منكفئا على وجهه.. ممسكا بقلمه يخط سطور مقاله اليومي.. فارق خيرى شلبى الحياة وهو يبعث برسالته الأخيرة «الكتابة حتى الموت».. الكتابة التى تحمل رائحة أيامها، وعصرها، وعبقها المعتق المستقطر من خلاصات الحياة والتجربة الإنسانية الفريدة، وكل كاتب يحمل رائحة أيامه، كما كان يردد دوما. مات خيرى شلبى وهو يعانق الكتابة، بعد أن كابدها، فواتته وطاوعته وأعطته من زواخرها بعد أن منحها عمره، لتتوجه على الملأ ابنا شرعيا لسلالة الراوى الشعبى المصرى القديم، الراوى بالوراثة، الحكاء بالسليقة المجبول على مخالطة التراب والأتراب من سكان مصر المحروسة فى عصورها السحيقة الممتدة لزمن «الفلاح الفصيح» حتى سكان المقابر والأطراف النائية حول المقطم والقاهرة التاريخية القديمة، بعد أن رسم الملامح والوجوه ومزج بين الفلكلور والأسطورة وصراعات الذات وأحلام المهمشين، فأسلم الروح وهو يقول هاكم تركتى أمانة أسلمها كما تسلمتها عفية نقية مصونة لا تشوبها شائبة. عمر من الفن «الفاخر المعتبر» المتدفق كينبوع صاف يتفجر من باطن الأرض الطيبة، وإرث من الكتابة المزجاة تفيض بالجمال والجلال.. غادر شلبى دوحة الرواية المصرية بعد أن تربع على كرسى «العمودية» دهرا، وانتهت رحلة «الشلبى» وأغلق «وكالته» الإبداعية معلنا الوصول إلى «صحراء المماليك» لتأسيس «الوتد» الأبدى الخالد، تاركا «الأمالى» و«المنامات» منعنعة مورقة وارفة تحنو على أبنائه من المبدعين والكتاب الجدد تجدد معهم العهد، وتؤكد على لسانه أن «الذى ساعد هؤلاء الشباب هو مواهبهم، ومواهبهم فقط، وليس أى شىء آخر، لأن كل دعاية فجة وترويج زائف مصيره إلى الزوال..» كما أخبرنى بذلك فى لقاء معه منذ سنوات، ويقرر بيقين أن «الكاتب غير الموهوب لو اجتمع نقاد الإنس والجن على أن يجعلوه كاتباً فلن يكون، والكاتب الموهوب لو اجتمع نقاد الإنس والجن على أن يهدموه ويجعلوه غير ذلك ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا». كان يرى أن الكاتب الحق، لكى يكون صاحب دور حقيقى فى الحياة، لا بد أن يكون فى خندق واحد مع الناس يعيش آلامهم وأحلامهم، آمالهم وهمومهم، وتصبح الكتابة فى هذه الحالة «فعل مقاومة».. أما الكاتب الذى ليس له صلة بالناس أو الذى يتعالى عليهم، فهو كاتب غير موجود أصلا.. يقول «دور الكاتب فى نظرى أن يبصر الإنسان بقواه الخفية.. ويضع يد القارئ على جوهر هذه القوى ويساعده على اكتشافها والإمساك بها وتطويرها». توسط خيرى شلبى، أو العم «خيرى» كما اشتهر بين مريديه وأحبابه، عقد جيله الإبداعى الأشهر، جيل الستينيات، الجيل الذى ملأ الحياة الأدبية والثقافية إبداعا وصخبا وظل مهيمنا على خريطة الكتابة المصرية طوال عقود، متربعا مكانه ومكانته بين أقرانه إبراهيم أصلان، وجمال الغيطاني، وبهاء طاهر، وصنع الله إبراهيم، ومحمد البساطى، متعهم الله بالصحة والعافية، وآخرين ممن توفاهم الله وسبقوه إلى العالم الآخر. ربما كان شلبى هو الأغزر إنتاجا بين كتاب هذا الجيل، إن لم يكن أغزرهم على الإطلاق، فلم يدع فنا من فنون الكتابة أو ألوان الإبداع إلا مارسه وساهم فيه بنصيب وافر من الكتب والمؤلفات التى قاربت ال80 كتابا راوحت بين الرواية «فنه الإبداعى الأثير»، والقصة القصيرة «معشوقته»، والمسرحية، والبورتريه الأدبى، والسيناريو، والكتابة للإذاعة والتليفزيون والسينما، عدا دراساته الممتعة فى النقد الأدبى والتوثيق الفكرى وغيرها من أشكال الكتابة التى شكلت فى