حدث في 8 ساعات| توجيه رئاسي بتطوير شركات الأعمال.. وهذه عقوبات ذبح الأضاحي خارج المجازر    تباين البورصات الخليجية وسط غموض بشأن الرسوم الجمركية    أرامكو السعودية تنهي إصدار سندات دولية ب 5 مليارات دولار    الرئيس السيسي ونظيره الفرنسي يبحثان تعزيز التعاون بالمجالات محل الاهتمام المشترك    "مطروح للنقاش" يسلط الضوء على قرارات ترامب بزيادة الرسوم الجمركية على واردات الصلب والألومنيوم    جوعى غزة في بئر ويتكوف    «تدخلاته حاسمة دائما».. العين الإماراتي يعلن عن صفقة رامي ربيعة    الداخلية تكشف ملابسات فيديو اعتداء شخصين على طفلة وسحلها بدمياط    جائزتان لفيلم «يونان» وأربع جوائز لأفلام عربية في مهرجان روتردام للفيلم العربي (تفاصيل)    خالد الجندي: الحج المرفّه والاستمتاع بنعم الله ليس فيه عيب أو خطأ    ضربات الشمس في الحج.. الأسباب والأعراض والإسعاف السريع    رئيس الوزراء الفلسطيني يدعو لوكسمبورج للاعتراف بدولة فلسطين قبيل مؤتمر السلام في نيويورك    تعرف على محطات الأتوبيس الترددي وأسعار التذاكر وطريقة الحجز    الثلاثي الذهبي للكاراتيه ينتزع جائزة «جراند وينر» من الاتحاد الدولي    لامين يامال: اللعب لريال مدريد مستحيل.. وإذا خيرت سأحتفظ بالكرة الذهبية لنفسي    ديلي ميل: إلغاء مقابلة بين لينيكر ومحمد صلاح خوفا من الحديث عن غزة    رئيس جامعة المنوفية يرأس اللجنة العليا لتكنولوجيا المعلومات والتحول الرقمي    مياه الفيوم تطلق حملات توعية للجزارين والمواطنين بمناسبة عيد الأضحى المبارك    شرح توضيحي للتسجيل والتقديم في رياض الأطفال عبر تعليم القاهرة للعام الدراسي الجديد.. فيديو    رئيس جهاز العاشر من رمضان يتدخل لنقل سائق مصاب في حريق بمحطة وقود إلى مستشفي أهل مصر للحروق    محافظ سوهاج يتفقد المدرسة المصرية اليابانية ويفتتح حديقة الزهور بجهينة    "استعدادًا إلى الحج".. أحمد سعد ينشر صورًا من داخل المسجد النبوي    أهم أخبار الإمارات اليوم.. محمد بن زايد يهنئ نافروتسكي بفوزه بالانتخابات الرئاسية البولندية    هل يجوز للمرأة ذبح أضحيتها بنفسها؟.. عضو بمركز الأزهر تجيب    في رحاب الحرم.. أركان ومناسك الحج من الإحرام إلى الوداع    الافتاء توضح فضل قيام الليل فى العشر الأوائل من ذي الحج    واشنطن بوست: فوز ناوروكي برئاسة بولندا تعزز مكاسب اليمين في أوروبا    مدينة الأبحاث العلمية تطلق سلسلة توعوية بعنوان العلم والمجتمع لتعزيز الوعي    عبد الرازق يهنىء القيادة السياسية والشعب المصري بعيد الأضحى    «أجد نفسي مضطرًا لاتخاذ قرار نهائى لا رجعة فيه».. نص استقالة محمد مصيلحى من رئاسة الاتحاد السكندري    البحوث الفلكية ل"الساعة 6": نشاط الزلازل داخل مصر ضعيف جدا    بريطانيا: الوضع في غزة يزداد سوءًا.. ونعمل على ضمان وصول المساعدات    أشرف سنجر ل"الساعة 6": مصر تتحمل الكثير من أجل الأمن القومى العربى وفلسطين    أحمد سعد مع سعد الدين الهلالي وخالد الجندي ورمضان عبد الرازق استعدادًا للحج    «صحة الاسكندرية» تعلن خطة التأمين الطبي