"وصار شخلول نائبا محترما"، بهذه الجملة المختصرة جداً، قام الروائي يوسف جوهر بإيجاز سيرة حياة بطل روايته «شخلول وشركاه» المنشورة لأول مرة في كتاب عام 1996، وبدأ الكاتب كأنه لم يكتف بهذه الجملة، فأورد فقرة طويلة أقرب إلي التذييل، قال فيها «وبعد، فهذه قصة نائب من نواب زمان الذين جلسوا علي حجر الديمقراطية قبل الثورة المباركة» وقد لزم التنبؤ به لأن النواب المعاصرين - أقصد بعضهم - ينكرون بإباء وشمم أنهم جلسوا علي حجر الديمقراطية ويؤكدون أنهم جلسوا علي قلبها. النائب المحترم شخلول ابتداء من اسم بطلة «شخلول المرسي حنضل» ابن حفيظة وطوال أحداث الرواية التي تدور أحداثها في ثلاثينات وأربعينات القرن العشرين، فإن الكاتب الذي يروي وقائع سيرة بطله وهو أيضا صديقه وراوية حياته، يقف موقفا عدائيا من هذا البطل الذي ولد في «أحط.. البيئات السياسية والاجتماعية» وارتفع علي المستوي الاجتماعي حتي صار النائب المحترم كما أسماه، وذلك فيما يسمي برواية التفاصيل بعد الايجاز، فكما انهي الكاتب روايته بهذه العبارة المذكورة آنفا، فإن السطر الأول من الرواية قد بدأ بشكل مشابه وتقريري مثل أحداث الرواية كلها، حيث قال: هذه صورة لنائب من نواب زمان، الذين جلسوا علي حجر الديمقراطية قبل الثورة، ثم أكمل فقرته بنفس الكلمات التي انهي بها روايته والتي ذكرناها من قبل. الكاتب إذن يتخذ موقفا عدائيا من بطله، ويعكف علي وصف التفاصيل الكاملة لرحلة هذا الفقير، ويسخر منه بشكل ملحوظ، ومن أمه، وأيضا أبيه الذي مات بسبب تناوله وجبة من البيض الفاسد الذي يتاجر فيه للناس، بل إن المؤلف حرص دوما علي أن يذكر القارئ بهذا الأصل الوضيع لشخلول، وكم كرر علينا الطريقة التي مات بها الأب، تأكيدا علي ازدرائه له، وتحقيره وكشف كيف كان الأصل لهذا النائب المحترم الذي صار عضو البرلمان في إحدي حكومات الملك فاروق. ولا شك أن في تكرار هذه الحكاية نوعاً من الامعان في سب شخلول الذي سيصبح صديقا للوزراء والذي سيتزوج شقيقة أحد وزراء هذه المرحلة، ليكون هذا الاقتران سببا علنيا ليعتلي شخلول مكانته في البرلمان، وقد وصل الأمر إلي أن المؤلف نفسه، المحامي الذي سوف يكتب سيرة حياة شخلول، قد كرر هذه الواقعة في روايته أربع مرات علي الأقل، علي طريقة أن التكرار يؤكد للقارئ أن عليه ألا ينسي جذور هذا النائب المحترم. فقد مات الأب بسبب «المرتة» وهي عجينة جهنمية يقال إنها غنية بالكوليسترول حتي ليكفي الجرام منها للفتك بما طوله كيلو متر من الشرايين السليمة، حيث أعدت له حفيظة، امرأته الفارعة لطول طبق المرتة، بالبيض، وجلس الزوج إلي الطبلية وقد صح عزمه علي اصلاح طعم البيض الفاسد بهذه المرتة الشهية، ولم يبخل علي نفسه بقليل من الجبن القديم، مع فحل بصل، ورأس لفت مخلل، وخيارة «كينج سايز» وقبضة من العجوة وعليه فإن معدة المرسي قد «فرقعت» ونام المرسي دون أن يستقيظ ثانية. إذن، فهناك موقف مسبق من المؤلف تجاه صديقه الذي يروي لنا حياته، وذلك بعد أن اختفي هذا الجيل من النواب القدامي، الذين صاروا الآن في الغابرين عظامهم، رميم في القبور، لقد اعترف الكاتب في