«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



خيري شلبي
كبير الحكائين
نشر في أخبار الأدب يوم 17 - 09 - 2011

أغمض خيري شلبي عينيه في لحظة غفلة، ليفقد الأدب العربي أحد أهم أعمدة السرد في الستينيات. الكاتب العارف بأسرار المدينة، خاض في أعماله ومواقفه معركته ضد الاستبداد حتي الرمق الأخير .
لم يكن مريضا، في الثانية صباحا اتصل بصديق عمره إبراهيم أصلان، تحدثا طويلا كما اعتادا في شئون الصحافة والثقافة وشجون السياسة، عاد شلبي بذاكرته إلي أربعينيات القاهرة ..متذكرا صحافة محمد التابعي ومصطفي أمين،وفجأة أنهي المكالمة ليستكمل كتابة مقاله طلب من زوجته كوب لبن دافيء،ذهبت لتعده، وعادت به لتفاجي برحيله، ظنت في البداية أنها مجرد مزحة منه ،وهو صاحب العديد من المقالب والمزح مع الأصدقاء..صرخت: " أكيد أنت بتهزر معايا".
رحل شلبي الذي التقي قبل يومين من رحيله سعيد الكفراوي أحد أ صدقاء العمر أيضا، قال للكفراوي مداعبا إياه:" عايزين نخلص من الايام دي يا سعيد" داعبه الكفراوي: "لسه بدري يا خيري"وفجأة أيضا استوقف خيري تاكسيا ملوحا للكفراوي: " ابقي كلمني يا ابن الكلب".
لقد كانت حياة صاحب " وكالة عطية" رواية مدهشة ثرية بالخبرات والتجارب التي تضيق بها حياة فرد واحد، ما انعكس علي غزارة أعماله وثراء عوالمها. هنا محاولة بسيطة للدخول إلي عوالم الأديب المدهش. إن كانت كل رواية يكتبها كاتب تضاف إلي مسيرته الأدبية، فإن كل رواية من روايات العم خيري شلبي في تصوري مسيرة أدبية قائمة بذاتها، ربما لأنه أكثر جيله إنتاجا، وربما لأن أدبه يتنوع في أشكاله وطروحاته بصورة كبيرة، فغالبا لا يتكرر شكل أو موضوع في روايتين، فالذي يقرأ "فرعان من الصبار" و"منامات عم أحمد السماك" و"وكالة عطية" و"صالح هيصة" قد لا يصدق أنها نتاج قريحة الأديب ذاته. وفي تصوري أن تسكين العم خيري شلبي في خانة "أدب المُهمَّشين" قد ظلمه إلي حد كبير، لا لأنه لا يكتب عن المُهمَّشين ولكن لأنه في كتاباته عن "المُهمَّش" قد تجاوز المفهوم المباشر أو الطبقي لما هو مُهمَّش، وأطلقه في مساحات أكثر رحابة، فهو يكتب لا عن المُهمَّش فحسب، وإنما عن المُهمَّش في الذات البشرية، ما يبدو أنه مُهمَّش تحت ثقل القشرة الخارجية السميكة في بعض الأحيان والتي يحلو لنا مواجهة العالم بها.
يستكشف العم خيري هذا المُهمَّش فإذا به هو الركن الركين في الشخصية، وما تهميشه إلا من قبيل عدم الوعي به، أو رفضه في جملة ما نرفضه من ملامح شخصياتنا، أو خوفا من أن نكون صفحة مقروءة أو لقمة سائغة لدي بشر يعيشون كأنهم ليسوا بشرا.
ولعل أكثر ما يميز أدب العم خيري هو أن شخصياته معجونة باللحم والدم الإنسانيين أكثر مما ينبغي، ولعل حميمية حضورها تكتسب كثافة تفوق ما لدي أشخاص نعرفهم ويعرفوننا ويملأون الأرض صخبا وضجيجا. صالح في روايته "صالح هيصة" أكثر حضورا في منطقة " معروف" بقلب القاهرة أكثر من كل الذين نلتقيهم فيها، والهيصة التي يفتعلها بين الحين والآخر لربما أكثر ألفة من كل ضجيج الحي بسياراته وعماله وبائعيه.
أذكر أني حين زرت قرية "شباس عمير" مسقط رأس العم خيري ظللت أبحث عن شخصياته التي طالما كنت موقنا أنها تحيا هناك في القرية وأن لا فضل للعم خيري في خلقها في رواياته، وحين رأيت بعضهم كانت صدمتي شديدة الوقع، لقد كانت ملامحهم في رواياته أكثر روعة وأكثر كثافة وعمقاً، وكأنه قد حوَّل شخصياتهم الضئيلة إلي أساطير متخمة بزخم الحياة. ولكني، بعد حين فهمت سر العم خيري، فهو لا ينسج أساطير حول شخصيات تافهة، ولكنه يستكشف الأسطوري والبليغ في البشر، إنه يحفر في الطبقات السميكة للبشر حتي يتضح له الحقيقي والجوهري والأصيل فيها. وكأنما البشر في بر مصر كطمي واديهم طبقات فوق طبقات تلزمهم "بريمة" كبريمة العم خيري لإخراج الكنوز الدفينة فيها، أو للبحث عن جذور " نعناع الجناين"!
كان قد تجاوز الثلاثين حين نشر كتابه الأول "اللعب خارج الحلبة" ولكنه لم يلفت الانتباه لنفسه إلا بعد صدور روايته الثانية "الأوباش" عام 1978 ويعلق وقتها نجيب محفوظ قائلا إن أحدا لم يقرأ الريف المصري كما قرأه خيري شلبي. ولكن يبدو أن ما من أحد قد التفت إلي أن قيمة رواية الأوباش ليست في الفهم الدقيق للريف المصري فقط وإنما في التقنية التي تناول بها حدثا يحدث في الريف، لقد كانت روايته أشبه ما تكون بواقعية سحرية آخذة في التشكل، ولكنها ليست كواقعية أمريكا اللاتينية السحرية التي تكتشف كيف يحوّل الخيال الشعبي وقائعه الحياتية إلي أساطير، كحادث هروب فتاة بصحبة حبيبها كما يعلق ماركيز في مذكراته يتحول بالخيال الشعبي إلي صعود أسطوري للفتاة إلي السماء، كما لو أن الخيال الشعبي يراوغ الحدث الموشك علي التحول لفضيحة ليجعل منه صعودا طهريا.