لاحتفالات عيد الأضحى    يديعوت أحرونوت: وفد إسرائيل لن يذهب إلى الدوحة للتفاوض    دعاء الزلزال.. صور ومكتوب    تخفي الحقيقة خلف قناع.. 3 أبراج تكذب بشأن مشاعرها    وزير الثقافة ينفي إغلاق قصور ثقافية: ما أُغلق شقق مستأجرة ولا ضرر على الموظفين    تسرب 27 ألف متر غاز.. لجنة فنية: مقاول الواحات لم ينسق مع الجهات المختصة (خاص)    السجن 3 سنوات لصيدلى بتهمة الاتجار فى الأقراص المخدرة بالإسكندرية.. فيديو    محافظ الإسكندرية: العاصفة أظهرت نقاط القوة والجاهزية لدى فرق العمل    الهيئة العامة للأوقاف بالسعودية تطلق حملتها التوعوية لموسم حج 1446    السيسي: ضرورة إنشاء منطقة خالية من الأسلحة النووية في الشرق الأوسط    بوستيكوجلو يطالب توتنهام بعدم الاكتفاء بلقب الدوري الأوروبي    للمشاركة في المونديال.. الوداد المغربي يطلب التعاقد مع لاعب الزمالك رسميا    تخريج 100 شركة ناشئة من برنامج «أورانج كورنرز» في دلتا مصر    حزب السادات: فكر الإخوان ظلامي.. و30 يونيو ملحمة شعب وجيش أنقذت مصر    التضامن الاجتماعي تطلق معسكرات «أنا وبابا» للشيوخ والكهنة    "تموين الإسكندرية": توريد 69 ألف طن قمح إلى صوامع الغلال حتى الآن    «تعليم الجيزة» : حرمان 4 طلاب من استكمال امتحانات الشهادة الاعدادية    مدير المساحة: افتتاح مشروع حدائق تلال الفسطاط قريبا    بدء الجلسة العامة للشيوخ لمناقشة ملف التغيرات المناخية    آن ناصف تكتب: "ريستارت" تجربة كوميدية لتصحيح وعي هوس التريند    رئيس الوزراء يُتابع جهود اللجنة الطبية العليا والاستغاثات خلال شهر مايو الماضي    «الإصلاح والنهضة»: نطلق سلسلة من الصالونات السياسية لصياغة برنامج انتخابي يعكس أولويات المواطن    هيئة الشراء الموحد: إطلاق منظومة ذكية لتتبع الدواء من الإنتاج للاستهلاك    لطيفة توجه رسالة مؤثرة لعلي معلول بعد رحيله عن الأهلي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رواية السلفي «8» عمار علي حسن
نشر في التحرير يوم 28 - 02 - 2014


العتبة الثامنة
بعد بيت «أبو سعيد» يمكننا، يا ولدى، أن نستريح هنا قليلًا أمام بيوت أقيمت على أطلال حديقة صغيرة، كنا نتسلل إليها لنلعب بين أشجارها الفيحاء، ونخطف من ثمارها الناضرة أحيانًا، ونجلس فوق بقع الشمس التى تزركش ظلال وارفة، لنتابع العصافير وهى تتقافز بين الأغصان، وتحط على العشب تلتقط القش والحب ثم تعلو مزقزقة بموسيقى تطرب أفئدتنا الغضة.
أحدنا، واسمه «عاطف الزنط»، كان الأكثر جرأة على خطف الثمار، لأن أمه كانت تهلل له حين يدخل عليها وفى حجره ثمرات من المانجو أو البرتقال، بينما كانت جدتك تعاقبنى إن فعلت هذا، فكنت أكتفى بالفرجة، أو بثمرة واحدة آكلها وأمضى، بعد أن أمسح فمى جيدًا، حتى لا يبقى عليه من آثارها شيئًا.
هذا الجرىء سار فى طريقك يا ولدى، لم ينضم إلى جماعة مثل أسعد، بل غزاه التزُّمت تدريجيًّا، بعد قصة حب فاشلة لزميلته فى كلية الهندسة. هو عبقرى فى الفيزياء والرياضيات، يذهلك تميزه فيهما بقدر ما يخجلك ويفجعك تشدده إن جاء الكلام عن الدين أو الفن.