بداية حديثه إلينا أنه يتناول سيرة هؤلاء النواب الذين طمست السنون معالمهم. المتسلقين الفقراء وقد تعمد الكاتب أن يتوقف عن المتسلقين الفقراء الذين جاءوا من أحط البيئات، فصعدوا إلي قمة المجتمع، ورغم مرور عشرات السنين علي هذه البدايات فإنهم حصلوا علي ما يستحقه أبناء الاثرياء الذين لم ينجوا أيضا من سخرية ونقد لاذع، من طرف الكاتب، ولعل ذلك يذكرنا بروايات أخري كتبها أدباء آخرون من طبقات اجتماعية راقية، بدوا كأنهم يتناصرون مع يوسف جوهر، فيختارون أبطال أعمالهم من الوضعاء الذين ارتقوا اجتماعيا، وصاروا أعضاء في البرلمان، الذي يعتبر أعلي درجات الارتفاع لأبناء الفقراء الاشرار، وذلك مثلما قرأنا أعمالا مثل «حتي لا يطير الدخان» لإحسان عبدالقدوس، و«خيوط السماء» لثروت أباظة، وقد ربطت بين هذا الأخير ويوسف جوهر علاقة وثيقة للغاية، وأنا الذي كان مقربا للغاية من يوسف جوهر في الربع قرن الأخير من حياته. إذن نحن أمام التفاصيل الدقيقة جدا لهذا الوغد، الذي ارتقي السلم الاجتماعي، من خلال مشاريع اقتصادية تتمثل فيما يسمي «شربات شخلول»، وذلك أشبه بما سلكته الأم التي سعت إلي «عشر» جاموستها بطلوقة من أحد أبناء القرية، وخدعت صاحب الطلوقة، أما الأب فهو رجل قمئ، كان يتاجر في البيض، بينما الأم ادخرت الأرباح واشترت الجاموسة. وفي مقدمة الرواية تحدث الكاتب عن نفسه مقارنة ببطله قائلا: وفي ذلك الزمن البعيد كنت شخصية بارزة في قريتنا من يشار إليهم بالبنان ويعدون علي أصابع اليد الواحدة، ذلك أني حصلت علي شهادة الكفاءة وواصلت المسيرة إلي البكالوريا التي تؤهل لدخول الجامعة. تري هل اختار الكاتب نائبا برلمانيا، ومسيرة حياته، ينتمي إلي عصر ما قبل الثورة المباركة، كنوع من إعلان مناصرته للثورة من ناحية، أو التأكيد علي صورة الحياة السياسية، والاجتماعية، والبرلمانية في هذه الحقبة، فالرواية تنتهي أحداثها عن اعتلاء شخلول مكانته في البرلمان، وحصوله علي المقعد، حين حقق الفوز علي النائب الحقيقي الذي ظل في مكانه بالبرلمان لدورات عديدة، فجاء شخلول كي يزعزع مكانته، ويحصل عليها وذلك رغم أن المؤلف توقف عند المعركة الانتخابية، لم يكن عند تفاصيل المعركة الانتخابية، بل إن ذلك تم من خلال معركة أخري، دبر فيها شخلول خطة لدس إحدي العاهرات إلي دار الوزير، فسرقت منه أوراقا يسب فيها الملكة نازلي، مما سيعرض الوزير للخطر، ويهدد مستقبله السياسي مما دفع الوزير إلي الموافقة علي أن يقترن شخلول ذو الأصل الوضيع جدا، بجمالات شقيقة الوزير، وهو الشخص الذي ساعد شخلول في أن يرشح نفسه لعضوية البرلمان، ثم ساعده علي النجاح. أي أن يوسف جوهر قد ركز في أغلب أحداث روايته علي الصعود الاجتماعي «السافل» لبطله، فهو في البداية يسعي إلي الزواج بعزيزة، ابنة العمدة، كمحاولة لتحقيق صعود اجتماعي حقيقي، ثم يكتشف أن زواجه بجمالات ضمان أكثر للوصول إلي عضوية البرلمان. بدأ شخلول شخصية درامية معبأة، بالسلبيات، في كل سلوكها، منذ أن اغفلت أمه قيده ضمن المواليد، وحتي صار عضوا في البرلمان، بدا مثل ابن نجية في رواية ثروت أباظة، وفهمي في رواية