في إحدى قرى الصعيد، عاشت (الهمامية)، إحدى بطون قبيلة (هوّارة) الشهيرة يقومون بحق الجوار خير قيام، مع إخوانهم كالجسد الواحد، رزقهم الله من فضله فكانوا له شاكرين حتى جاء محافظ جديد، كان علمًا من أعلام الفساد ورمزًا من رموز حب السلطة، وكانت أولى بركاته، أن عيّن عمدة جديدًا للقرية، يدعى (الزيني)، هوّاري همامي، وبذلك يضمن ولاء أكبر العائلات وأقواها نفوذًا في القرية، ثم هو رجل كبير قد شاخ، لن يطمع في شيء سوى أن يبقى على كرسيّه سنوات معدودة بقيت في عمره، يورث بعدها كرسي العمودية لابنه الأصغر، الذي كان مولعًا بالمناصب، يبيع دينه بعرض من الدنيا قليل، يحلم باليوم الذي يعتلي فيه عرش أبيه. وكانت دعائم السياسة التي اتفقا عليها –المحافظ والعمدة- تتمثل في قيام العمدة بتلميع المحافظ وإيهام الناس أن الأمر كله بيديه، ومع ذلك فهو رجل كريم شهم لا يتوانى عن نصرة مظلوم أو إعانة معدوم. ووافق (الزيني) على ذلك كله، وباشر مهمته بإخلاص وإتقان قل نظيره، يسعى على طول الخط في تضليل الناس والتدليس عليهم حتى يسبّح كل فرد في القرية بحمد المحافظ، ثم بحمد العمدة ذاته، مع العمل على تمهيد الطريق لابنه ليرث الكرسي من بعده، وقد وعد فور اعتلائه الكرسي بإصلاحات شاملة في شتى مجالات الحياة، وما فطن الناس أن آية المنافق ثلاث! وكان (عبد الحي) من خير رجال الهمامية، رجل شهم بحق، هوّاري أصيل، شجاع مقدام لا يخاف في الله لومة لائم، فَطِنٌ نَبيهٌ، قد آتاه الله البصيرة، وكان يسعى بين أهل القرية محذرًا إياهم من الزيني وألاعيبه . بلغ الزيني نبأ عبد الحي، فأرسل إليه رسولا أن ائتني، نتحاور، علّنا نزيل ما في قلبك على نظامنا من شبهات وما في عقلك من اعتراضات! وأجاب عبد الحي الدعوة، ودخل على الزيني، وكان ابنه حاضرا يقف إلى جواره، وكان يدعى (كمالا)، وكان فتى مهملا مدللا... -وبادر الزيني عبد الحي قائلا: كيف حالك يا عبد الحي، أيها الرجل الشهم! -عبد الحي: لا ينقصني إلا أن تكف عنا ظلمك. -الزيني: يا بني ما هكذا تورد الإبل، أقسم لك إني على مصالحكم أسهر وبحقوقكم في كل محفل أطالب. -عبد الحي: أنت تعزلنا عن الحياة بالكلية، وتكذب وتدلس علينا ليل نهار. -الزيني: يا بني، إني بمصالحكم أدرى وبما ينفعكم أخبر، وغالب أهل القرية يا عبد الحي –سامحني يا بني- لا يفقهون عن إدارة القرية شيئا، فأتجشم أنا هذا العناء ولابد. ثم ختم الحوار بقوله: عد لرشدك يا بني..