واقعية خيري شلبي السحرية في روايته الأوباش لا تفعل ذلك، وإنما هي تدع الواقع يقدم نفسه بنفسه باعتباره فوق الواقع، كأسطورة ولكن واقعية جدا، وفي الوقت نفسه يفصح عن أن الحوادث الخارقة ليست كذلك وإنما هي توهم بذلك فحسب. إن ماضيا أسطوريا سوف يُستدعي بكتاب ينام عليه الصبي (عامل التراحيل) دون أن
أبي خيري
بدأت علاقتي بالكتابة مبكرا جدا، ربما حين كان عمري سبع أو ثماني سنوات، وقبل أن أدرك معني أن أكون كاتبا، ورغم ذلك كنت أتعامل مع فكرة الكتابة علي أنها شيء عادي جدا بل وطبيعي، ولم لا وأنا أري والدي خيري شلبي يمتهن الكتابة، ووظيفته الرسمية التي أكتبها في أوراق المدرسة الرسمية هي "كاتب صحفي"، تلك الوظيفة التي احترت كثيرا في شرحها لزملائي التلاميذ، في حين كانت تُقابل باحتفاء خاص من المدرسين وخصوصا مدرسي اللغة العربية.
يعلم أن تاريخ عائلته مسطورا فيه، وحين يكتشف علاقته بالباشا فإنه سوف يكتشف ذلك كحدث أسطوري وليس واقعا رغم أن الحدث في حقيقته ليس أسطوريا وإنما واقعيا.
في بداية الثمانينيات سوف يحاول خيري شلبي طرق دروب جديدة للتعبير وطرائق مختلفة للتعامل مع البنية الحُلمية واستنفار مناطق اللاوعي في ثلاث مجموعات قصصية وسوف يصنع روايته التاريخية الفريدة "رحلات الطرشجي الحلوجي" في عام 1985 التي كشفت عن أن رواية تاريخية لا تأخذ في اعتبارها جغرافية التاريخ لا معني لها. ولذلك فإن الرواية تقنيا كتبت بوعي أن الزمن يحل في المكان وأن المكان يتحقق في الزمن، ولذلك يمكن القول إنها رواية زمكانية أكثر منها رواية تاريخية.
في منتصف الثمانينيات سوف يكتب رواية واقعية ضخمة بعنوان "الشطار" ومن وقتها سوف يظل علي إخلاصه للواقعية رغم تسرب بعض القصص بين الحين والآخر متخذة منحي تجريبيا.
والحقيقة أن واقعية خيري شلبي رغم جذورها الغربية تمتاز بطابع حكائي مصري أصيل، ولست أبالغ إن قلت إن خيري شلبي فعل بالرواية ما فعله يوسف إدريس بالقصة: تمصيرها. فإن كان نجيب محفوظ قد مصَّر موضوعات السرد فإن خيري شلبي قد مصَّر مبناه. لا يمكن لأي من قراء خيري شلبي أن يخطئ الحكاء الجالس خلف السرد كمنشد السيرة في الريف المصري، وفي رأيي أن حكائية السرد عند خيري شلبي تخدع دائما. يبدو السرد كأنه يسيل بلا هدف، وكأن لا بنية مخططا لها بينما يقع القارئ في شرك بنية خدَّاعة تخفي نفسها بنفسها حتي لا تشغله عن متابعة الحدث بوفرة تفاصيله وتنوع شخصياته، فهو أي الحدث أهم. سرد خيري شلبي أشبه ما يكون بطريقة بناء النكتة المصرية التي تبدو من فرط بساطتها وعامية لغتها بل وسوقيتها في بعض الأحيان بلا بنية، رغم أن البنية في النكتة المصرية في رأيي هي كل شيء. لولا الطريقة التي بُنيت بها النكتة لما كان للمفارقة الكامنة فيها أثر مضحك مبكي.
والحقيقة أن طريقته في الخداع تعتمد علي تقنية الماضي المستتر كأسطورة تنتظر لحظة انفجار وهي تقنية أصيلة في روايات خيري شلبي. وفي رأيي أنها تقنية أيديولوجية تعكس وعيا بفكرة التاريخ، ووعيا بأن التاريخ ليس أحداثا تتبع بعضها وإنما أحداث تتفاعل، فما القشرة الصلبة للحاضر إلا قشرة هشة جدا سوف يبحث الماضي المنصهر أسفلها عن أضعف حلقاتها لينفجر كالبركان. ولعل هذا الوعي بالتاريخ له علاقة بمعايشة سبعينيات القرن الماضي "زمن الانفتاح" وهو زمن قلب هرم القيم في مصر فأحل قيم التبادل محل قيم كانت أصيلة في الشعب المصري. ويبدو أن عداوة ما لهذه الفترة حكمت البنية السردية التي ترفض أن يُدفن الماضي دون حساب.
ولذلك فإن خيري شلبي يعد بجدارة أمير دهاء الرواية العربية، فلا تستسلم أبدا لنعومة الحرير السلس لسرده. فإن دققت النظر لوجدت جهدا مبذولا لطرّاز بارع التفاصيل عنده هي كل شيء، تجعيدة جبين فلاح غفل يجر حماره مهمة جدا ولكن قد يكون أهم منها تدويرة أذن الحمار نفسه، تفاصيله توهمك هي الأخري أنها موجودة لذاتها فحسب لمجرد أن راويها قد رآها ولاحظها ولكن وفرة التفاصيل في سرد خيري شلبي في رأيي أكثر من أن تكون طريقة واقعية للتعبير عن العالم، وفرة التفاصيل لديه مرتبطة بوفرة التفاصيل في الشخصية المصرية نفسها المعجونة بخبرات تاريخ طويل من الجدل مع الطبيعة والجدل مع الواقع والجدل مع الآخر. وهي أيضا مرتبطة أيضا بطريقة استحضار الواقع إلي السرد حتي ليمكنك الاكتفاء بالسرد دون مخالطة الواقع، سوف تعرف كقارئ خريطة حي معروف بوسط القاهرة كما لم يعرفه سكانه بعد قراءتك "صالح هيصة"، وسوف تعرف خريطة حي الجمالية كما لم يعرفه سكانه أيضا بعد قراءتك "الشطار".
