يخصُّنا الكاتب والباحث عمار على حسن بنشر روايته الجديدة «السلفى» على صفحات الجريدة، وذلك تزامنًا مع إصدار الطبعة الرابعة من رواية «شجرة العابد»، التى نالت جائزة اتحاد الكتاب منذ أيام وحظيت باهتمام نقاد كبار، وحصلت على عدد كبير من الجوائز فى مجالَى الإبداع الأدبى والفكرى. ومؤلف «السلفى» كاتب وباحث فى العلوم السياسية، تخرج فى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، ولديه عدد من المؤلفات الخاصة بدراسة الجماعات الإسلامية فى مصر والوطن العربى، كما أنه كتب عددا من المؤلفات الإبداعية، منها روايات «حكاية شمردل»، و«جدران المدى»، و«زهر الخريف»، و«سقوط الصمت»، إضافة إلى مجموعات قصصية هى «عرب العطيات»، و«أحلام منسية». نسيت أن أقول لك إن اسم زوج سلوى كان معبرا عن شكله ومسلكه، اسمه «مشحوت»، لأن كل أولاد أمه قبله كانوا يموتون فى المهد، أسمته هكذا حتى يعيش، وعاش ليموت فى أرض غريبة. هكذا حكى بعض العائدين من العراق، فكثيرون من شباب قريتنا كانوا يذهبون إليها قبل أن يضربها الأمريكان، ويتركوا بعضها يضرب بعضا. قابلوه غير مرة، لكن مَن جفا أهله هنا لن يعرفهم هناك. سألوه عن أحواله، فردّ عليهم ببضع كلمات غامضة، تعمّد أن تكون هكذا، بلا معنى واضح، حتى لا تصل أخباره إلى سلوى، لكن هذه الكلمات كانت كافية لأن يعرفوا أنه قد اشتغل سائق شاحنة ضخمة تنقل المؤن إلى الصفوف الأمامية للجيش العراقى، وهو يقاتل الإيرانيين، ومن بعدهم الأمريكان. لم يكن «مشحوت» مؤمنا بما يقوله صدام حسين عن صد الحرب الصليبية على بلاده، ولا بحديثه عن تحرير فلسطين، فصاحبنا لم يكن مواليا إلا لنفسه، كرشه وفرجه وقبلهما جيبه وزجاجات «عرق البلح» التى يعبها كأنها ماء نصف مثلج. كان مأجورا، يا ولدى، مرتزقا، مثل بعض من شاهدتهم وصافحتهم على قمم التلال أو عند السفوح الممتدة فى بلاد بعيدة، وكنت بسذاجتك تعتقد أنهم أولياء الله الصالحين، وأنهم أتوا ليذودوا عن الإسلام ضد الشيوعيين الملاحدة الذين دفعوا دباباتهم، وأطلقوا طائراتهم لينزعوه من قلوب الناس. واحد من هؤلاء كان من قريتنا، لن أحكى لك عنه إلا حين نصل إلى بيته، لكن عليك فقط أن تعرف اسمه الآن ربما قابلته هناك فى كهف أو تحت غبار المعركة، اسمه «حسن رضوان»، تذكّر هذا الاسم جيدا، وادفنه فى رأسك لعلك تستعيده حين تريد. «مشحوت» كان مثل «حسن»، الفارق بينهما أن الأول ذهب إلى مَن أجّروه دون أن يعرف كم سيقبض؟ وما هى مهمته بالضبط؟ الثانى اتفقوا معه على كل شىء من هنا. ألف دولار فى الشهر، ورشّاش خفيف، وذخيرة مفتوحة، وثلاث وجبات فى اليوم، وصحبة مع المجاهدين فى الدنيا، وجنة الخلد فى الآخرة إن اسْتُشهد فى ميدان المعركة، ولم يكن يعنيه إلا الظفر بالحور العين فى جنة الخلد. وعدوا «مشحوت» هناك بمرتب شهرى لم يكن يحلم به، وقالوا له أيضا إنها «القادسية الجديدة» ضد الفرس الروافض أعداء الإسلام، ثم قالوا له إنها «أم المعارك» ضد الغرب الحاقد. كثيرون يدعون يا ولدى أنهم يُحاربون باسم الله، ويقتلون باسمه. أنت واحد من هؤلاء، وأنا كنت من المنتظرين مثل سلوى. هو زوجها وأنت ابنى. فارق كبير بين الحالتين. الزوجة يمكن أن تخلع زوجها أو تطلب منه الطلاق، أما الابن فكيف ينخلع عن أبيه؟ كيف يمكن للدم أن يصير ماءً؟ أنت من صلبى وفى كبدى، وأنا حملت إليك سمات أجدادك، أعطيتها لك من دون إرادة منك، لكنها فيك، لا تستطيع منها فكاكا، أما هى فلم تمنحه أحدا من صلبه، وشكرت الله فى ما بعد على أنها لم تحمل من هذا العابر الذى غاب. يمكنك يا ولدى أن تطرق هذا الباب، وتصيخ السمع إلى صوت رققته المرارة لامرأة مكلومة، اسألها عن «مشحوت»، اذكر فقط اسمه أمامها ستجدها قد انطلقت تثرثر بلا حد، وتبوح بكل شىء، حتى ما لا تتوقعه منها. تتكلم بحرقة، وتدوس على الحروف، وفى عينيها دموع، هكذا حتى تستريح. وهكذا كنت أفعل أنا حين أتذكرك وأنت بعيد عنى. أحيانا ألوم نفسى على أننى أهملتك إلى أن عششت هذه الأفكار فى رأسك، وأحيانا أواسيها وأقول إننى تركت لك الحرية لاختيار طريقك، ولا ذنب لى فى أنك تركت الميادين الفسيحة البديعة، وتركت قدميك تدلقان إلى هذه التعاريج المظلمة التى يسكنها عفن مقيم. «سلوى» لم تختر طريق مشحوت، هو الذى هجرها فجأة، غاب فى صحراء العراق، ولم يعرف أحد خبره سوى رجل عراقى وحيد اسمه «أبو عدنان»، يعمل هو الآخر سائق شاحنة فى الجيش، وجمعته جلسة مصادفة على مقهى فى بغداد مع شاب من قريتنا، ظل سنوات هناك عامل تراحيل على باب الله. سأله «أبو عدنان» عن بلده، فذكر له اسم قريتنا، وعندها حملق الرجل فيه طويلا ثم قال: هل تعرف رجلا من بلدكم تلك اسمه «مشحوت»؟ - هو من بندر «المنيا» وتزوج امرأة من بلدنا. - كان زميلى فى الجيش. - زميلك! كيف؟ - نعم، كنا ننقل مؤن الجيش إلى الخطوط الأمامية، سنوات، وظللنا على هذه الحال إلى أن ضرب صاروخ أمريكى شاحنته فتفحّمت تماما. - وأين دفنتم جثته؟ - لقى ربه، ولم يبقَ من جسده شىء. العتبة السابعة دعك من «سلوى»، واتركها لآلامها التى لا نملك إلى تخفيفها سبيلا، وتعالَ يا ولدى لننعطف قليلا فى الشارع الذى تطلّ فوهته علينا، ولنمشى ثلاثين خطوة لنجد بيتا من الحجر، طويل كصاحبه، يتوغّل بين البيوت حتى يصل إلى الشارع الموازى، وله فيه باب آخر قصير. البيت مقسوم إلى نصفين، النصف الأمامى للبشر، والخلفى للبهائم، جمال وجاموس وغنم وحمير، فرب العائلة رجل عصامى، ادّخر القرش على القرش واشترى الأرض والأنعام. لا يهمك بالقطع كل هذا، لكن ما يجب أن يهز نفسك ويجعل قلبك يرتج وينخلع من مكانه هو ما كان أهل قريتنا يصفون به هذا الرجل، ولا يتمهلون أمام تديّنه العميق واستقامته واجتنابه أى شبهة تقرّبه من حرام. الرجل اسمه «أبو سعيد» والصفة التى تلاحقه هى «كبير العبيد». نعم العبيد، بعد أربعة عشر قرنا من دخول الإسلام إلى مصر، لا يزال مسلمون ينظرون إلى واحد منهم على أنه عبد، ويصرخ فى وجهه من يغضب عليه: يا أسود يا زربون، ويضع الكل بينهم وبينه مسافة، فلا يتزوجون من بناتهم، ولا يزوّجونهم من بنات العائلات الأخرى. الجميع اتفق على هذا، حتى الغرباء الذين جاؤوا إلى قريتنا وسكنوا أطرافها. طالما سمعوا «إسماعيل» شيخ الجامع، وهو يُحدّثهم عن بلال الحبشى، مؤذن الرسول، كانوا يتباكون تحت المنبر، وأبو سعيد بينهم، ويتحدّثون عن مآثر بلال وهم يكدحون تحت شمس الظهر، لكن كلامهم لا يفارق حناجرهم. يطير فى الهواء ويتلاشى كأنه ندف من سحاب أجوف عابر، حتى السحاب يمكن أن تسقط منه قطرات تسقى النسل والزرع، أما هم فظلوا سنين لا ينتفعون بما يسمعون وما يعرفون أبدا. وكان على شيخ الجامع، وأبيك، وكل ذى عقل فى قريتنا، أن يقضوا وقتا طويلا حتى اقتنعت قلة بما يقولون، فتزوجت «سمية» حفيدة «أبو سعيد» من شاب زين من عائلة «مكى»، وأحبت بنت من عائلة «السماعنة» شابا من عائلة «أبو سعيد» وكافح سنين حتى رضوا به فى النهاية. وانفتح الطريق بطيئا، لكنه انفتح، بعد أن أوصده الجاهلون قرونا. سيزيد عجبك يا ولدى لو علمت أن «أبو سعيد» هذا كان يحفظ نصف القرآن، ويرتله بصوت طلى حنون، وفى غياب شيخ الجامع كان الناس يُقدّمونه ليصلّى بهم، لكن بعضهم كان يتذمّر حين يقف الرجل بطوله الفارع أمام الصفوف، ويقول للمصلّين: «استقيموا يرحمكم الله». أحدهم، وكان قصير القامة متأنفا دوما، رفع رأسه، وشمخ بأنفه ونفخ فى وجه «أبو سعيد» وهو يستعدّ لإقامة الصلاة، ثم صرخ: على آخر الزمن العبيد يرفعون أصواتهم على أسيادهم. وخرج من الصف، ثم خطف حذاءه القديم وانصرف من المسجد. وعلى مصاطب السمر بالليل تأتى سيرة عائلة «أبو سعيد»، وينطلق وحش النميمة كاسرا، ينهش يمينا وشمالا، فيتساءل الناس عن البنت بيضاء البشرة التى أنجبتها إحدى نساء العائلة مع أنها سوداء، وكذلك زوجها. ربما سمع هؤلاء من شيخ الجامع حديث الرسول: «تخيّروا لنطفكم، فإن العرق دساس»، وعرفوا أن دساسة العرق تعنى أنه ممتد إلى أجيال عدة، قد يغيب لجيلين أو ثلاثة ثم يعود بازغا إلى سيرته الأولى. ولا شك أن هؤلاء يحفظون عن ظهر قلب المثل الذى يقول: «العرق يمد لسابع جد». لكن كل هذا يتناسونه حين يكون الكلام عن «أبو سعيد» ويغمضون عيونهم عن ما قاله لهم الأجداد من أن جدة الرجل نفسه كانت بيضاء، يسر بياضها الناظرين والعابرين، جاء بها زوجها من بلاد بعيدة، ناسها أعرف بالله من أولئك الذين ينكرون كل شىء ليرضوا أنفسهم المريضة. عاش «أبو سعيد» يا ولدى مستباحا لألسنتهم الحادة، لكنه كان يتسامى عن الصغائر، يسمع بأذنه الإساءة إليه فيبتسم، ويتمتم فى سره: «وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما»، ويمضى فى طريقه صامتا يتلفت حوله على جوانب الشارع أو الجسر، فإن وجد قطعة زجاج مكسور يمكن أن تؤذى قدما صغيرة أو كبيرة، التقطها ووضعها فى كيس يحمله حتى يذهب بها إلى كومة المهملات خارج القرية ويلقيها هناك، وإن وجد حجرا كبيرا فى منتصف الطريق يعترض المارة شمّر عن ساعديه وراح يزحزحه حتى يستقر جانب الحائط، وإن لقى بقعة زلقة من ماء انسكب فيها يحفن التراب ويلقيه عليها حتى تجف، خوفا من أن تنزلق قدم أحد فيها ويصيبه مكروه. كان سيدهم حقا، يا ولدى، ومع هذا رآه العميان عبدا. كثيرون طمس الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم غشاوة، وانتظروا أن يمد العارفون لهم أيديهم لينتشلوهم من الخرافات والجهل، ينقلونهم من الزمن القديم الذى تعيش فيه أفكارهم وأرواحهم، يقولون لهم إن العالم قد تغيّر، وأن الدين الذى يخوضون فيه، ويرددون علاماته كالببغاوات يجعل الناس سواسية كأسنان المشط. أمثالى تركوا القرى وراحوا يبحثون عن موضع لأقدامهم فى زحام المدينة، وأمثالك يا ولدى تركوا بلادنا كلها وقالوا: الإسلام نادانا فى بلاد غريبة. أتتوهّمون أنكم تدافعون عن الإسلام هناك، وتتركونه هنا عرضة لأفكار جاهلية تنهش فى لحمه، فينزف ويتساقط، ويبقى فى النهاية هيكلا عظميًّا يقف فى مهبّ الريح أو جلدًا منفوخًا على خواء. ألم يكن أجدر بك أن تأتى للجهاد فى قرية أبيك؟ لو فعلت ذلك لرفعتك فوق رأسى أو وضعتك فى عينى، وربما كنت قد تركت كل شىء، وجئت خلفك لأشاركك فى مهمتك المقدّسة، ودرنا على عتبات البيوت، كما ندور الآن، نوزّع ما لدينا على رؤوس الناس، ولا ننتظر منهم أجرا. هنا يا ولدى ما يستحق الجهاد، لكنه ليس ذلك الذى تلمع فيه سيوف وخناجر، أو تمرق فيه حمم لهب وتدوى انفجارات وترتفع أعمدة الدخان لتلوث صفحة السماء، إنما هو الجهاد بالكلمة الطيبة. لا تسخر من قيمة الكلمات، ف«فى البدء كان الكلمة»، ونحن لم نرَ الأنبياء إنما بقيت لنا كلماتهم تسرى فى الأزمنة والأمكنة، وتأخذ بألباب وأفئدة الأتباع. إنها مفارقة، يا ولدى، مثلك الذى تخرّج فى كلية الهندسة جامعة القاهرة يقلّل من قيمة الكلمة، بينما سائق عربة ربع نقل متآكلة الحواف كتب عليها «الدنيا كلام»، جملة مكتوبة على عجل وبخطط ركيك، تأملتها ذات يوم فوجدتها تشعّ بحكمة عميقة. لقد قال الرجل كل شىء، وهذا ما لا يصل إليك، ويدعوننى إلى لأسى. كان يمكنك أن تأتى لتدور على بيوت هذه القرية وتقول لناسها: «أبو سعيد» مثلكم، بل أفضل منكم، لأنه أحسنكم أخلاقا. كان يمكنك أن تغرف من بطون الكتب القديمة وتسكب فى آذانهم، أو تبحث عن تأويلات لآيات الله تنفع لزماننا، وتقول لهؤلاء الجهلة الذين يُقسّمون الناس إلى أسياد وعبيد: كفى، هذا ليس من الإسلام فى شىء. لكنك تركت الناس هنا، وحملت أمتعتك وهربت إلى ما هو أهون. نعم هو الأيسر والأسهل، أن تحمل بندقية وتطلق الرصاص، أن تختبئ فى قعر كهف من غارات الطائرات أهون بكثير من أن تأخذ على عاتقك أن تعلم الناس وتغيّرهم، وتبدّلهم من حال إلى حال. إنها مهمة الأنبياء والأولياء التى لم تألفها ولم تسعَ إليها أبدا، وليس مهمة المحاربين وقطّاع الطرق ورجال العصابات. ستقول لى: - ولماذا لم تفعل أنت ذلك؟ وسأرد عليك: - فعلت ما فى وسعى قبل أن أرحل إلى المدينة وراء رزقى، ولم أزعم يوما أننى نذرت نفسى للجهاد مثلك. ربما أجاهد فى عملى، وفى حديثى إلى الناس بطيب الكلام، لكننى أفعل هذا تلقائيا، بعيدا عن مزاعم أمثالك، فالتديّن الحقيقى يا ولدى يذوب فلا تراه، ثم يتجلّى فيملأ عينيك، دون أن يكون صاحبه فى أى حاجة إلى تذكير الناس كل لحظة بأنه يصلّى ويزكى ويحج ويتصدّق ويلهج لسانه بالتسابيح. لو أن «أبو سعيد» على قيد الحياة يا ولدى كان من الممكن أن تسأله عن ما فعلته من أجله. كنت غلاما، غير مسموع الكلمة، ومع هذا وقفت إلى جانبه، ودافعت عنه، ورددت على اغتيابه. أتذكّر ذلك اليوم الذى جلست فيه على المصطبة العريضة أشرح للفلاحين المولعين بالنميمة قانون «مندل» للوراثة، كى أثبت لهم أن البنت البيضاء يمكن أن تنجبها المرأة السوداء من زوجها الأسود دون أن تكون قد خانته أبدا كما يكذبون عليها، إن كان جدا أو جدة قديمة فى العائلة بيضاء البشرة. وفى اليوم التالى قابلنى أبو سعيد، فربت كتفى وابتسم قائلا: - بارك الله فيك يا ولدى. فنظرت إليه بعينين دامعتين وقلت: - لم أفعل سوى الواجب. فهزّ رأسه وقال: - دعهم يخوضون فى عرضنا، والله يحكم بيننا وبينهم يوم القيامة. بعد أن مات رآه رجال كثيرون ونساء فى أحلامهم، يرتدى جلبابا أبيض وعمامة خضراء، وجهه مضىء، وجسده فارع، وفى عينيه ألق وامتنان. كان يمشى وحده ويميط الأذى عن الطريق، وفى يده عصا طويلة يهشّ بها على جمع غفير يجرون أمامه لاهثين، أقدامهم حافية يأكلها الحصى، وعيونهم دامية يهزّها الخوف، وألسنتهم ملقاة على صدورهم يحط عليها الذباب.