أرى فى عينيك اهتمامًا أشد بحكاية هذا الشاب أكثر من كل الحكايات التى مضت. هل لأنك ضحية إخفاق عاطفى مثله، أم لأنك أيضًا كنت متميزًا فى الفيزياء قبل أن تنسى كل شىء بين الصخور العالية المدببة، والرمل الساف، ونار الحرب الموقدة؟
جئت يومها وفى عينيك كآبة، وشفتاك مقددتان، وخطان أسودان يتدليان على خديك من فرط البكاء. فجعنى منظرك فجريت إليك، وأخذتك فى حضنى، وهمست فى أذنك:
- ما لك يا قرة عينى.
وضعت على قلبك حجرًا ضخمًا، وأبيت أن تبوح لى وأنا أبوك، وظننت أن كبرياءك سينجرح إن قلت لأقرب الناس إليك ما يضنيك. حتى أمك، التى عاشت ميتة من فرط شرودها الطويل فى غيابك، لم تقل لها شيئًا. وأختك التى كانت تربت كتفك وتمسد لحيتك، رغم أنها أصغر منك سنًا، احتارت فى صمتك وميلك إلى العزلة، وطالما ابتسمت فى وجهك، وسألتك:
- متى تخرج رأسك من بثر المعادلات الرياضية وقوانين الفيزياء؟
دفن «عاطف» رأسه فى هذه البثر حتى صار أستاذًا جامعيًّا فى الفيزياء بجامعة الإسكندرية، لكن ذهنه لم يتحرك خطوة واحدة نحو فهم الحياة. ورغم قامته المديدة وعينيه الخضراوين الواسعتين لم يرَ أبعد مما أوحت له به المعادلات المضبوطة، فظن أن كل شىء على شاكلة المسألة الحسابية البسيطة التى تقول: 1 + 1 = 2.
هكذا كنت أنت يا ولدى، تعتقد أن لا يوجد فى الدنيا سوى خيار واحد، ورأى واحد، وطريق واحد، وحين دعاك زميل لك فى الكلية أن تزور الشيخ، وتكررت زيارتك عدت لتقول ذات يوم:
- عرفت اليوم طريقى.
وجدت فى كلامه الشيخ ذى اللحية الشهباء ما يروى ظمأ روحك، التى صارت صحراء جرداء لخصامك كتب القانون والأدب والفلسفة وعلم النفس والاجتماع التى تحتشد بها مكتبة أبيك. كنت أسحب يدك وأذهب إلى الأرفف العامرة بنفائس العلوم الإنسانية، وأقول لك:
- أضف إلى عمرك أعمارًا واغرس شجرتك المحطاء فى بستان لا حدود لجماله.
لكنك كنت تبتسم، وتبتعد فى هدوء. وفى يوم صطدمتى حين قلت لى:
- لو اختفى الشعر من الحياة، وخرس الغناء، وغارت الموسيقى، فلن ينقصها شىء.
هى العبارة نفسها التى سمعتها من «عاطف» قبل سنين طويلة وهو يمضى بنجاح مبهر فى كلية الهندسة، حين لمح فى يدى ديوان شعر. كان يكلمنى عن أمر لا أتذكر ما هو الآن، لكننى كنت لاهيًّا عنه، مأخوذًا بالصور الجميلة واللغة العذبة، والحزن الشفيف.
ضحكت يومها وقلت له:
- أيخرج هذا الكلام من رجل يحب؟
فامتقع لونه، وأنكر مثلك، وقال:
- ليذهب الحب إلى الجحيم، فأنا لست فى حاجة إليه.
كان يكذب على نفسه، ويوارى ضعفه وخيبته، مثلما فعلت أنت معنا جميعًا، أنا وأمك وأختك التى منحتك الفرح، وأورثتها الكدر.