في الألفية الجديدة تدخل واقعية خيري شلبي ما يمكن تسميته بواقعية الخوف. حيث ينتقل بهذه الثلاثية "زهرة الخشخاش" 2006 و"نسف الأدمغة" 2007 ثم "صحراء المماليك" 2008 من مرحلة التوغل في أحشاء الأحياء القاهرية وأحشاء المجتمع المصري إلي مرحلة أكثر رعبا بملامسة العصب العاري الذي كنا نعبره علي حذر، الذي نعرف أنه موجود في مكان ما.. هناك.. ولكننا نتعامل معه كما لو أنه لم يوجد. في صحراء المماليك تحديدا يكشف عورة الوطن الذي رغم توالي الأنظمة السياسية عليه فإنه لم يتمكن من زحزحة النظام السياسي للعصر المملوكي، لهذا فقط فإني حين ناقشته في ثورة يناير وقلت له إنها لم تكن ثورة ضد نظام مبارك وإنما ضد النظام العسكري لثورة يوليو أجابني قائلا إنها ثورة ضد المماليك!
كنت أعتقد في تلك الفترة أنني أكتب قصصا وألغازا للأطفال علي غرار ما كنت أقرأه للأستاذ محمود سالم، وخصوصا في السلسلة العظيمة "المغامرون الخمسة"، وكنت أعطي لأبي ليقرأ ما أكتبه، فيحتفظ بتلك الكتابات، ولا يقول لي أبدا رأياً أنتظره فيما أكتبه، والرأي الذي كنت أنتظره كان لابد وأن يكون علي طريقة ما يقوله لي مدرسو العربي من أن أسلوبي رائع ولغتي سليمة، وما إلي ذلك من مدح، ولكني لم أسمعه أبدا من خيري شلبي الوالد، حتي رأيت في أحد أيام العام 1982 واحدة مما كنت أعتبره قصصا، منشورة في مجلة الأطفال العظيمة "ماجد" الإماراتية وعليها توقيعي، وكان عمري وقتها تسع سنوات، لقد أرسلها والدي إلي المجلة، كما أرسل لي طلب عضوية في النادي الصحفي للمجلة مازلت أحتفظ ببطاقته الصحفية حتي الآن، فذلك الأب إذاً الذي كنت متحيرا من عدم مدحه لما أكتبه، فتح لي دون أن أشعر بابا لم أستطع إغلاقه بعد ذلك أبداً، فها أنا بعد ذلك بسنوات أتخرج في كلية الإعلام بقسم الصحافة، وها أنا أعمل صحفيا في مؤسسة الأهرام ، وها أنا أستوعب الدرس بطريقتي الخاصة، وأكتب ديواناً بشعر العامية المصرية لا أطلع والدي عليه، حيث كنت أريد أن يفاجأ به منشوراً ليعرف أنني لا أريد الاعتماد عليه هذه المرة، لكنني اكتشفت أنني مازلت أحتفظ بسذاجتي التي كنت عليها منذ ستة وعشرين عاماً، فبعد أن تأخّر صدور الديوان نتيجة سفري لحوالي عام ونصف، فاجأتني الأخبار بأن ذلك الوالد الذي أخفيت عنه خبر الديوان يراجع البروفات بنفسه ويطمئن علي ميعاد النشر، بل ويكتب بخطه الكريم عنوان الديوان واسمي علي الغلاف. لقد كنت ساذجا بالفعل ومازلت، فأنا حتي الآن أنتظر رأيه في الديوان، لأني لا أعرف بالفعل هل ما فعله معي صغيراً وأعاده بطريقة أخري وأنا في الثلاثينيات من عمري رأيا فيما أكتبه، أم مجرد مشاعر أب تجاه ابنه الذي احتاج وسيحتاج دائما مساعدته.
زين خيري شلبي
إثنان من أساتذتي في معهد المعلمين العام في مدينة دمنهور كان لهما أكبر تأثير في شخصيتي وثقافتي دون بقية الأساتذة رغم اعترافي بأفضالهم جميعا, كل في مادته. ذلكما هما: الأنصاري محمد ابراهيم, وبهاء الدين الصاوي. الأول كان أستاذا للغة العربية وأدبها, والثاني كان أستاذا للرسم والأشغال.
كانت حصص المطالعة والنصوص أو المحفوظات والانشاء من أمتع الحصص, ليس بالنسبة لي فحسب, بل بالنسبة لجميع طلاب الفصل كله. وحينما أتذكر اليوم هذا الأستاذ الجليل الأنصاري محمد ابراهيم, في مقابل ما نراه اليوم من مستويات متدنية في التعليم بجميع مراحله أشعر بأسف ومرارة شديدين: كيف كان عندنا مثل هذا المستوي الراقي من أساليب التعليم؟ ثم كيف تراجع واختفي, لنصبح كأننا لم يسبق لنا معرفة أساليب التربية والتعليم طوال تاريخنا!كان الأنصاري محمد ابراهيم نموذجا للمعلم الذي جمع في شخصيته بين امكانات المعلم واتساع أفق الأستاذ. فلئن كانت وظيفة المعلم أن يعلمك مبادئ الأشياء فإن وظيفة الأستاذ أن يستفز قدراتك الخلاقة ويدربك علي الاستخدام الصحيح للمنهج العلمي ويوجهك إلي المناطق البحثية الجديرة بالدرس.
وقد كان الانصاري محمد ابراهيم معلما وأستاذا معا. كان معنيا بالبناء العقلي لطلابه, وباستنفار مواهبهم وتنشيط ملكاتهم الخلاقة وارشادهم إلي الطرق الصحيحة, وتغذيتها بالثقافة الأدبية, وإيقاظ المشاعر الايجابية, وتوجيهها إلي طموحات تتجاوز حدود الغرض المباشر من التدريس في هذا المعهد ألا وهو بناء المعلم الذي سيناط به تعليم النشء في المدارس الابتدائية. تلك كانت مهمة معهد المعلمين العام, ولكن الانصاري محمد ابراهيم كان يهدف إلي تصنيع المعلم الأديب المثقف, إذ كلما كان المعلم في المدارس الابتدائية واسع الأفق أدبيا مثقفا عاد ذلك علي تلاميذه بالنفع المستنير.