إحسان عبدالقدوس، يمارس أحط السلوك الإنساني، من أجل الصعود الاجتماعي حتي إذا بدا كريم اليدين تجاه البعض، مثل كل من الطاهي والسفرجي اللذين يعملان في بيت الباشا الوزير منذ سنوات، وهما له بالغا الاخلاص، لكن شخلول نجح في أن يستقطبهما ويحولهما إلي جاسوسين، ينقلان أخبار الباشا له. جانب سلبي من المهم أن نشير إلي أن أغلب إن لم يكن جميع شخصيات هذه الرواية لهم جانب سلبي وغد سواء أولاد الفقراء، أم أبناء الاغنياء الموسرين، وعلي طريقة الطيور علي أشكالها تقع فإن شخلول يجيد التواصل مع هذه الشخصيات، ويدفع لها، ويتمكن من إغرائها بالمال، وعلي رأسهم العمدة، والباشا الذي تم ابعاده عن وظيفته لصالح المدير العام لحزب الوفد، لكن بعد تنحية الوفد عن الحكم تم اختيار الباشا ليكون وزيرا، أما جمالات أخت الوزير فهي امرأة تمارس القمار، لدرجة أن زوجها لم يحتملها فتركها وتزوج بامرأة أخري، وها هي الآن تقترب من الخمسين، ولاتزال تمارس القمار، وتقوم بصرف خمسة آلاف جنيه أخذتها من شخلول علي مائدة القمار، وهي تشتري فراء بثمن غال، وتحرر شيكات بمبلغ ثلاثين ألف جنيه من أجل القمار والبزخ. إذن كل أبطال الرواية بمثابة شخصيات لا منفذ منها إلي الخير، أو الفضيلة، تحركهم الأموال، والرغبات، ولعل السمة الأولي عند شخلول أنه لا يمارس الجنس الحرام، ويسعي إلي امتلاك المرأة التي أمامه بالشرع، أي الزواج، مثلما اشتري مكانته الاجتماعية الجديدة، بأن تزوج بابنة العمدة، ثم في نفس الفترة اقترب من أخت الوزير وساندها بالمال، ليس لأنها وقعت في غرامه، بل لأنها أخت الوزير ولا شك أن مساعدته لها ستدفع بالوزير المأزوم أن يقف إلي جانبه، وهو يرشح اسمه ليكون عضوا في البرلمان. الأكثر وغدنة هو إذن شخلول، الذي يروي لنا الكاتب عن سلوكياته الوضيعة، التي ورثها عن أبيه الذي مات اثر وجبة البيض الفاسد، والأم التي ظلت علي قيد الحياة، إلي أن حضرت حفل زفاف ابنها، وأيضا شاهدته وهو يدخل دائرة الانتخابات، وكما اشرنا فإن الرواية بمثابة تفصيلات واضحة عن هذه الرحلة التي مر بها شخلول منذأن ولد وحتي صار من كبار التجار، ثم صار عضوا في البرلمان، وقد اختصر المؤلف كل الشخصيات كثيرة العدد التي مرت بحياة شخلول، إلي عدد قليل من الشخصيات ركز علي علاقته بهم، أولهم العمدة، ثم ابنته السفيرة عزيزة، والباشا واخته. وقد بدأ الروائي كأنه يحكي عن تماثيل أو دميات تتحرك، أكثر ا منهم بشراً واستخدم عبارات تقريرية في وصفه لهذه الأحداث رغم أن الكثير منها ذات صبغات عاطفية، مثل العلاقة التي ربطت بين جمالات وشخلول، وقد اختار الكاتب اسما يدعو إلي السخرية لبطله، وتبدو العبارات التقريرية مثلا فيما جاء علي لسان المؤلف حول الأب كان قصيراً قميئاً وكانت فارعة الطول جسيمة الحجم من النوع الذي يوصف في الريف بأنه كالمحمل.. وكان يتاجر في البيض، لكنها هي التي ادخرت الأرباح واشترت الجاموسة. وبدا المؤلف كأنه لا يحكي سيرة ذاتية بقدر ما هو يكتب تقريراً حول شخلول ومسيرته حيث يقول في صياغة تقريرية في الصفحة الأخيرة من الرواية علي النحو التالي وكان بودي أن أسجل سيرته