وما قلته له يومها أعدته على مسامعك، لكنك كنت قد صببت فى أذنيك رصاصًا وتصلب، أو شمعًا وتجمد، وأغلقت عنى بصيرتك، فلم يجد كلامى إلى نفسك سبيلًا. وكما أمسكت بكتفى عاطف أمسكت بكتفيك وقلت لكما فى زمنين متباعدين على قدر كدحى ووجعى وآمالى وعلمى:
- خيال الأديب يسبق اكتشاف العالم بقرن على الأقل، وما تدرسه الآن من اختراعات وعدنا به شعراء وروائيون من سنين طويلة.
لسعه كلامى كما لسعك، لكن كليكما ارتسمت على شفتيه ابتسامة ساخرة، ومضى غير عابئ بما سمع.
لم يطربك شىء يا ولدى، ولم يهزك حتى صوتى الجميل وأنا أقرأ القرآن، الذى شهد له كل من سمع تلاوتى وترتيلى، وكنت تختلى لتستمع إلى شرائط كاسيت معبأة بقذائف من كلام، تطلقه حنجرة معطوبة، عن عذاب القبر، والناس الذين عادوا إلى الكفر، ونواقض الوضوء، وفريضة الجهاد، التى اختزلها فى حمل السلاح والولاء والبراء، الذى صنع جدارًا خشنًا عزلك عن بقية الناس.
لكن الحق يقال إن عقل «عاطف» إن كان يشبه عقلك، فقلبه لا يشبه قلبك. هو لا يزال إلى الآن حريصًا على أن يصل رحمه. يسيح فى بلاد الله، ويعود ليعطيهم، على قدر استطاعته. وقد بلغ كرمه معهم إلى حد أن صار حديث الناس. أما أنت فقد قسا قلبك، واستبدلت الدم فى عروقك ماءً آسنًا. لم أنتظر، ولا أمك وأختك كذلك، منك شيئًا، إلا ابتسامة وكلمات تطمئننا عليك، أو تشعرنا بأنك منا ونحن لك.
لم أكن عاقًا لوالدىّ حتى تأتى أنت هكذا، لكن ربما كنت ابتلائى الذى صبرت عليه. لا أعرف ربما سخرت من «عاطف» فجئت أنت، وسخر هو منى فجاء ابنه قارضًا للشعر، وكما جفيتنى أنت جفا هو أباه.
تعال يا ولدى لنطرق باب هذا البيت، الذى حط الزمن على جدرانه، لعلنا نجد أحدًا نسأله عن «الدكتور عاطف»، هكذا صار اسمه، ولا يقبل أن يناديه أحد باسم غيره. أنا لم أقابله منذ زمن بعيد، تقطعت بيننا السبل رغم ما عشناه سويًّا من مسرات أيام الطفولة الغضة. قد نجد أحدًا من أبناء أخيه أو أخته، سنسأله عن رقم هاتفه، وسأطلب منه أن يجلس معك. من يدرينى لعله راجع الكثير مما كان فى رأسه، ربما يفاجئنا بإنشاد قصيدة أو إسماعنا سيمفونية لبيتهوفن أو معزوفة للقصبجى، وربما يحكى لنا عن آخر رواية قرأها، ويشكو لنا فى الفتنة التى يحدثها بيننا المتسربلون بالدين وهم يسعون بنهم نحو الجاه والمال والشهرة.
من يدرينا، يا ولدى، أن يكون ابنه هو، الذى سمعت أنه صار شاعرًا، قد غيره، مثلما زدت أنت من ثقتى فى الطريق الذى اخترته حين رأيت عاقبة الطريق الأخرى التى مضيت فيها، وأخذك فى لحظة من القاهرة إلى جدة ومنها إلى بيشاور جوًا، ومنهما إلى كهوف تورا بورا برًا، ثم إلى الصومال بحرًا، فمنها إلى السودان، وأخيرًا إلى ليبيا، عبر الصحراء الوسيعة، التى هرعت إليها بعد سقوط الطاغية المأفون، ومنها أرسلت لى خطابك الوحيد، المكتوب على مظروفه: «يصل ويسلم ليد فهمى عبد الرحمن المحامى».
ومهما جرى ل«عاطف» من تغير كان أو بقى على حاله، سيطل دومًا من ذاكرتى ليشرح لى بعض ما أنت عليه، وإلام أفضى بك الاقتصار على معادلات الرياضة، والنظر إلى الحياة على أنها طريق واحد، والبشر على أنهم أنماط متطابقة، كأنهم قطع صابون خارجة للتو من المصنع، أو أوانٍ فخارية صبت فى قالب واحد، وتركت تحت صهد الشمس لتجف، فلا تميز أحدها عن الآخر.