فإنني أحبك وأنت عندي بمنزلة ابني كمال، وإلا فإني أخشى أن يصيبك ما لا أرضاه لك".. انصرف عبد الحي وقد ازداد حماسا لفضح ذاك المتلون، وواصل حملته في كشف فساد الزيني وعصابته، وصار أقرب إلى زعيمٍ للمعارضة في القرية، وكان صادق اللهجة دمث الخلق، فصار له تأثير على قطاع عريض من شباب القرية، وعلم الزينى بما يفعله عبد الحى فعزم على التخلص منه . في هذه الأثناء، كانت زوجة عبد الحي (صابرة) حامل في شهرها الثاني، وكان عبد الحي يبوح للناس جميعا بما يرجوه من الله من هذا الوليد، فقد عاهد الله أن لو وهبه الله ذكرًا ليعملنّ منذ نعومة أظفاره على إعداده ليكون عمدة للقرية، يرجو أن يبدّل الله به الحال . وفي ليلة من ليالي الشتاء، داهمت مجموعة من البلطجية بيت عبد الحي، كسروا بابه وكبلوه بالقيود وساقوه هو وزوجه إلى بيت العمدة. وما أن دخل على العمدة إلا ورمقه بنظرة شامتة وقال: -"قد حذرتك يا عبد الحي، فلم تزدد إلا طغيانا!" -ولم يزد عبد الحي إلا أن قال: "قدر الله نافذ، وأسأل الله ألا يسلطك على أحد بعدي.." وظل حرس العمدة الغلاظ يعذبونه ثلاثة أيام متواصلة، وصابرة زوجه تسمع صراخه ودمعها لا يجف، حتى فاضت روح البطل إلى بارئها وبعد التخلص من عبد الحي، طلب كمال من أبيه أن يخلّي بينه وبين صابرة، فأذن له وقال: هي لك، وما أن نظر كمال في وجهها لأول مرة إلا ووجد بريق عزة في عينيها ارتعدت له فرائصه، فما جرؤ على النطق بكلمة، وشعر بالهزيمة أمام أسيرة في قيدها لا تملك من أمرها شيئا، فازداد حنقه وطفحت خسته ونذالته، فقرر أن يهينها ويقهرها ويكلفها ما لا تطيق، وظل على هذه الحال شهورا متعاقبة، وكان كثيرا ما يدخل عليها في جوف الليل فيجدها في صلاتها لله قائمة، تدعو الله أن يفرج عنها، وأن يرحم زوجها ويسكنه الجنة، فينصرف ورأسه يكاد ينفجر من الغيظ، كيف منّ الله عليها بهذا الثبات؟! حتى وصل به الأمر إلى أن أوكل إلى أحد حراسه القيام بضربها يوميا، وقد علم الحارس بحملها فصار –وياللخسة!- يضربها في بطنها، والجبان إذا ضرب أوجع، عسى أن يقتل وليدها، ذاك الذي أتى من صلب المناضل الشهيد.. والناس في القرية يعلمون بذلك كله ولا يحركون ساكنا، حتى قام أحدهم، فتى شجاع يافع، وكان اسمه (شَريف)، ابن أخي عبد الحي رحمه الله، وقف في وسط القرية وقال: -يا قوم، هذه والله ذلة وهوان لا أرضاه لنفسي ولا لكم، زوجة الشهيد في أسر الظالم، ونحن نأكل ونشرب ونلهو؟ -قام رجل في عقده السابع وقال: يا شريف يا بني، والله لو كان بي قوة لما تقاعست، ولكن كما ترى، قد وهن العظم واشتعل الرأس شيبا. -وقام ثانٍ، وقال: يا بني وماذا في جعبتك؟ -شَريف: لأذهبن إلى بيت الزيني، ولأنقذن صابرة، ولأعودن بإذن الله قبل أن تطلع شمس الغد.. -قام ثالث: يا بني لازلت صغيرا، أنت لم تبلغ العشرين ربيعا..أمامك مستقبل، لا تلقي بنفسك إلى التهلكة.. شَريف: وأي تهلكة يا سيدي بعد ذلك..إني ذاهب، ولا أطلب منكم إلا الدعاء.. خرج البطل في تلك الليلة المباركة، وتسلل إلى بيت العمدة الكبير، ووصل إلى مكان حبس صابرة، فأيقظها وأخرجها وعادا إلى القرية مع شروق الشمس، والناس قد خرجوا إلى الحقل، فما أن رأوا الشاب البطل قد أتى بصابرة إلا وصرخوا وهتفوا:"الله أكبر..الله أكبر..ظهر الحق، وزهق الباطل..