الذاتية بعد أن أصبح برلمانياً داهية.. لكنني لا أستطيع هذا الآن فقد أصابه منذ أسبوع نزيف في المخ أدخله غرفة الإنعاش.. وهو الآن بين الحياة والموت. وفي الصفحات الخمس الأخيرة من الرواية تحدث الكاتب باقتضاب ملحوظ عن تجربة شخلول في المعركة الانتخابية وكيف أن الرجل استغل كل ممتلكاته لشراء أصوات الناخبين، وإذا كان الكاتب قد تحدث عن انتخابات البرلمان في بداية الأربعينات من القرن العشرين فان هذه الآلية لاتزال تستخدم حتي الآن حين مزق شخلول الكمبيالات التي يرتبط بها المتعاملون معه لأن السنة سماح في مولانا وحكومته، كما أن «شخلول» ظل يملأ فم مدير دعايته، وأعوانه من زبانية الدعاية بالكلام الذي تدور به ألسنتهم كما تدور اسطوات الفونوجراف. وشرح يوسف جوهر أن ما يدور في الانتخابات يوجد ببعض التفاصيل في الصفحات الأخيرة من الرواية.. فهناك صاحب المسبحة الذي يحكي للناس أنه رأي البيه يسعي إلي بيوت اليتامي والأرامل في الفجر.. وعلي كتفه زكيبة بها سمن وعسل وطيور وأرغفة من القمح الصافي. ابن نجية في خيوط السماء من المهم عمل مقارنة واجبة الكتابة بين ابن حفيظة في رواية يوسف جوهر، و بين ابن نجية في رواية «خيوط السماء» لثروت أباظة فكأنما الصديقان الحميمان لهما نفس الرؤية، والعالم نفسه الذي يعرفانه حول صعود الأوغاد أبناء الفقراء اجتماعياً.. ليحصلا علي نفس المكانة والمصير، حيث ان فرغلي ابن نجية في رواية أباظة هو البطل الذي صعد إلي قمة أحلامه، ثم تنهار كل هذه الأحلام وقد اتضح إلي أي حد انغمس الكاتب في رحلة بطله مشدوها بها بشكل سلبي من خلال وصفه لتفاصيل كل من رحلتي الصعود والهبوط، بينما كرس جوهر كل حكيه فقط لتبيان تفاصيل صعود بطله، وان كانت مسافة الصعود بالطبع ستكون أكثر طولا عند أباظة وأيضاً في رواية قصيرة ثالثة هي «حتي لا يطير الدخان» لإحسان عبدالقدوس، حيث قرأنا عن صعود وهبوط عضو مجلس الشعب فهمي ابن القرية الفقيرة. فرغلي في «خيوط السماء».. هو ابن العامل تلغراف بمحطة الديميرية، مثلما ان ابن حفيظة «شخلول» هو ابن لقروي يتاجر في البيض الفاسد والمرتة، وقد كان ابن نجية أسعد حظاً من صنوه شخلول، فهذا الأخير ساقط قيد، كما أنه ترك التعليم تماماً واكتفي بالحياة كمعلم له، أما ابن نجية فقد حصل علي بكالوريوس تجارة، مثلما حصل فهمي علي ليسانس الحقوق، وقد سعي ابن نجية إلي العثور علي واسطة من خلال أحد الباشاوات ليعمل في وظيفة مناسبة. الرجال الثلاثة الذين أمامنا ينتمون في المقام الأول إلي ما قبل الثورة المباركة، كما يراها جوهر وقد ارتبط كل منهما بالباشا وان كان فهمي قد ارتبط بأبناء الباشاوات في رواية إحسان عبدالقدوس يقوم بالتخديم عليهم.. ويقدم لهم كل التسهيلات لسهرات المخدرات. الأصل الوضيع أمعن ثروت أباظة في وصف الأصل الوضيع لبطله بالطريقة نفسها التي وصف بها يوسف جوهر. إذن فقد كان بطل ثروت أباظة أكثر شراً وغلاً من رفيقه في رواية «شخلول»، فهذا الطفل يتزعم فريقا يتكون من خمسة تلاميذ ويبدأون في ممارسة شرورهم التي تتمثل في مجموعة من الحوادث المتعاقبة، فهم يتزعمون صنابير مياه الشرب في