سألنى أحد القراء فى تعليق له على مقال الأسبوع الماضى حول كيفية حدوث هذا التحول من فتاة ترى أن المرأة مكانها المنزل إلى مخرجة ذات اسم و قيمة، على حد قوله. وقد أدركت بعد كتابة المقال أن سؤالا مثل هذا سوف يتبادر إلى ذهن القارئ، غير أن ضيق المساحة المتاحة لم يمكِّنِّى من تقديم تفسير لذلك. فالسنوات الثلاث التى قضيتها بجامعة القاهرة حينما كنت طالبة فى كلية الهندسة كانت بالنسبة إلَىَّ حافلةً وأيضا فاصلة، إذ بدأت علاقتى بالحياة الجامعية من خلال إحدى الأسر الطلابية، وكان من حسن حظى وجود أسرة سُمِّيَت وقتها أسرة «زُحَل». وكانت تلك الأسرة تختلف عن الأخريات فى كون أعضائها من الطلاب الجادين نهمى القراءة والمعرفة. وكنا وقتها نلتقى كل خميس، نناقش موضوعًا خلافيًّا ما، اجتماعيًّا، سياسيًّا، فنيًّا، دينيًّا، فلسفيًّا. وكان كل منا يتسلح طوال الأسبوع بما يقدر عليه من القراءة استعدادًا لتلك المناقشة الحامية. وقد أيقظت تلك المناقشات كثيرًا من الأسئلة المختزَنة فى رأسى منذ الصغر، كما أنارت لى الحياة بمنظور جديد أكثر ثورية وأكثر تمرُّدًا. وكنت قد خُضْت تجربة التمثيل بمسرح المدرسة، ودفعنى ذلك الأثر الكبير الذى تركَته تلك التجربة فى نفسى إلى الالتحاق بمسرح الكلية. ويرافقنى الحظ مرة أخرى، إذ كان مسرح كلية الهندسة فى ذلك الوقت مسرحًا جادًّا و«مسيَّسًا» أيضا، فقد كان يقدم أعمالا مسرحية تحمل طابعًا سياسيًّا أو فلسفيًّا عميقًا، وكان ممثلوه ومخرجوه من طلبة وطالبات يحملون توجُّهًا يساريًّا ملحوظًا. وكانت تلك السنوات الثلاث هى أيضا سنوات سقوط الاتحاد السوفيتى وما واكب ذلك من حوارات سياسية عاصفة، بالإضافة إلى نمو التيار الدينى فى مصر، وأتذكر وقتها وفى أثناء قيامنا ببروفة لإحدى مسرحياتنا على مسرح جامعة القاهرة، أن هاجمنا زملاؤنا من الطلبة الإسلاميين داخل المسرح وتَعدَّوا علينا بالضرب وأطاحوا بنا من فوق خشبة المسرح وطردونا ثم أغلقوا المسرح وعلّقوا لافتة على بابه «المسرح منذ الآن إسلامىّ». ومرت الأعوام الثلاث ما بين الكتب والتمثيل والإخراج لمسرح الجامعة والندوات والمناقشات على المقاهى، أعوِّض ليل نهار ما فاتنى من معرفة بعدما أدركت أن الحياة الحقيقية كانت خارج منزل أسرتى، فكانت بمثابة رحلة تشكيل للوعى انتهت بقرار مصيرى هامّ هو ترك الدراسة بكلية الهندسة والالتحاق بمعهد السينما. ولكن على الرغم من صعوبة مثل هذا القرار فإننى أعترف أن حبى للسينما لم يكن قد بدأ بعد. ولم أكن أدرى وقتها أن رحلة أخرى تنتظرنى فى الأعوام القادمة هى رحلة الوقوع فى غرام فن السينما...