لكل هذا أتيت لك فى رحلتنا القصيرة من القاهرة إلى هذه القرية الضامرة بكتاب مختلف، دسسته فى حقيبتى، دون أن أخبرك بهذا، ويحدونى أمل عريض فى أننا حين ننهى جولتنا بين الشوارع المتربة والحارات التى تنام حوائطها على بعضها البعض، سأجد قلبك قد انشرح، وعقلك قد انفتح، وتقول لى بملء فيك:
- أعطنى زادى الجديد لأعرف دنيا جهلتها.
العتبة التاسعة
تقدم يا ولدى، وخذ حذرك من هذه اللجة المتبقية من آثار ليلة مطيرة، وابتعد عن هذا الجمع من الكلاب المتشابكة فى موسم التسافد. مد كفك اليمنى وتساند على هذا الحائط الحجرى العتيق. لن نمشى طويلًا، فعلى بعد خطوات هناك البيت الذى نقصده. هو بيت مهاجر مثلك، هارب قديم من الفقر والجهل والغربة فى الوطن.
إنه بيت «عطا الله»، الذى جاء إلى قريتنا وهو طفل صغير يرعى القراع فى رأسه، وجده العمدة «حيدر» فى أثناء رجوعه من البندر ملقى تحت محطة قطار قرية «صفط اللبن». كان جائعًا وحزينًا، يتلفت بعينيه يمينًا ويسارًا فى لهفة لعل أحدًا يمد إليه يده. ليلتان مرتا عليه ولا مجيب، حتى توقف أمامه بغل هائل يجر «الدوكار» المذهب العريض، وامتدت منه يد سمينة تطوق معصمها ساعة فضية، وجاءه صوت فخيم:
- تعال يا ولد.
وجرى إليه. وقف أمامه ورفع رأسه وقال بعينين دامعتين:
- نعم يا بيه.
أشار إلى رجل يركب حمارًا عاليًّا، ويسير خلف الدوكار، وقال له آمرًا:
- اركب وراءه.
وجرى نحو الرجل، فتعثرت قدم الولد فى طرف جلبابه الممزق البالى، فانشق حتى صدره، لكنه لم يعبأ بما جرى له، وقفز خلف الرجل، وسار الركب نحو القرية.
فى اليوم التالى وجد الناس «عطا الله» فى قريتهم، بجلباب نظيف ورأس ملطخ بلون أزرق قاتم، زحف قليلًا إلى جبهته. كان يمشى حذرًا إلى جانب «دوار العمدة»، يطالع الوجوه والبيوت ويلوذ بغربته.
يومها كنت أنا و«أسعد» نسوق القطيع خارجين نحو الحقول البعيدة، شاورنا إليه فجاء متثاقلًا، وقف فى محاذاتنا، ورطن بلهجة صعيدية قحة، انتبه إليها «أسعد» فسأله:
- من أى بلد أنت؟
- من فرشوط.
- وأين فرشوط هذه؟
- لا أعرف.
- لا تعرف بلدك!
سكت قليلًا ثم رد:
- بلدى الآن بلدكم.
وكان له ما أراد، فقد أخذ «عطا الله» بمرور الأيام ينخلع من ماضيه فى «نجع العسيرات» ويصنع لنفسه حاضرًا فى قريتنا.
بعد أيام وجدناه يمشى وراء قطيع الجاموس، الذى يملكه العمدة، ويسوقه نحو حقله الوسيع. يربط كل جاموسة إلى وتد، ثم يلقف المنجل المدسوس إلى جانب جذر شجرة الكافور العالية، ويتوغل بين أعواد البرسيم اليانعة، يجلس القرفصاء، ويضرب منجله بين الجذور الطرية، ويكوم ما حصده وراءه، فلما تتوالى الأكوام، يحملها على كتفه اليمنى، ويلف ذراعه حولها، ويسير نحو البهائم الجائعة.