المدرسة، ويصبون الحبر علي مقاعد التلاميذ مما يؤدي إلي اتساخ ملابسهم، كما يمزقون بالمطواة أحذية التلاميذ الذين يصلون في مسجد المدرسة، ثم يقوم فرغلي بالإبلاغ عن زميله مما يؤدي إلي فصله من المدرسة. هناك بصيص من الأمل في سيرة حياة بطل رواية يوسف جوهر، فهو أقرب إلي الشطار في الحكي الشعبي، انه يلازم دكان الزناتي حلاق الصحة، وهو يقدم خدمات إلي الخاملين جنسياً حيث يمنحهم أسباب الفحولة، لكنها في بعض الأحيان تأتي بنتيجة عكسية، وقد أحيط شخلول بالعديد من رواد صالون الحلاق، ورأينا كيف بلغ الذكاء بالشاب حيث قرر شخلول أن يفقس البيض الذي يبيعه عنده في الدار، تحت جناح أمه، وصار صاحب مشروع تجاري. ورغم ان الكاتبين قد اهتم كل منهما بالحديث عن تفاصيل مرحلة معينة من العمر، فان هناك تشابها بين الطرفين، في ان كلا منهما قد اتجه إلي العمل الحر، والتجارة في مرحلة مبكرة من حياته، حيث ترك فرغلي المدرسة التي فصل منها مثلما فعل ابن حفيظة والتحق بالعمل في أحد المقاهي يكسب منه ويعلمه مواجهة الآخرين، ورغم أن أباظة يصف لنا حيل الصغير لتحقيق مآربه الصغيرة مثله، إلا أنه يقول في عبارة تقريرية عن بطله: «مسكين فرغلي، لقد حرمته الحياة الضياء الوحيد الذي يستطيع به الإنسان ان يشق طريقه في ظلام الأيام». الكاتب صب كل مشاعره السلبية علي بطله سواء في رواية «خيوط السماء» أو «شخلول وشركاه» ويعطيه كل صفات الخسة والنذالة ويقول من خلاله ان السفلة يغفرون لبعضهم البعض التصرفات السافلة عن طبيعة موافيته وغريزة لا تدبير فيها ولا منطق لها، وهم يلعبون في أرض واحدة، يتسمون بانعدام الخلق، وهكذا فان الكاتب قد سد الطريق أمام تلميذه الصغير أن يكون حتي مجرد طفل يمكن ان يغتفر له، وكأنه ينبيء بأن هذا السافل الصغير، سوف يغدو يوماً نائباً «محترماً».. وسوف تتضاعف مصائبه وكوارثه». ومثلما سخر التلاميذ من فرغلي في أول أيامه بالمدرسة الإلزامية من خلال ماضي أمه الراقصة فانهم يسخرون منه أيضاً في المدرسة الابتدائية، ولعل المجتمع الصغير الكبير الذي يحيط بفرغلي هو أكثر سفالة من الصغير نفسه فهو حين كان في السادسة لم يفهم ماذا تعني عبارة «ع الواحدة»، وهو في يعرف لم المدرسة الابتدائية ان امه كانت غازية، وإن هذا شيء مشين، بينما يرقص التلاميذ حوله ساخرين منه، وحين يواجه أمه بما يعايره به زملاؤه تقول له: «الفقر ليس عيباً، وان كنت آكل لقمتي بعرق جبيني ولو لم أكن شريفة ما أبقاني أبوك في بيته». في رواية «شخلول وشركاه» حاول الشاب أن يمحو تاريخ فقره، وصحيفة سوابقه، ليس فقط فيما يخص أبيه، فلم تكن أمه التي لازمته في العمر حتي صار نائباً برلمانياً، سببا لخجله من الماضي، ومهنة الفرارجي، فمحا هذا اللقب واستبدله بلقب «المعلم» وخلع جلباب الدمور، ودخل في القفطان السكروتة والمعطف الجوخ.. والبلغة صارت جزمة بقفل. الإمعان في الطفولة الفارق في الكتابة بين الروايتين بسيط للغاية فأباظة يمعن في تفاصيل الطفولة أما جوهر فانه يصف صعود بطله في السلم الاجتماعي حتي صار العمدة يصفق له بحرارة في طلب القهوة، عندما يأتي إلي صالون الحلاق، لكن كما