شكل الأنصاري محمد ابراهيم كان متميزا بنفس القدر الذي تميز به محتواه الموضوعي التربوي. كان أسمر البشرة في لون الشعير, لون الخبز السن. كان فارع الطول, نحيف البدن إلي حد ما, أنيق الملبس إلي حد كبير, بذوق في اختيار الألوان يعكس جمالا داخليا, مغلوق الشعر من الجنب الأيمن رغم أن الشعر في رأسه قليل علي مساحات صلعاء إلا أنه مصفف بعناية. رأسه صغير مدور كالرمانة لكنه ذو وجه باسم مشرق عظيم الحياء. صوته رخيم عريض ذو نبرات قوية مؤثرة تحب الأذن الاستماع إليه طويلا. وحينما يقرأ علينا نصا من نصوص المحفوظات يشعرنا كأن النص صادر عنه هو شخصيا, إلقاؤه يتكيء علي المفردات الموحية فيجسد الإيحاء, وعلي المعاني المضمرة في الألفاظ فيشخصها بالأداء, فما أن ينتهي من الإلقاء حتي تكون القصدة قد صارت مضيئة واضحة الدلالات في غير حاجة إلي شرح نثري, مما يجعلها سهلة الحفظ في الذاكرة.
غير أنه يستأنف الشرح بطريقة ناجحة بارعة شائقة, يطلب من أحد الطلاب أن يقف ليقرأ علينا أبياتا من القصيدة ولا يتدخل الأستاذ إلا ليفسر معني مفردة تكون غامضة, أو ليبرز معني مستترا, أو يشير إلي دلالة تعطي الصورة الشعرية آفاقا أوسع وأعمق, أو يشرح الخلفية الثقافية أو الاجتماعية أو القبلية للشاعر, أو يصحح النطق إذا أخطأ الطالب في التشكيل. شكرا يافلان, قم يافلان واستأنف الإلقاء من حيث انتهي الزميل, وهكذا يشارك معظم طلاب الفصل في إلقاء القصيدة فما إن ننتهي حتي يكون جميع الطلاب قد استوعبوا القصيدة وأحبوها وأحبوا الشعر والشعراء من أجل خاطرها. وأيضا يكون الطلاب قد ازدادوا عشقا للغة العربية, لاسيما والأستاذ الأنصاري محمد ابراهيم كان يقرأ بطريقة الدكتور طه حسين في ترتيل اللغة العربية علي ذلك النحو البديع الساحر.
حصة المحفوظات كانت ثلاث مراحل, أشبه بسمفونية مكونة من ثلاث حركات: الحركة الأولي قراءة الأستاذ للنص سواء كان قصيدة أو خطبة أو قطعة من الأدب النثري القديم أو الوسيط أو الحديث. الحركة الثانية قراءة الطلاب للنص واحدا بعد الآخر, وهذه تتضمن شروحا هي في الواقع تدريب علي التذوق الفني. الحركة الثالثة أن يقوم الطلاب واحدا بعد الآخر للتحدث عن جماليات النص من وجهة نظرهم, ويا حبذا لو اجتهد الطالب وأتي بلمحة جديدة لم يسبقه إليها الأستاذ أو أحد الزملاء وعندئذ يتلقي الطالب تقريظا يرفع روحه المعنوية ويثير في بقية الطلاب روح الاجتهاد والبحث, خاصة حين يأخذ الأستاذ الخيط من الطالب وينوب عنه في توضيح ما عجز الطالب عن توضيحه بالقدر الكافي.
كانت ورشة لبناء الذائقة الفنية, وتفتيح الوعي الفطري علي الاحساس بالجماليات الأدبية التي توصف بالجمال لقدرتها علي توصيل كبريات المعاني والأفكار والمشاعر بمفردات قليلة. ورشة يقودها أمهر الأسطوات.
علي أن وصف الورشة ينطبق أكثر علي حصة الانشاء شرط أن يكون الأسطي هو الأستاذ الأنصاري محمد ابراهيم. إن الفرق اللغوي بين الأسطي والأستاذ ضئيل جدا, لكن الفرق بينه ومعلمي هذه الأيام هو الفرق ما بين السماء والأرض. ذلك لأن امكانياته التربوية قد تكاملت بقيام صلة وثيقة بينه وبين حركة الثقافة المصرية آنذاك كان أديبا وإن لم يصرح لنا بذلك ولم ينشر شيئا من نتاجه ولعله كان يستعيض عن كتابة الأدب بتدريسه, فكان تدريسه إبداعا, وكنت أشعر بأنه يتلذذ بالابتكار في الشرح والتوضيح كأنه يعيد صياغة النصوص التي يشرحها, فيضفي عليها روعة فوق روعة.
حصة الانشاء كانت ورشة إبداعية بمعني الكلمة. بأصبع الطباشير يخط علي السبورة بخط رقعة جميل بحروف كبيرة رأس الموضوع. وموضوعاته كانت دائما جديدة مبتكرة, حررتنا من دائرة العقم التي حوصرنا بها في مرحلة التعليم الابتدائي بموضوعات سقيمة جافة من قبيل: صف المدينة في يوم مطير. عناوين الأستاذ الأنصاري كانت تنشئ كاتبا أديبا منفتحا علي حركة المجتمع يفكر في كتابة مقال يعالج فيه قضية مطروحة أو مشكلة تتحدث عنها الصحف أو عيبا من عيوب المجتمع البارزة أو خصلة من الخصال الشائعة بين الناس, حبذا الخصال الايجابية التي يتميز بها الشعب المصري من خصال المودة والتضامن والتآزر والإيثار والتضحية والدفء الإنساني, لكن لا بأس من التعرض للخصال الذميمة وكيفية علاجها بالبحث في جذورها واستكشاف المسئول الحقيقي عنها..
