستاذ الفلسفة اذا تزوج في سن مبكرة, فلا خطر منه علي المشتغل بالفلسفة. إذا كان قد كون الخيوط الأولي لتفكيره قبل الزواج, مشيرا إلي أن كل اساتذة الفلسفة هكذا وبالتالي فلست الوحيد بينهم! وقال انا افضل الزوجة الصديقة, والزوجة الصديقة بهذا المعني تتوافر في بلدان اوروبا. وليست في بلدان عربية, مثل زوجة الأديب يحيي حقي فقد كنت أراهما مثل صديقين لا زوجين ومن أراد لنفسه طريق الإبداع الفلسفي, فلابد ان يرتضي لها طريق العزوبية, ومضي قائلا: أنا اري ان الزواج خطر علي الفلسفة! * نعود إلي الأسرة ولدت في أسرة كبيرة العدد, هل تصف لنا كيف تعيش ايامك وحيدا؟ ** والدتي انجبت أكثر من عشرة من البنين والبنات, وشاء القدر ان يدرك الموت كل هؤلاء ما عدا انا وشقيقي الوحيد علي قيد الحياة, وبطبيعة الحال, أقول لك بصراحة ان الوحدة مؤلمة, وقد تعرضت لمواقف بسببها, رأيت فيها الموت بعيني, ولكن عزائي في شيئين هما: مكتبتي وكتبي, وحينما انظر للمكتبة اجد نوعا من الراحة النفسية.