مجملها منجزا إبداعيا ضخما، حفر موقعه بحروف من نور فى مدونة الإبداع المصرى والعربى المعاصر. ثمة عوامل وأسباب عديدة يمكن أن تفسر هذه الغزارة منها ما يرويه صديق عمره ورفيق كفاحه، الكاتب الكبير إبراهيم أصلان، من أنه «كان مستودعاً ضخماً لذكريات وعلاقات وحكايات فى مساحات ومناطق لا نعرفها جيداً مثل المغنى والألحان والشعر الشعبى وعوالم الصعاليك، واستطاع من خلال هذا المخزون الهائل أن يتقمص مصر بكاملها ويجسدها كاملة غير منقوصة فى رواياته الثرة الغزيرة.. والمبهر تمتعه بذاكرة نادرة لم يؤثر عليها الزمن إلا قليلاً. كان يحفظ دواوين شعرية كاملة لفؤاد حداد وآخرين»، فمعين الذاكرة «الشلبية» معين باذخ زاخر كان يغترف منه ويغرف دون أن يغيض، ذلك المستودع الضخم من الذخيرة الحية النابضة من التفاصيل الخفية للحياة الثقافية والفنية التى اختزنها، إضافة إلى التشبع فى مرحلة باكرة بالتراث السردى العربى، الفصيح منه والعامى، وخاصة السير الشعبية وألف ليلة وليلة (كان يقول إن «ألف ليلة وليلة» هى السيرة الذاتية للشعب المصرى، ومعزوفة شعبية فى تمجيد المرأة العربية)، ربما تلقى بأضواء كاشفة على المؤثرات التى ساهمت فى تشييد منجزه الروائى والقصصى وإسهاماته فى الحياة الثقافية بشكل عام، وهو الدور الذى لا يمكن تقديره، فقد ظل منذ بداياته الباكرة مهموماً بقضايا الثقافة بعامة والفولكلور فى مصر، ومتابعاً لكل الإبداعات عند كل الأجيال فى إطار الأصالة والمعاصرة. وإذا كان كتاب الستينيات من مجايليه الكبار منهم من بدأ بممارسة بكتابة الرواية أو كتابة القصة أو عمل بالصحافة فى مرحلة سابقة أو لاحقة، فإن خيرى شلبى قد بدأ بكل ذلك معاً! كتب - أول ما كتب - الأغنية الشعبية، ثم كتب القصة القصيرة، ثم الرواية ومارس الصحافة ليلتحق بمجلة الإذاعة والتليفزيون عام 1967، لتكون رافدا مهما من الروافد العديدة التى ساهمت فى إبداع وتشكيل أعماله الروائية والقصصية، والصحافة تمكن الروائى، والروائى بالتحديد وليس أى شخص آخر، من امتلاك التفاصيل الصغيرة، فهى «فن التفاصيل الدقيقة»، كما أشار إلى ذلك منظروها الكبار. كما كانت الصحافة النافذة التى عُرف من خلالها كواحد من أهم المتابعين للمسرح، وأسس فى الصحافة المصرية «فن البورتريه الأدبي»، وهو لون من ألوان الكتابة الأدبية معروف فى الصحافة العالمية، برع فيه وتفنن فى كتابته حتى بات علما عليه لا يكاد يباريه فى كتابته أحد، وكانت حصيلة أعماله فى هذا اللون من الكتابة عدة مجلدات كبيرة جمعت معظم ما خطه خلال أكثر من نصف قرن، منها «أعيان مصر وجوه مصرية معاصرة»، «صحبة العشاق رواد الكلمة والنغم»، «عناقيد النور بورتريهات خيرى شلبى». عم «خيرى» كان حكاء شعبيا مفطوراً على مخاطبة الجماهير منذ نعومة أظفاره، فياضا كالشلال إن فى كتابته أو فى حواراته وأحاديثه، ما أن تناوشه بفكرة هنا أو مسألة هناك إلا وانطلق هادرا كالفيضان غامرا محدثيه بفيض معارفه وخبراته وحسه الفنى والإنسانى العميق.