تفانى فى خدمة سيده فرضى عنه. كساه أربع جلابيب مرة واحدة، وملابس داخلية، وشبشب من الجلد، ولف رأسه المعطوب بشال أبيض ناصع، فبدا للناس أكبر من سنه بكثير. وتعامل معه الرجال على أنه رجل، ونادته النساء لتستمتع بلهجته الغريبة على قريتنا، سألنه عن بلده وأهله، لكنه كان بخيلًا فى إشباع فضولهن.
ولما شب عن الطوق، اشترى له العمدة بيتًا صغيرًا، وزوجه من خادمة تدعى «جمالات»، تربت فى بيت العمدة الكبير، فلما ورث «حيدر» المنصب كلفها برعاية خنان الدجاج والبط والإوز والديوك الرومى.
وفوق سطح بيت «عطا الله» صنعت خنانها الخاصة، وكان عطا الله يحمل البيض فى سلة كبيرة، ويذهب كل يوم إثنين إلى سوق البندر، يبيع ما لديه، ويشترى ما يكيفهما، ويدخر الباقى، فلما تراكم فى جيبه مبلغ مناسب، اشترى ستة قراريط من الأرض، وبعد أسبوع ولدت «جمالات» له بنتًا سمراء سماها «هاجر» ثم ولدًا سماه «رزق»، جاء بعد ثلاث سنوات من ميلاد أخته.
هاجر «عطا الله» مثلك يا ولدى، وصنع جهاده. الجهاد الذى نسيته أنت، واختصرته فى هجران بلدك وأهلك وحمل السلاح. هجرته كانت من نجع إلى قرية، وهجرتك أنت كانت من دولة إلى دولة، وتوالت الدول، واختفت فى عينيك الحدود، فوطنك هو ما فى رأسك من أفكار، وأينما كانت فكرتك كانت دولتك، وإن شئت أن تحدد لك خريطة قلت: «من غانا إلى فرغانة»، وقسمت العالم إلى فسطاطين: دار إسلام فيه إخوانك، حاملو السلاح والأفكار القديمة، ودار حرب، وهو بقية العالم. ألم يقل هذا أميرك ابن لادن، وأنت أمنت وراءه، وصرخت من أعماقك: لبيك يا سيدى.
الذى هاجر من نجع إلى قرية داخل بلدنا العريق، ها هو قد أقام بيتًا على التقوى والفلاح. رأيته منتظمًا فى الصلاة، كان يسبقنا جميعًا إلى المسجد، بقدر ما يسبق كل الفلاحين إلى الحقل. وكان وفيًّا لمن آواه، رغم أنه لم يكن أباه. ظل يخدمه بتفانٍ منقطع النظير، فلما مات، سار خلف جنازته يبكى كطفل تائه، وتقدم إليه الناس ليعزوه ويربتوا على كتفيه، وهو رجل ملء هدومه، تغلب على أيامه وأحزانه ومرضه المخزى.
ما لا تدريه، يا ولدى، أن «عطا الله» ربى ابنته وابنه على أفضل ما يكون. البنت تخرجت فى كلية الآداب، وبعد أن اجتمع شمل أبيها مع أهله الذين هرب منهم أيام طفولته، تزوجت قريبًا لها، يعمل مهندسًا، وسافرت معه إلى الخليج. والابن صار طبيبًا، وكافح حتى أصبحت له عيادة وسيعة فى المدينة، ويقال إنه يأتى مرة واحدة كل شهر ليعمر بيت أبيه، الذى خلا بوفاة «عطا الله» وزوجته.
«رزق» اقترب مساره التعليمى من مسارك، يا ولدى. معادلات كيميائية، وقوانين رياضية، ورسوم ومقاطع تشريحية من جسد الإنسان. مقاطع تتطابق، فلكل منا قلب فى الجانب الأيسر من صدره، وكبد فى الجانب الأيمن من بطنه، ومخ فى رأسه، الملامح والتقاسيم والحشايا، الجذع والأطراف، كل منا لديه منها.