أتراه كان يؤهلنا لأن نكون أدباء وشعراء وصحافيين إلي جانب تأهيلنا لأن نكون معلمين ذوي فاعلية في المدارس الابتدائية؟.. أجزم أن هذه كانت من طموحاته التربوية. ولهذا بقي اسمه في ذاكرتي علما علي جدية الدراسة المتقدمة في معهد المعلمين العام آنذاك. وحينما أتذكره اليوم فإنه يحضر حضورا كاملا ممتعا, فأكاد أمد يدي لكي أصافحه في وجل وهيبة كأنني لا أزال طالبا بالمعهد. أتذكر أيضا: لماذا كان حريصا علي تسمية الحصة باسمها الكلاسيكي الأصلي: الإنشاء, رافضا ذلك الاسم الجديد الذي أطلقته وزارة المعارف علي حصة الإنشاء: التعبير وحينما كان البعض منا يسأله عن الفرق بين الكلمتين: التعبير والإنشاء؟ يجيب قائلا بصوت متهدج بالانفعال في نبرة هادئة الإيقاع لكنها قاطعة: أوهوووه! فرق السماء عن الأرض: فصحيح يقول إن الانشاء تعبير أي نعم, ولكن ليس كل تعبير انشاء. فالتعبير أداة للإنشاء, والإنشاء يعني اقامة بناء معماري علي أسس مدروسة, فكاتب القصة أو الرواية أو شاعر القصيدة والمسرحية إنما يقيم بناء معماريا محكما علي الورق في مكان وزمان معينين حيث توجد بيئة وشخصيات وأحداث وصراع يحتدم بين عناصر متناقضة ينتج عنه تطور في الشخصيات والمواقف إلي ذروة درامية قد ينتصر فيها عنصر علي الآخر أو نصل إلي نهاية حتمية لابد منها تبعا لمنطق الصراع, وقد تبقي النهاية مفتوحة إشارة إلي أن الواقع لم يحسمها بعد كل هذا يقول يقتضي بناء فنيا متسقا ومحكما, وهذا هو الإنشاء. وحتي المقالة الأدبية أو الصحفية لابد لها هي الأخري من انشاء, من بناء يقوم بالتأسيس لفكرة المقال ومغزاها, ثم البناء علي هذا التأسيس في ترتيب منطقي للأفكار الفرعية بحيث تؤدي الفكرة إلي التي تليها صعودا إلي ما يمكن أن يكون القول الفصل في الموضوع المطروح في المقال.
فصل من السيرة الذاتية
للراحل تنشر قريبا
بعض الأصدقاء- من الكاتبين أو القارئين- يطلقون علي فؤاد معوض لقب «الكاتب الساخر» أما هو نفسه فيطلق علي نفسه لقب «فرفور».. أما أنا فهو في نظري فنان بالدرجة الأولي، فنان عَصيّ علي الانضواء تحت مظلة معينة لأنماط التعبير المتعارف عليها.. وإذا كان قد اتخذ من الكتابة الصحفية أداة للتعبير عن نفسه فإنه قد خسر، وكسبت الصحافة، ولو أنه اتجه للتمثيل منذ وقت مبكر لكان أحد ألمع نجوم الفكاهة في المسرح والسينما والتليفزيون والإذاعة سيَّما أنه يملك من المقومات الشكلية والموضوعية ما يؤهله لذلك، فشكله جميل جداً، وسيم الملامح والتقاطيع، ذو قوام رشيق قابل للياقة بدنية مما تحتاجها جميع الأدوار، كما أنه مصري السمات والروح، ناهيك عن موهبة التشخيص التي يعرفها عنه كل من يقترب منه، بل إن الطاقة التمثيلية عنده أقوي مما عند الكثيرين من النجوم اللامعين باسم الفكاهة وهم لا يملكون منها إلا الصفاقة والتناحة.
ممثلو الفكاهة عندنا- أقصد الموهوبين منهم- يضحكون الناس ويبذلون في سبيل ذلك جهوداً مضنية، قد تصل أحياناً إلي حد الافتعال والتعمُّل وتصل أحياناً أخري إلي حد تمسيخ النفس وتهزيئها فيضحك الناس «عليهم» وليس «منهم» وسواء ضحك الناس منهم أو عليهم فإن الأمر يستوي عندهم، فالمهم في نظرهم هو أن يتسببوا في إضحاك الناس بأي شكل.. وهذا ليس من الفن في شيء كما أنه لا يكسب احترام الناس حتي وإن أظهر غير ذلك.
أما فؤاد معوض فإنه يضحك فناني الكوميديا أنفسهم.. إن هؤلاء الذين احترفوا الفكاهة وتخصصوا في إضحاك الناس لا يضحكهم بصفاء يبث فيهم طاقة فكاهية خلاقة ويوجههم- دون أن يقصد- إلي مكامن الفكاهة في الحياة، وإلي الحكمة المخزونة في صدور البشر، الكلمة التي لا تظهر لأي أحد ولو كان موهوباً، إنما هي لا تظهر إلا لذوي القدرة علي اكتشاف المفارقات والمتناقضات ذلك أن فؤاد معوض علي قدر كبير جداً من الذكاء، وهذا شيء طبيعي، لأن الإنسان الظريف الموهوب لابد أن يكون بالضرورة ذكياً، وليس كل ذكي بالضرورة ظريفاً ولا موهوباً.
وفؤاد معوض بهذه الخصيصة يعتبر من نفس القماشة التي فُصِّلت منها شخصيات لا تغيب عن الذاكرة المصرية، شخصيات من أمثال علي الكسار وعبدالمنعم مدبولي ومأمون الشناوي ومحمود السعدني ومحمد عفيفي وأحمد رجب وجليل البنداري والمعلم دبشة الجزار وامام العبد وحسين الفار وسلطان الجزار وأحمد شكري الشهير ب«أمشير».. أعني قماشة الفرفور التي إن أردنا لها تمثيلاً بدنياً وروحياً وتراثياً لالتمسناه في شخصية فؤاد معوض.
شخصية ال«فرفور» ليست من اختراع يوسف إدريس كما قد
اللي ألف مامتش
يقولون: إللي خلف مامتش. ثم أضافوا وإللي ألف مامتش أيضا. بالرغم من أن خيري شلبي جمع بين الأمرين، خلفّ وألفّ: أربعة أبناء لهم علاقة وثيقة بالأدب والفن والثقافة، و75 كتاب متنوعا في الرواية والقصة والمسرح إلا أن ما لم يكتبه عم خيري يتجاوز كثيرا ما كتبه. وهذا ما قد يضاعف حزننا عليه.