أشرنا فان مؤرخ سيرة حياة ابن حفيظة هو الذي يعايره بماضيه، علي طريقة المعايرة التي يقوم بها التلاميذ تجاه ابن نجية، وهو يقول: «يا بن المرسي حنظل قتيل المرتة والبيض الفاسد» ونجل حفيظة التي تجمع الزبد من البيوت، وتسرع به لتوزعه في بيوت البندر.. إلي آخر هذا الوصف من المعايرة المتكررة. لقد صعد شخلول من درجات سلم المجد مما أهله للجلوس في النقطة مع الملازم أول ناصف المحلاوي.. وللجلوس أيضاً مع العمدة.. ويصف الكاتب ان ابن حفيظة قد بلغ هذه المكانة لأسباب عديدة منها طول لسانه، وثقافته الشفاهية التي يأخذها من الآخرين، وأيضا ما يتمتع به من ظرف ومكوثه في أروقة قاع المجتمع وأيضاً عقليته الاقتصادية في إدارة الأعمال التجارية، من تربية الدواجن، وكما غزل طلعت حرب قطن مصر.. غزل شخلول قطن قريتنا الذي ابتاعه مقدماً. وقد بدا ماضي ابن نجية أكثر حلكة وظلاماً من صنوه ابن حفيظة، فقد عادت نجية يوماً إلي المسرح الذي كانت تعمل به، فيعاودها الحنين إلي الرقص وتهرب من الدار، وكان المؤلف قد دق مسماراً جديداً في النعش الذي شهد وفاة كل أخلاق بطله، ويدس المؤلف أنفه في كل حياة بطلة وهو يتساءل: «كيف ابن لراقصة سابقة يرفض ويقبل هذا الابن نفسه حين تصبح أمه راقصة عاملة، تري هل بعدها عن البيت هو الذي صنع هذا التناقض ام شعورهم بأن الابن أصبح من غير أم، أم هو مجتمع هوائي»؟ المؤلف في كلتا الروايتن لا يقف من سلوك البطل موقفاً حيادياً، بل إنه يصدر عليه الأحكام، حين يقول ثروت أباظة مثلاً: من كانت أمه راقصة في المجتمع المصري فهو يملك شيئين لا يتاحان لغيره.. يستطيع ان يلح وان يقبل أي حذاء وأن يضع رأسه حيث تأنف الأحذية ان تضع نفسها، هذه واحدة. أما الأخري أن الناس لن يستغربوا هذا منه، إذا عرفوا أنه ابن راقصة.. وانهم أيضاً يحبون من يجعل منهم آلهه، ومن أكثر مقدرة من ابن الراقصة علي ان يجعل عباد الله آلهة». أما يوسف جوهر فانه وصف أجواء أقرب إلي ما كتبه صنوه، ويذيل هذا الوصف قائلاً: «هذه حاشية أطول من المتن تضطرنا إليها حاجتنا إلي التعريف بالحظيرة التي تربي فيها شخلول النائب المحترم.. قبل الثورة طبعاً.. وهو ضمير لا يترعرع فقط في الحظائر.. وقد ينشأ في كليات الحقوق التي تنجب اسطوات الفقه الدستوري وترزية القوانين. وقد أمعن يوسف جوهر في وصف مصر في تلك الحقبة بشكل مفصل، وهو يقول «لعل ذلك كان من رواسب الحقب المتعاقبة التي حكمت فيها مصر بغير أبنائها وانتهك فيها الأتراك والمماليك ومواليهم كبرياءها.. وحكموها بالخوف، ويمكن القول إن شخلول والعمدة وأهل الريف والحضر عاشوا ذلك الماضي وعزتهم القومية مصابة بآفة تحتاج للمقاومة كدودة القطن. وهكذا وضع المؤلفان، كل في روايته، مفتاح الشخصية الخاصة ببطله من خلال جذور بطله، وراح يمعن في تحقيره، فهو يعود بنا إلي الوراء زمنيا، ويكشف لنا أباظة أن والد ابن نجية المدعو فهيم كان خفيرا.. وهذا بدوره تزوج بامرأة غاية في القبح دون أن تسبق له الفرصة أن يراها، وفهيم هذا هو ابن لخفير آخر، أي أن بطل رواية «خيوط السماء» قدورث هذه المهنة أبا عن جد، بينما لم يذكر يوسف جوهر في