لكن «رزق» فهم أن عقول البشر وأحوالهم مختلفة، فالألم واحد والأسباب مختلفة، والبهجة واحدة والسبل إليها عديدة. وأعتقد أنك تتساءل الآن: كيف فهم هذا؟ ولم نجا من السقوط فى فخ معادلتك العتيقة: 1 + 1 = 2؟ وسأجيبك أنا قبل أن تتحير: الأمر بسيط، يا ولدى، لقد ورث «رزق» مكتبه العمدة «حيدر». أخذها وهو فى المرحلة الثانوية، هكذا عرفت من أهل البلد، لأننى غادرتها و«رزق» هذا طفل صغير.
كان يذهب مع أمه وهو طفل صغير، حين كان العمدة على قيد الحياة، تمسك هى «المنفضة» لتمسح أى غبار حط على كعوب الكتب، ويتمتع هو بألوانها. أحيانًا يصعد على كرسى، ويمسك أحدها، ويحملق فى الأغلفة الملونة. تنتبه إليه جمالات فتخطف منه الكتاب خوفًا من أن يمزقه، فيجلس محسورًا.
وحين وصل إلى المرحلة الإعدادية، استأذن عطا الله من العمدة أن يستعير ابنه كتابًا، فابتسم وقال له:
- ليس لدىّ مانع، لكن عليه أن يعيده بعد قراءته.
وهكذا اعتاد «رزق» أن يستعير كتابًا كل أسبوع، فى أثناء إجازة الصيف، فلما مات العمدة، طلب عطا الله من الست أرملته أن تسمح لابنه بأن يواصل ما بدأ، فهزت رأسها وقالت:
- يمكنك أن تنقلها كلها إلى بيتك.
خرج «عطا الله» من عندها وهو يكاد يطير من الفرح، وذهب إلى النجار وطلب منه أن يصنع مكتبة لابنه، وخصص لها جدارًا من صالة البيت.
ربما يكون قد تركها فى مكانها، ولم ينقلها إلى شقته فى البندر، ولو طرقنا الباب يا ولدى وفتح لنا أحد فى هذا البيت، سيكون أول ما تقع عليه عيناك هو تلك المكتبة البسيطة، التى صنعت لمن حازها مصيرًا جميلًا.
فى بيتنا مكتبة أكبر من هذه بكثير، طالما حاولت أن أجذبك إليها بلا جدوى. حتى كتب العلوم البحتة التى تميل إليها أحضرتها لك، وقلت لك:
- أول كلمة فى القرآن: اقرأ.
لكنك اكتفيت بالقشور التى درستها فى المرحلتين الثانوية والجامعية، واعتقدت وتصرفت دومًا على أنك قد أوتيت من العلم ما يكفى، رغم أنك تردد ليل نهار أن تًعلُّم الدين فرض عين. وأتيت لك بكتب عن الإسلام، عقيدة وشريعة، فهجرتها وقلت لى:
- أمرنى شيخى أن لا أقرأ إلا ما يقرره لى.
وحين صرخت فى وجهك:
- تعصى أباك وتطيع شيخك..
تركتنى وخرجت من البيت، وغبت ثلاثة أيام، ولم أجد إليك سبيلًا، فطويت حزنى على حزن أمك وأختك، وجلسنا ننتظرك فى لوعة وأسى. وحين رجعت اشترطت للبقاء فى البيت أن أتخلص من كتب علماء وصفتهم بأنهم منحرفون، أو هكذا وصفهم شيخك، الذى يردد الكتب القديمة كببغاء قدير. يومها حزمت الكتب فى كراتين، وحملتها إلى شقتنا القديمة المغلقة.
ومع هذا لم تبق معنا، سرعان ما خرجت من دون استئذان، لنعرف بعد شهور أن أتباع شيخك قد أخذوك معهم إلى جدة. ومن عاش معك أسبوعين هناك عاد وقال لنا:
- تركته يحزم أمتعته البسيطة ذاهبًا إلى «بيشاور».
عاد هو من منتصف الرحلة، شىء أدركه، أو إلهام أشرق فى رأسه، فتذرع لهم بحجة انطلت عليهم، ثم عاد إلى حضن أمه وأبيه، أما أنت فقد أعطيتنى وأمك ظهرك، ونقلت طائرة أخرى إلى حيث النار والدم والغربة الموحشة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.