ساءت علاقتى بسائقى التاكسيات فى الأيام الأخيرة. كلما ركبت مع أحدهم بعد الاعتصام الأخير (الموجة الثانية للثورة)، أضطر للدخول معه فى مناقشة تبدأ بسؤال من جهته(إيه آخرتها أو هما عايزين إيه، ولا تنتهى إلا بنزولى من التاكسي)، إذا تحملت حالتى العصبية والنفسية الاستمرار فى المناقشة، لأننى أحيانا أفقد السيطرة على نفسى، وأنهى الحوار نهاية تعسفية بجزء من قصيدة تميم البرغوتى (اللى اسمه غريب وشكله غريب ولكنته غريبة!) قائلة: يا عسكرى أنا أصلى بس بستغرب لو لاقى تاكل وتشرب قوم يا عم اضرب. فيعتقد السائق أننى سأضربه لو لم يسكت فيسكت. اكتشفت أخيرا أن أغلب سائقى التاكسى يستمعون إلى الإذاعة، خصوصًا إذاعات «الإف إم». ويتلقون الأخبار والتعليق عليها من راديو مصر، التابع لقطاع الأخبار، الذى لم تصله الثورة حتى الآن. يحفظون ما يسمعونه من الإذاعة ويرددونه على أسماع الركاب. على أى حال، فى المرات التى استطعت فيها من خلال الحوار أن أنجح فى أن أجعل السائق يعيد التفكير فيما يسمعه من الإذاعة، أنزل من التاكسى راضية عن نفسى، أما عندما يصيبنى الزهق وأضطر للسكوت حتى نهاية المشوار أنزل بمشاعر عكسية تماما. قد تسألنى سؤالا منطقيا: لماذا تخليت عن صمتى القديم الذى كنت متمرسة فيه، لدرجة إخراس أى سائق مهما كانت درجة غلاسته أو جاذبيته. والإجابة أننى كنت جزءا من النظام وتغيرت. هذا ليس إفيه، فأنا بالفعل تغيرت، وأعتبر أن تغيرى وتغير كثيرين مثلى أحد إنجازات الثورة. آخر الحوارات كان أمس، وقد اعتبرته مكافأة من الله على صبرى الجميل طوال الأيام العشرة الأخيرة. قال سائق التاكسى، الذى عرفت فيما بعد أن اسمه عبد الحكيم جودة وأنه يعمل مساعد مهندس، قال تعليقا على عنوان على غلاف مجلة روزاليوسف التى أحملها فى يدي: «السويس حالفة ما تعيش غير حرة». (احنا هنفضل مديونين للسوايسة دول طول العمر. ألجمتنى المفاجأة ولم أرد وكنا قد دخلنا فى منطقة مزدحمة بالسيارات المقبلة من كل الجهات الممنوعة والمسموحة، وتوقف المرور تماما وبدأت الأصوات تتعالى من السيارات، كل يتهم الآخر بأنه سبب الأزمة. ففاجأنى عبد الحكيم بالمفاجأة الثانية، وهى أنه بدأ يهدئ من روع السائقين قائلا: (ماهى لازم هتمشي، مهما وقفت لازم هتمشي) ثم موجها الكلام لى وللزبونة الجالسة فى الخلف (مادام مافيش حد يتأمر ويتمنظر علينا إحنا نستحمل بعض ونصبر على بعض. فقلت له: يعنى إنت مش زعلان إن التحرير مقفول. قال: (إزاى أزعل أنا بافهم..التحرير مقفول عشان مصلحتى ومصلحتك.. أنا قعدت فى التحرير ده 18 يوما خرجت منه مرة واحدة أشترى أكل من شارع البستان كنت هاموت، رجعت بمعجزة حلفت مانا خارج تانى إن شالله أموت م الجوع إلا لما يرحل. قلت له: (طيب ما هو رحل. قال: (أيوه رحل بس الباقيين كتير. (دول حتى مش عايزين يحاكموه إنتى مصدقة إنه مريض، دول بيعملوا أفلام عشان يسكتونا. قلت له: (إنت يهمك أوى إنه يتحاكم. قال: (كلهم يتحاكموا وإلا ربنا مش هيبارك لنا أبدا.. لو ما اتحاكموش وسكتنا يبقى ما صناش النعمة وربنا ينتقم مننا.. ضحك عاليا وهو يقول للسائق المجاور: ( ياللا ياسيدى اطلع، أهى فتحت، ما هى لازم تفتح. ثم موجها الكلام لي:( والله يا أستاذة بتفتح ببركة التحرير. نسيت أن أقول لكم إن سيارة عبد الحكيم ليس بها راديو من الأصل.