الذين يعرفون صاحب " موال البيات والنوم" يعرفون عشقه للحياة، هو أحد خبراء القاهرة، العارف باسرار المدينة، حواريها، أزقتها، مطاعمها، باراتها ..مقابرها،حيثما تولي وجهك تجد خيري شلبي،معروفا للجميع، عارفا بتاريخ المكان والزمان..عمله في الإذاعة والمسرح والصحافة أتاح له أن يعرف الكثيرين معرفة شخصية عميقة اهلته أن يدخل إلي كواليس السياسة والثقافة والفن في مصر . ما لديه من أسرار وأشعار وحكايات يفوق كثيرا ما كتبه. في إحدي الجلسات الثقافية المغلقة، وبين اصدقاء سهر العم خيري يتحدث، لم يستطع أحد أن يوقفه عن الحكي، جمهور المثقفين حوله يضحكون أو يعلقون .. هو بهدوء شديد ونبرة صوت مختلفة، لا ديماجوجية راح يحكي ..عن شخصيات شهيرة عرفناها، وأشعار لا يحفظها أحد سواه، وكتب لم نسمع بها، بينها مخطوطات حصل علي صور لها من ورثه أصحابها أو من دار الكتب، أو حتي من مكتبات الجوامع القديمة .. ومعظمها غير معروف أو منشور!
سألته وقتها كيف نبحث عن طريقة لنكتب هذه الحكايات " المرفوعة دائما من النشر" بدون أن نقع تحت طائلة القانون. ما حكاه يومها عن نجيب محفوظ يتجاوز كل ما كتب عن محفوظ ... وهذه الحكايات جزء من الذاكرة الثقافية إن لم يكتبه العم خيري فلن يكتبها أحد غيره ، لأنها ملكه ، تخصه، كان شاهدا عليها ... ويومها وعد أن يكتب ما يعرف في سيرته الذاتية التي كان مترددا تجاهها ..رغم أنها تفوق جرأة وفنية سير كاتب مثل ماركيز .. وكان يعتبرها " الف ليلة وليلة الجديدة". دائما كنا نسأله متي سيكتب سيرته؟ وكان يرد :" لا أملك حق نشر ما أعرف لأنها حكايات تخص الآخرين .." ! ولكن العم خيري نشر منذ أيام قبل رحيله الجزء الأول من السيرة " أنس الحبايب" ( الهيئة العامة للكتاب) عن أيام الطفولة والتشرد، عن أهل قريته المنسيين، وطقوسهم السحرية، والكتب التي سحرت خياله وقادته إلي عالم الأدب ، وتوقف عند بدايات كتابة القصة الرومانسية ، واعدا القارئ باستكمال السيرة في أجزاء أخري، ولكن الحياة لم تعطنا ما كنا نتوقع.
لم يكن بيت عم خيري في المعادي بيتا بالمعني المتعارف عليه، كان مكتبة وضعت الأسرة بعض الأشياء التي تضمن عيشهم، الكتب في كل مكان، وهو يستقبل الجميع في البيت، وخاصة الكتاب الشبان، يقرأ أعمالهم ويحنو عليهم ، ينصح أحيانا، ويتحمس لمن يجد فيه الموهبة، كان البيت فعلا لأسرة كبيرة تتجاوز الأفراد الرئيسين ليشمل كل من كتب ويكتب ليس في القاهرة وحدها ولكن في أقاليم مصر المختلفة.. عندما صدر كتابي " رسائل عبد الحكيم قاسم" تركت له نسخة من الكتاب في المجلس الأعلي للثقافة ، وبعد يومين اتصلت لأطمئن هل وصلته النسخة أم لا ..قال: لقد انتهي منه وكتب عنه في جريدة "الأسبوع" ..وكتب كتابه عاشق لزميل جيله، وبتفاصيل من قرأ بتمعن..وهكذا كان دأبه دائما مع كل الكتابات الجديدة.
سيرة صاحب " الوتد" مكنته أن يضع نفسه- رغم كل ظروف الاحباط التي واجهته، وظروف الحياة الصعبة في مكانة متفردة في تاريخ الرواية العربية. كان صاحب مدرسة متفردة نقيضة ربما لمدرسة الحداثة التي مثلها إداور الخراط. شلبي كان يكتب علي الأرض، عن الواقع والتراب، عن الهوامش المنسية .. لغته هي لغة هؤلاء البشر المطحونيين ..في السنة الأخيرة كان فرحا، فقد أصبحت رواياته " بيست سيلر" ، وكانت تنفد بعد صدورها مباشرة ..قال:" حاجة غريبة .. في أيامنا الأخيرة بدأنا نشتهر والناس بتقرانا ".. كان يعتبر أن كتبه السابقة مجرد محاولة للتمرين علي الكتابة وأن أيامه القادمة ستشهد انفجارا ابداعيا ، سيكتب فيه ما يريد بعد أن وجد صدي لما يكتب، وخاصة أنه كان يشكو دائما من قلة عدد القراء ، وتجاهل النقد لما يكتب ، وتجاهل اليسار له وكأن الانضمام الي حزب يساري تحت الأرض أو فوقها يعطي للكاتب مشروعية.
في مكتبته يضع شلبي صورتي يحيي حقي ونجيب محفوظ امامه دائما، يستعين بهما علي مواجهة الاحباط ، الأول هو أكثر الرواد تأثيرا فيه لغويا واسلوبيا ومعرفيا، أما محفوظ فيراه هو مؤسس فنّ الرواية في الثقافة العربية ورائد التكنيك الروائي. كلاهما " تميمة" عندما يصيبه الإحباط، يرفع راسه ليستمد منهما طاقة طاقة معنوية وقدرة علي المقاومة، لأنّني أتذكر ما قدّماه لحياتنا الثقافية. في أيامه الأخيرة كان يتابع بدقة شديدة تفاصيل الثورة المصرية، يقلق أحيانا، ويفرح أحيانا ..ولكنه كان يحارب معركته ضد القمع والدكتاتورية .. وتحديدا ضد التيارات المتأسلمة معتبرا أن التيار الديني لو قدر له أن يحكم مصر، فسنواجه ديكتاتوراَ يستحيل إزاحته.
بالتأكيد مصر بدون العم خيري ستصبح أكثر فقرا، وخسارته كبيرة ..رغم أنه خلف وألف!