روايته أية معلومات عن جد ابن خفيظة.. وقد جعل الأب هو القميء أما الأم فهي فارعة الطول جسيمة الحجم من النوع الذي يوصف في الريف بأنه كالمحمل. لقد كسا المؤلفان أحد والدي بطليهما بالقبح والقماءة ليؤكدا أن ما يتسمان به من أخلاق له سبب عضوي وسبب اجتماعي.. وقد أنجب فهيم عند ثروت أباظة ثلاثة صبيان وابنتين ورثوا أقبح ما في الأم وأسوأ ما في الأب، خاصة أن له اختين عجفاوتين كأنهما عصي الخفراء، الأنوف فطس أما زوجة فهيم «نجية» فإن الكاتب أعطاها وظيفة الراقصة تمر بالجالسين بعد الرقص تجمع النقطة لكنها لم تلبث أن تحولت إلي جلد مكرمش بعد أن تزوجت. في رواية «شخلول وشركاه» فإن حفيظة وزوجها لم يرزقا سوي بابنهما بعد أن مات بقية الأبناء تباعا، حيث إن حفيظة كانت امرأة ولودا ترضع كل عام طفلا يموت قبل الفطام، مهما زودته بالأحجبة والتعاويذ وقد تعمدت أن تغفل قيد ابنها في مكتب الصحة وهي تردد: ما فائدة أن يدخل ابن آدم الدنيا بإيصال ويخرج منها بإيصال. طفولة الاثنين في الروايتين متقاربة تماما كالحة مقززة من أغوار القاع، ابن نجية حبيس البيت الفقير تمنعه أمه من رؤية الدنيا يشعر في الفصل أنه من فصيلة أخري غير فصيلة التلاميذ، يسخر الزملاء منه، وينتبذونه ويذكّرونه بماضي أمه الراقصة، ولذا فإن أباه يعمل علي نقله إلي مدرسة البندر وهكذا فإن أباظة لم يعط بارقة أمل واحدة ينفذ منها بطله نحو طريق الخير، وكأنه بذلك يدفعه دفعا مركزيا إلي طريق الشر، وإذا كان هناك طريق للخلاص أمام الدكتور فاوست، فإن الروايتين اللتين كتبهما الصديقان ثروت أباظة ويوسف جوهر قد قطعتا جميع طرق الخلاص أمام ابن حفيظة وابن نجية. أما شخلول فقد كان فاشلا في الدراسة، يكره الكتابة ويزدريها منذ أن ضربه عريف الكتاب، ووضع قدميه في الفلقة.. ولم يكن سبب الإيذاء أنه بليد، بل لأن أمه حفيظة تخلفت عن الوفاء بقمع السكر المنصوص عليه في اتفاقية تعليمه. في رواية «خيوط السماء».. وصف الكاتب طفولة فرغلي الأقل تجربة الذي بدا مشدوها بالبندر الذي ينتقل إليه كل يوم بالقطار، لكن هذه السذاجة تتحول من خلال زملائه الذين يرددون الألفاظ الجارحة إلي نوع من الشر المتأصل، تدفع بفرغلي نحو الجريمة وهو لا يزال صغيرا، حيث تعلم ماذا يعني أن يكون الإنسان فقيرا، حيث بدأت القتامة تكسو براءته، وتعلم كيف يكون صموتا جامد القسمات لا تعرف عضلات وجهه استرخاء الطفل. لم يتوقف يوسف جوهر طويلا عند طفولة ابن حفيظة، بل قفز به إلي سن العشرين، وكشف عن طموحه في هذه السن أن يكون برلمانيا، والمقطوع به أن هذا الصالون جرب فيه شخلول احتكاك الأفكار وصقل ميله إلي الحياة البرلمانية. صعود وهبوط نحن أمام طراز من الروايات يتعمد فيه المؤلف أن يصور دناءات ومراحل صعود البطل ثم سقوطه، هؤلاء الأبطال هم سقط متاع الزمن، ومحاطون دوما بمثلهم من الشخصيات، إنهم أقرب إلي حشرات الأرض، وقد صور كل من الكاتبين الملك ووزراءه وأصحاب الصدارة كأشجار لهذه الأرض وقد سعي أبطال هذه الروايات من الاقتران ببنات الطبقات الراقية بهدف الصعود الاجتماعي والوظيفي، حيث تزوج ابن نجية بسعاد.. يبدو أنك لا