كُسِر الزيني وكُسِر كمال" ورفعوا شريفًا فوق الرؤوس وطافوا به الشوارع والأزقة، وواسوه على فقدان عينه، وقامت القرية بأكملها في انتفاضة عارمة، وقبضوا على الزيني وابنه، وأعلنوا يومها نهاية عهد الظلم إلى غير رجعة ونهاية المعركة مع الباطل وجنوده وبلغ الخبر المحافظ، فأيّد ذلك وأظهر فرحه بزوال الطاغية وسقوط عرشه، ووعد بمد يد العون للقرية في ثوبها الجديد!! وعُقدت المجالس والندوات، وتكالب الناس وأتَوا من كل حدب وصوب للحديث إلى شَريف، ذاك البطل الذي رد إلى الهمامية وإلى هوّارة كلها كرامتها وخلصها من العار ووهبها –بإذن الله وفضله- حريتها، وتفاءل الجميع بنمط جديد للحياة في القرية.. ولكنّ صابرة كانت قد أصيبت بداء عضال، من جراء سوء المعاملة التي لاقتها وقلة الرعاية في بيت الزيني، وكانت على وشك الوضع، فنقلوها إلى مستشفى القرية، الذي أحالهم بدوره إلى مستشفى المحافظة في القرية المجاورة، حيث خرج عليهم كبير الأطباء قائلا: -قد أحسنتم صنعا أن أتيتم بها إلى هنا، ولكن ليكن في بالكم أن علاجها قد يطول، فلابد أن تمكث في العناية المركزة لبضعة أيام، وستحتاج إلى من يرافقها، وأنتم تعرفون ثمن الليلة، ولكن نعدكم بتسليمها وردها إليكم في أقرب فرصة. -سأله على الفور شريف: من فضلك..حدد لنا تاريخا محددا لتسليم صابرة يا دكتور؟ -الطبيب: لا يمكنني ذلك يا بني، لكن لن يجاوز ذلك الستة أيام. وعلى الفور: تنادى رجال القرية -فالعهد بالنصر قريب، ودم عبد الحي لم يجف بعد- وجمعوا المال اللازم، وتعاهدوا على بذل الغالي والنفيس حتى يمنّ الله على صابرة بالشفاء، فالجميع لها مقدر ومجل، حفظت كرامة القرية بأسرها، ودخلت صابرة العناية المركزة بعد أن سدد رجال القرية دفعة مبدئية للمستشفى، أما نساء القرية، فقد قررن التناوب على رعاية صابرة، وإن طال الزمان ومكثت ستين يوما، وليس ستة أيام كما وعد الطبيب. ثم شاء الله أن تضع صابرة ذاك المولود الذي طال انتظاره، ابن مفجر شرارة الانتفاضة، الشهيد الصابر عبد الحي، وفرح الجميع، وقفزت إلى أذهانهم وصية الشهيد، أن أعدوا هذا الوليد لأمر جلل، فتنازعوا أمرهم بينهم أيهم يكفل الوليد، الذي ارتبط في عقولهم بالإصلاح والتغيير والتحرير، ثم... ثم بالكشف على الوليد، أخبرهم الأطباء بأن المرض الذي تعانيه الأم قد أثر على الجنين، كما أنه -على ما يبدو- قد تأثر بركلات أولئك الأنذال وسوء معاملتهم، وأن احتمال حياته أضحى جدّ ضعيف. وابتأس الناس هذه المرة، وبدأت عزائمهم تخور، فذكرهم شريف قائلاً : "إن الله حكيم كريم، ما كان ليخرج هذا المولود في هذه الظروف القاصية التي تعرضت لها أمه، ما كان ليخرجه حيا إلا ليغير به وليعده لأمر جلل، يصلح به العباد والبلاد، وكان يقول: "إني أحسب هذا المولود يُصنع على عين الله، وهو رمز فرحتنا وأول مولود يولد في عهد الحرية والكرامة.." استجاب البعض، وصَمَتَ وتوارى آخرون عن المشهد، وتم إيداعه بالمستشفى في الغرفة المقابلة لغرفة أمه، ينفقون على علاجه ويتفقدون كل يوم حاله، ولكن الأمر مرهق..