محمد شعير
إسطاسية آخر أعماله الروائية:لعبة المرايا
ربما كانت "إسطاسية"، آخر روايات "خيري شلبي" المنشورة، هي أشدها طموحا في خلق نص قائم بالكامل علي تداخل الأصوات ووجهات النظر.. فالرواية تُسرد عبر سبعة أصوات تتبادل الحكي، وتتناوب علي تأويل الحدث المركزي، كاشفة في النهاية عن مجمل الخطابات الثقافية المتصارعة في لحظة مأزومة، اجتماعيا وثقافيا، مسرحها ريف الدلتا، الذي يلخص في الحقيقة الصورة الأشمل لمصر.
الحدث المركزي هو جريمة قتل فاعلها مجهول.. يقتل محفوظ غطاس، القبطي، ابن الأرملة إسطاسية بشكل غامض.. وتدور الشبهات حول أكثر من شخص تبدو احتمالات إدانتهم متساوية في الإدانة. يعود "حمزة البراوي"، الذي أنهي للتو دراسته الجامعية في كلية الحقوق بالإسكندرية، للبلدة بعد أربع سنوات من الغياب حالما بالعمل كوكيل للنيابة.. ليجد أمامه أول قضية.. "قضية أرسلها الله له" بكل ما في هذه الجملة من معني، يبدأ حمزة في التفتيش عن القاتل أو القتلة.. حتي تتكشف الوقائع في النهاية وتنجلي الحقيقة الدفينة. هذا هو المستوي القريب للنص، والذي يحقق كل شروط الرواية البوليسية المتقنة: جريمة قتل غامضة، ترقب، مفاجآت تتكشف مرة بعد أخري، وحقائق ما أن تستقر حتي تنقلب رأسا علي عقب. غير أن رحلة البحث البوليسية هنا ليست كل شئ، بل إنها ليست سوي مستوي أولي يكشف عن مستوي أعمق ملتبس به: فالرحلة تتواشج هنا مع رحلة بحث وجودية، تفتش عن الله وتبحث عن وجوده، عن الطاقة المفارقة المحركة للإنسان.. الغطاء البوليسي ليس إلا وجها لعملة، ملتصقا بوجهها الثاني وهو السؤال الفلسفي الكبير، والسؤال هنا عن وجود الله، عن تجليه، عن علاماته المبثوثة، عن كيفية العثور عليه.
حمزة إذن يخوض رحلة مزدوجة: يبحث عن نفسه كوكيل للنيابة، بنفس القدر الذي يبحث به عن نفسه كوكيل لله ان جاز التعبير، كرسول للعدالة، كوسيط بين الله والبشر في بعد أكثر رمزية تؤكده الرواية، أليس "حمزة" بشكل ما رسولا هنا جاء ليحقق عدالة الله في أرض سادها الفساد؟ حمزة هو النبي في تجليات كثيرة: هو يتناص مع "يوسف" النابت في أسرة كريهة، هو حامل الرسالة الإلهية عبر وحي، هو هنا أبوه الراحل/ الحاضر فيه بوصاياه وتعاليمه.. هو من يكافح ويصير عرضة للأذي حتي من أقرب الناس له لكنه لا يأبه حتي يكمل ما أتي من أجله.
وبدورها، تلتبس الرواية، في وجه ثالث، بالسؤال المجتمعي في لحظة موقوتة، عامرة بتطرف ديني، وفساد، وتصدع شبه كامل للطبقة الوسطي، راصدة زخم الخلفية الاجتماعية بكل ما اعتورها من عورات وشروخ.
هذه مستويات ثلاثة رئيسية يكشف عنها النص، في حبكة واحدة، وهي مستويات تقابلها في الحقيقة مستويات التلقي.

خمسة وعشرون فصلا تؤلف الرواية، بينها ثمانية عشر فصلا مرقمة، هي تلك التي يتموضع فيها حمزة البراوي كسارد، وستة فصول مرقمة أبجديا، من (أ) إلي (ز)، تتناوبها أصوات سردية أخري من شهود الواقعة وأهل البلدة.
حمزة يسرد ثلثي عدد الفصول مقابل الثلث لست شخصيات أخري. نحن في الحقيقة إذن، أمام سبعة رواة أو ساردين للواقعة نفسها، وعلينا ألا نغفل شيئا مهما: هو ان مساحة السرد التي يحتلها حمزة وان كانت الأكبر إلا أنها مساحة تساؤل في أغلبها، لأنه ينطلق من موضع أشبه "بالمحقق" الذي لا يعرف أين بالضبط تكمن الحقيقة، بينما يقدم الستة الآخرون إجابات، أو تصورات بالحقيقة.
العلاقة بين الأصوات جدلية إذن، سائل ومجيب، وعبر هذه البنية تتكشف الواقعة شيئا فشيئا.
يصير صراع الأصوات الساردة في حد ذاته دراما توازي الحبكة الروائية. وفي هذا النسق، تخوض الرواية غمار تحد ليس بالسهل، إذ كيف لكل صوت، مع هذا العدد غير القليل من الأصوات، أن ينجو بخصوصيته علي مستويين: خصوصية خطابه اللغوي، وخصوصية خطابه كموقف ثقافي.

لنبدأ بحمزة، الذي يتحقق حضوره علي عدة مستويات. فهو محرك رئيسي للأصوات الأخري بقدر ماهو متورط في استقراء الحدث عبر كل زواياه.
يتنقل حمزة كسارد بين الزمن الحاضر، حيث يحقق في الجريمة، والماضي، الذي يقدمه عبر تقنية الاسترجاع "الفلاش باك"، فضلا عن الاستشراف، ولن أقول الاستباق.. فحمزة ليس ساردا عليما كي يستبق ما سيحدث، لكنه فقط يستشرف بحدسه كافة الاحتمالات المستقبلية فيما يخصه ويخص بلدته. يقع حمزة إذن بين ثلاثة أزمنة، ويمثل الشك مفتاح خطابه. شك يتساوق وحاضره العامر بالأسئلة، ومستقبله الذي صار مهددا بالضياع.