كان قارئا نهما، مستوعبا هاضما لكل التراث الإبداعى السابق عليه، وقارئا ممتازا لجيله وللأجيال التالية له، شديد الاعتداد بهذه الخصلة التى كان يرى أنها لازمة من لوازم الحياة، وكان يقول فى ذلك:«قرأت جيل الرواد الكبار طه حسين والعقاد وهيكل، ثم الجيل الذى يليه نجيب محفوظ ويحيى حقى، ومن بعدهم فتحى غانم ويوسف إدريس وسعد مكاوى، ثم جيلنا كله بلا استثناء.. أنا أزعم أننى قارئ لجيلى بالكامل، فليس هناك أحد منهم كتب شيئا لم أقرأه، وكذلك من الأجيال التالية لنا والجديدة». وحدثنى ذات مرة أن «الكاتب الذى لا يقرأ جيله يحكم على نفسه بالموت»، لأن من لا يقرأ جيله جيدا، سيظل معتمدا على إمكانياته الذاتية إلى أن تضمر؛ وقراءة الآخر هى منبع من منابع الإشعاع للكاتب، ولأنها أيضا تستفز ملكاته الإبداعية لكى يقدم الجديد والمختلف والمغاير عن كل هؤلاء، ويحاول أن يتفوق على أقرانه.. فى ضوء هذه الرؤية أيضا يمكن قراءة التنوع اللافت فى أشكال الكتابة وتفسير هذه الغزارة فى الإنتاج (الأوباش، الوتد، فرعان من الصبار، بطن البقرة، وكالة عطية، صالح هيصة، موت عباءة، العراوى، رحلات الطرشجى الحلوجى، الأمالى، منامات عم أحمد السماك، نعناع الجناين، لحس العتب، إسطاسية..) «هذه مجرد عينة من عناوين رواياته فقط». عندما زرته فى منزله بالمعادى لإجراء حوار مطول معه، وكان بمناسبة الخطاب الذى ألقاه أوباما بجامعة القاهرة، وبعد أن صافحنى اصطحبنى إلى حجرة مكتبه، فوجئت بأنها فى الحقيقة ليست حجرة مكتب بالمعنى الذى يتبادر إلى الذهن، إنما هى مساحة طولية مقتطعة من صالة الاستقبال الفسيحة، جعلها جناحا فاخرا شديد التنظيم، مرتباً بعناية فائقة.. الكتب مرصوصة بجمال يسر الناظرين كأنها معروضة فى أرقى دور عرض للكتب، الإضاءة خافتة بسيطة توحى بأجواء حالمة كأنما تنبعث من ثنايا حكايات «ألف ليلة وليلة».. وعلى الحائط الملاصق للمكتب تتراص عدة صور فوتوغرافية قديمة لعدد من كبار مبدعينا الأعلام.. نجيب محفوظ، يحيى حقى، صلاح جاهين، وآخرين. أسفلها تصطف أعداد ضخمة من الأجندات و«المفكرات» و«الكراريس» متنوعة الأحجام والأشكال تختزن خلاصة العمر من القراءات والتدوينات والخلاصات، وهى الذخيرة الإنسانية الحية التى عكف على استخلاصها طوال حياته، ومنها انطلق ليؤسس فن كتابة «البورتريه الأدبى» الذى توازى مع كتابته الروائية والقصصية، وأخرج لنا عدة مجلدات من الكتابة الرائقة العذبة، من أبدع ما يكون، عن شخصيات ونماذج إنسانية ما كان لأحد أن يذكرها أو يتذكرها إلا بما خطه خيرى شلبى عنها. فالبورتريه أو «اللوحة القلمية» كما كان يراه صورة مرسومة لوجه من الوجوه، تصاحبها كتابة ترصد بدقة ملامح هذا الوجه الخارجية والداخلية وتترسم سماته وخصائصه، إضافة إلى التكريس الفنى للنموذج المراد إبرازه. ولم يكن يكتب عن شخصية إلا إذا كان مستوعبا لها محيطا بأبعادها، ومتشبعا بحضورها فى نفسه وبعلاقاته الإنسانية التى ربطته بصاحب البورتريه، مستثمرا قدراته المذهلة فى التدوين والتسجيل، يقول عن ذلك: «لو لم أكن أسجل خلاصة قراءاتى، فإن ما أقرأه يتبخر من الذاكرة، ولا يكون له أثر يذكر، لكن بمجرد أن تسجل أهم ما تقرأ فكأنك رسخته فى ذاكرتك وثبته فى رأسك.. فأنا دائما أسير ومعى (بلوك نوت) لا تفارقنى، ورغم الطفرة الرهيبة فى وسائل التكنولوجيا الحديثة فى نقل المعلومات وحفظها، فإن هذا لا يغنى أبدا عن الورقة والقلم.. أسجل فيها فكرة عابرة أو حدثا مهما صادفنى أو شيئا أخبرنى به شخص ما أو حتى اسما أعجبنى فأكتبه.. التسجيل والتدوين مهمان جدا لأى كاتب، ومع ذلك فأنا أكتب البورتريه من الذاكرة..». من الصعب إن لم يكن مستحيلا الإحاطة بجوانب إبداع خيرى شلبى، أو المساحات الإنسانية الهائلة فى حياته المتقاطعة مع تاريخ المحروسة بفائض من العشق والفن والمكابدة، لكنه ظل حتى رمقه الأخير يساعدنا على التبصر بقوانا الخفية.. وفى هذا الخلود كل الخلود.