مرهق ماديا، ومستنزف للأوقات والطاقات..! رجال يدفعون مصاريف المستشفى ونساء يسهرن ويتناوبن على رعاية الأم ورضيعها.. ومع مرور الوقت، بدأ الناس ينفضّون من حول صابرة ووليدها، فقد طال العهد، والتحسن في حالتيهما بطيء، لا يصبر عليه إلا مؤمن بالقضية بحق، قد ملّوا من تباطؤ الأطباء، وبدأت الصيحات تتعالى، أن صابرة ووليدها قد صارا عالة علينا، فأموال المستشفى باهظة، وأولادنا وأهلونا أولى بكل جنيه! وكان من بينهم خبيث، يمشي بينهم يثبط ويضعف العزائم، ففي كل موضع ينزله شَريف مذكرا الناس بواجبهم تجاه الأم ووليدها، إذا بالخبيث من خلفه يهمس: "ضاعت الأموال وأُنهكت القوى، وطال الأمد ولا نرى أي تغيير.. يا ليتنا ما فعلنا ما فعلنا!.. -فإذا ما أجابه أحد العامة: يا رجل! فترة عصيبة، نتحملها سويا ونحقق المكتسبات ونظفر بالحريات. -يجيبه الخبيث على الفور: أنت تعلم كم كنتُ للزيني مبغضًا، لكن أصدقك القول: ولا يوم من أيامه. ثم بدأ البعض في تناول شَريفٍ بالذم، واتهامه بالخيانة! قال البعض: "ما فعل ذلك إلا حميةً"، وكان بعض الحكماء في القرية يقولون: "اصبروا وصابروا، احموا أختكم وارعوا وليدها..لا تيأسوا ولا تهنوا...أنسيتم عهدكم إلى عبد الحي؟ أنسيتم وصيته إليكم بحفظ وليده ورعايته؟ ألستم القائلين إن طريق الإصلاح طويل، والجهد المطلوب جدّ كبير؟ ماذا دهاكم؟ أرضيتم بالذل بعد العز، وبالمهانة بعد أن وهبكم الله الكرامة؟! أعطوا الوليد فرصته، وإن تجشمتم شيئًا من المشقة، فهكذا يكون التغيير، عسى الله أن يجعل الفرج على يديه وعلى أيدي من يرعاه..لا تشمتوا فينا الزيني وعصابته، ولا ترجعوا بنا إلى ذاك العهد المظلم!" ولكن الأوان قد فات، وتمكّن أتباع الزيني وابنه كمال من الفتّ في عضد الناس، فرفعوا أيديهم بالكلية عن صابرة ووليدها، ولم يبق إلا شريف، الذي صبر وعاهد الله أن يمشي في الطريق وحده إلى نهايته.. وأخرج المستشفى صابرة ووليدها، فقد نفد الرصيد وليس هناك من يسدد الفاتورة، وأرسلهما إلى مستشفى القرية ذي الإمكانات المتواضعة جدا، وهكذا المروءة! وصارت الأم ووليدها ينتظران أحد مصيرين.. إما أن يهب الشرفاء لنجدتهما من جديد، شكرًا لنعمة الله بزوال الزيني وعصابته، وإما أن تُترك لتموت ووليدها، ويُعلن للجميع: ألا أمل في الإصلاح، وأن مصير المعترض: القتل والتشريد وتفكك الأسرة وضياع الأمن، دون جدوى ترجى! ويرفع الطغاة رؤوسهم من جديد، راقصين على جثث الأبطال.. يا قومنا أدركوا ثورتكم الوليدة ووفوا لأمها الصابرة التي أكلتم من زرعها وترعرعتم تحت سمائها حقها، وردوا إليها جميلها، فذاك من شيم الكرام، وإياكم وخذلانها، وإلا، فلا يسألنّ أحدكم عن المستقبل، ولا يشكونّ بعد اليوم قهرًا