لغة حمزة تعكس بدقة روحه، فهو بليغ، يسرد بقدر ما يتأمل، ولديه قدرة علي "أسطرة" اللحظة الواقعية ومنحها أبعادا رمزية وتخييلية، وهو ما يتجلي في المدخل الشعري للرواية، المروي علي لسانه، والذي يتخذ من "النار" كدال، متكئا ليصور ألم اسطاسية ووضعية القرية في نفس الوقت.
أول الأصوات الحاضرة في الرواية بعد ذلك، هو صوت أم حمزة. إنه انتقال سلس لصوت يشارك حمزة التعاطف، ووجهة النظر..صوت هو في النهاية رحم لصوته، متصل به. هو أول صوت كاشف بعد صوت حمزة، وهو يكشف لحمزة قدرا من الملابسات، كما يعكس وجها آخر لصوت اسطاسية نفسه..ويقدم في صورة مونولوج طويل.وهو انتقال يخلق أيضا حالة من الحيوية ويضخ الدم في الإيقاع، لأنه انتقال من صوت الذكر إلي صوت الأنثي.
الأم تبدو وكأنها تتحدث لمخاطب حاضر أمامها، هو "اسطاسية". نحن إذن أمام أنثي توجه خطابها لأنثي. وعلينا أولا أن نلاحظ المشتركات العديدة بين أم حمزة وأم محفوظ الحلاق، فكلاهما أم، وكلتهما تملك من الحياة ابنا واحدا، وكلتهما أرملة، وكلتهما مكلومة علي ابنها.. واحدة لأنها فقدته، والثانية لأنها علي وشك أن تفقده.. فضلا عن مشترك آخر، هو أن ابن ام حمزة قرر أن يكون المدافع عن محفوظ. كل هذه المشتركات تجعل خطاب أم حمزة يتماهي مع أم محفوظ، التي تبدو وجها آخر لها تعكسه مرآة، وهو ما يجعل خطاب أم حمزة يبدو وكأنها تتحدث إلي نفسها في الواقع، تناجي ذاتها التي التبست بإسطاسية.
هو خطاب يمزج بين العامية والفصحي في ثنياته، متسقا مع خلفية ام حمزة، فهي متعلمة.
ننتقل إلي صوت "عازر" عمدة عزبة الحجر.. والذي يتحدث بدوره متبنيا ضمير المخاطب، الذي يشي بأنه يتحدث لشخص يجالسه، ولا نعرف بالضبط طبيعة ذلك الشخص. هو صوت كاشف ثقافيا عن الخطاب القبطي لإحدي شخصيات الرواية.
وفي التفات ذكي، يجئ صوت عابد البراوي علي هيئة خطبة جمعة يلقيها من فوق المنبر، خطبة تكشف عن بلاغة عقيمة من جهة بلغة مزخرفة متكلفة، وعن خطاب يستخدم الدين في أسوأ شكل.. وهنا تتجلي المفارقة بين خطاب العمدة وخطاب الشيخ.
إنها ثنائية جديدة، يبرز فيها كل وجه للعملة نقيضه.
ثم يحل خطاب عبد العظيم عتمان، لنصير أمام المتهم الأول حتي هذه اللحظة، وهو ينقض وجهة نظر السارد عنه، في تحول لافت، واشتباك أول بين الأصوات أو وجهات النظر.. والمخاطب هنا هو لأول مرة "حمزة البراوي" نفسه الذي بدأ يحضر كمحقق. تتسق لغة الخطاب عند عتمان ووضعيته، لذا فهي تجئ أقرب للعامية، مشبعة بالقيم الشفاهية.
يعود الصوت السارد إلي حمزة لأربعة فصول علي التوالي، صانعا اتزانا ما.. خاصة وأنه سبق بأربعة فصول علي ألسنة الشخصيات.. وكأن كفتا الميزان تعتدلان لتضبطا الإيقاع. الفصول الأربعة ينتقل عبرها الحدث لمنطقة جديدة، فبعد التأسيس، ندخل مرحلة الاكتشاف عند حمزة. يبدأ حمزة في اكتشاف
قبل أن يحل صوت " شاهد" هذه المرة وليس متهما.. وهو "شاهد من أهلها"، فهو فرج أبو العلا سائق الفولفو عند عابد البراوي.
يأتي صوت فرج ليكشف جانبا غير مرئي لحمزة علي الأقل من داخل أسرة البراوي.
ثم يعود السرد لصوت حمزة في سبعة فصول، إنها مساحة كبيرة نسبيا، بل إنها الأكبر في الرواية دون قطع من الأصوات الأخري.. لكنها الفصول التي تشهد الذروة وتتعقد فيها الخيوط، والتي تطلب أن يكون صوت حمزة هو القابض علي الخيوط كي يتمكن من تفحصها.
ثم يعود الصوت للحاجة حفيظة زوجة العمدة عواد البراوي.. لتصير الصوت الأنثوي الثاني الذي يتولي السرد.لماذا تتحدث الحاجة حفيظة، وهي الشخصية الهامشية، وزوجة العمدة، ولا يتحدث العمدة نفسه، أحد الذين تحوم حولهم الشبهات؟ لأنه، في ظني، صوت يبلور "المسكوت عنه" في إمبراطورية البراوي التي لا تملك جديدا فيما يخص عالمها المعلن.. ودعنا نلاحظ أنه في القلب من هذا العالم الذكوري الفادح.. يمثل صوت المرأة/ الهامش مفتاح الحقيقة.
يعود السرد لحمزة في فصل.. قبل أن ينتقل سريعا لسيد ابو ستيت.. أحد المتهمين، والكاشف بدوره، عبر عامية سيالة غير مهذبة، عن وعي شريحة كاملة تعمل بالبلطجة.. ثم يعود حمزة ليهيمن صوته علي أربعة فصول تنتهي بها الرواية، هي الفصول التي تتكشف عبرها "الحقيقة".
وفي هذا التشابك بين أصوات الرواة، تتكشف أبعاد بعدد هذه الأصوات، تتجاوز في الحقيقة الحدث الضيق جريمة القتل لتقدم لعبة مرايا تعكس كل منها جانبا من الصورة التي تتعدد بتعدد انعكاساتها علي سطوحها، في لحظة مأزومة لوطن جهدت "إسطاسية" كي تلخص مأزقه عبر استقراء طبيعة الأصوات المشتجرة علي قراءته.
طارق إمام


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.