تعرف أهميتي اليوم، أنا عمود أساسي من عمر العهد. أما ابن حفيظة فإن عينيه تتجهان إلي ابنة العمدة ذات الأصول التركية التي لا تقبل الزواج به، لكنها ترضخ حين يغازل فيها لغة المصلحة والهدايا فتقبله علي مضض، وهي نافرة منه، ثم تبدو باردة في علاقتها به بعد الزواج، وقد أقام ابن حفيظة علاقة موازية مع أخت الوزير التي رفضت حضور حفل زفاف شخلول علي عزيزة، لأنها شعرت بالغيرة وقد أبلغته فيما بعد أنها تحبه فصار عليه أن يرتقي إلي سلم اجتماعي أعلي، بأن يصعد من طبقة العمدة إلي طبقة الوزراء، فيقوم بتسديد ديون جمالات ويدبر الخطط حتي يوافق الوزير أن يتزوج أبناء الصعاليك بأخته ذات الحسب، أي أن الشخصية الرئيسية هنا لا تتورع عن تدبير أحط أنواع المؤامرات والدسائس من أجل الوصول إلي هدفها الأسمي، وهو الحصول علي مقعد في البرلمان. وقد أصر شخلول أن يحتفظ بزوجتيه إحداهما علي أعتاب سن الخمسين مدمنة للقمار ولا يمكن أن تشفي منه، والثانية فتاة بكر.. وقد فعل ابن نجية الشماء نفسه الذي مارسه في نفس الحقبة الزمنية ابن حفيظة، حيث إنه تزوج بالنجمة إسعاد فريد لكن بشكل سري، وهذه المرأة هي شبيهة بجمالات، من وسط اجتماعي راق، وهي هدف للحصول علي المال والسطوة والقدرة علي التصرف في مقادير أقرب الناس إليه كما أنها تنتقل من مائدة قمار إلي أخري، وقد بدا هنا عند ثروت أباظة أن فرغلي قد صنع نجية أخري وهي إسعاد التي صارت تتصرف مثل أمه التي سقطت فيما قبل، وقد أنجبت إسعاد من زوجها طفلا سوف يكون رمزًا للجيل الجديد الذي ولد من أب يحمل اسمه، وآخر هو صاحب الجينات في جسده. كان من المهم أن نعقد مقارنة بين مصيري بطلي هاتين الروايتين، رغم وجود الكثير من بواطن الاختلاف، فقد أسهب يوسف جوهر في وصف الزهد الذي عاشه بطله، أما أباظة فقد أسهب في وصف رحلة سقوط ابن نجية، بعد المكانة الاجتماعية والسياسية التي حصل عليها، أما شخلول فإن الكاتب توقف عن الحكي بوصول بطل روايته إلي البرلمان بعد أن سحب البساط من تحت قدمي مرشح حزب الوفد وكان «دكتور» في الاقتصاد، ولكنه كان مفلسا، وكما ذكرنا في بداية هذه الدراسة أن آخر جملة في الرواية هي «وصار شخلول نائبا محترما» ثم أوجز المؤلف بشكل ملحوظ جدا وفي سطور قليلة بعض الجمل التليغرافية عن سقوط ونهاية بطله، حيث قال في المذيلة إن شخلول أصبح برلمانيا داهية، أما نهايته فقد كانت الإصابة بنزيف في المخ، أدخله غرفة الإنعاش. لم يهتم المؤلف أن يصف لنا بالتفصيل المقصود ب «داهية» فلا شك أن هذا كان في حاجة إلي رواية أخري لكن لا شك أن العبارة تعني الكثير في مدلولها، وقد أشار المؤلف إلي بعض مما فعلته قبيلة شخلول التي لن تنقرض من الأرض، ونعرف أن الرجل قد شارك في شركات توظيف الأموال، وصفقات استيراد لحوم الأبقار والغزلان والغربان، وهجمات التحريض وأن شخلول استولي علي دقيق الفلاحين الساقط في قواديس طاحونته، وعاش حتي استولي هو وذريته علي حمولات مراكب الدقيق والحديد والأسمنت، وقد أشار الكاتب إلي أن عقابا ما يحدث لمثل هذه الشخصيات يتمثل في أنهم صاروا الآن في الغابرين.. والجرأة عليهم مأمونة العواقب.