علي مدي خمسين عاما قابلت الكثير من القراء العاشقين للكتب، المحبين للثقافة والذين أدركوا من صميم الفؤاد ومن كل ذرات العقل وربما بصورة غير مقصودة أن القراءة هي المدد الحقيقي لوعي الإنسان، والمتعة النادرة التي تغمر الجسد والروح بلذة غير عادية ولا تقليدية، ورغم إيمان هذه الفئة من عشاق الثقافة بأهميتها والجدوي الخرافية من شحن العقول بها، وقدرتها علي فتح آفاق رحبة بعرض العلم وطوله، إلا أنها علي قناعة كاملة بأن الكتاب هو المصدر المعتمد للثقافة مع تقديرهم لمصادر أخري كالسينما والمسرح والتليفزيون والنت. هذه الشخصيات التي يجب أن نتنبه لها ولا نكف عن منحها الاعتبار اللائق بسبب ولعها بهواية نبيلة وراقية وملهمة، تستولي عليها نداهة كالتي استولت علي بعض الكتاب الموهوبين جدا، مثل ماركيز وديستوفسكي وإدريس وبورخيس وزولا وشيكسبير وهوميروس وغيرهم، والنداهات متعددة التخصصات والاهتمامات فكما أن هناك نداهة للأدب فهناك نداهة للفن التشكيلي كما حدث مع مايكل انجلو وبيكاسو وفان جوخ وغيرهم، ونداهة للموسيقي كما نجدها عند بيتهوفن وموتزارت وشوبان وديبوسي وفيردي وآخرين، بل وهناك نداهة للأوطان من سبارتكوس إلي مارتن لوثر إلي جيفارا ومانديلا وعبد الناصر وغيرهم. ولا أحسبه يخفي علي الكثيرين أن القارئ الناسك إذا جاز التعبير وأقصد به الذي ينفق أغلب وقته في القراءة، غير محتفل بغوايات الحياة ومتعها مفضلا عليها جميعا هذه الهواية المشعة يعاني من مشكلة كبيرة قد لا يعاني منها الكاتب الموهوب لأن القراءة تعني تعبئة العقل بالمخزون المعرفي، وكلما زاد هذا المخزون مثل ضغطا علي مراكز المخ، والكاتب لديه الفرصة للتنفيس عن هذه الطاقة وإخراجها في الكتابة، ومن ثم يتراجع الضغط وتتوازن إلي حد كبير شخصية الكاتب، والقارئ الناسك الذي لا يكتب سيظل حاملا ومحملا بما حصل عليه من معارف وقد ملأت غرف عقله وتكدست بداخله. تعرفت بالعشرات من هذه النوعية، كان أغربهم وأشدهم مدعاة للدهشة والحيرة.. يوسف الشامي صديق الستينات.. باحث في المركز القومي للبحوث.. حاصل علي بكالوريوس الكيمياء.. بعد سنوات من عمله في المركز تغيرت كيمياؤه.. كان يرافقني في الندوات سواء عند العقاد أو نجيب في كازينو صفية حلمي أو ريش أو قهوة عبد الله في الجيزة أو جمعية الشبان المسيحيين، ثم انقطع واختفي.. بحثت كثيرا حتي عثرت عليه. أقول بحثت عنه كثيرا لأنه لم يعد يذهب إلي عمله بانتظام كما أنه غير سكنه.. كنت أقيم في شقة في شارع محيي الدين أبو العز في الدقي قريبا من نادي الصيد وكان يوسف يشترك مع زميله في شقة في الشارع ذاته، ثم اختلفا لسوء سلوك زميله (مفهوم.. مفهوم) واضطراره للسكن في شقة صغيرة مستقلة في بين السرايات. لاحظت أنه لم يعد يخرج من الشقة ولا حتي لزيارة والديه وأختيه إلا لشراء الكتب، ويظل معها (الكتب) ليل ونهار، ويكاد لا يأكل ولا يغسل وجهه ولا يستحم.. تلبسته نداهة الكتب.. دعوته مرات كي يرافقني إلي الندوات.. مط شفتيه وبدت علي وجهه علامات الاستياء، وأكاد أقول الازدراء.. كان لديه تليفزيون حطمه. لم يبق له إلا الراديو يستمع منه إلي الموسيقي الكلاسيك، وفي أواخر السبعينات حدثته عن الزواج وكنت قد تزوجت وأنجبت.. تداخلت ملامحه وتبادلت مواقعها كأني أحدثه عن بقرة تطير أو أن الهرم نقلوه إلي ميدان التحرير، وسرعان ما أهملني وأطل في كتابه ، ومن ثم تسللت وتركته للنداهة التي انصاع تماما لأوامرها وسحرها. محمد كامل أما الأستاذ محمد كامل الذي تعرفت إليه منذ سنوات، فهو نوعية أخري غير كل من عرفت.. فهو صاحب ذهن متقد للغاية وذاكرة حديدية.. قارئ نهم للكتب والصحف.. لا عمل له تقريبا، ويقضي كل وقته في القراءة وحضور الندوات، وهو قارئ إيجابي ومثقف كبير.. يمتلك رؤي متعددة ومتجددة، وكثيرا ما تكون طازجة، وفي أكثر الحالات تتفوق علي كثير مما نسمعه من الأفكار التي قد تصدر أحيانا من كبار المفكرين والكتاب أو علي وجه أدق المشهورين منهم. محمد كامل هو في اعتقادي القارئ المثالي، لأنه لا يكتفي بالقراءة التي ينفق عليها كل مليم يحصل عليه، ولا أدري من أين يحصل عليه. ويمنع نفسه من الطعام أحيانا والدواء ليشتري كتابا سمع أنه مهم، أو كتابا لكاتب متمكن يدرك جيدا أن ما سيدفعه ثمنا له لن يذهب هباء، ولا ينتهي الأمر بمتعة القراءة، لكنه يتصل بالكاتب ويهنئه أو يعاتبه، ويتمني أن يقرأ له الأفضل في المرات القادمة. وهو لذلك برغم اقترابه من السبعين يقضي ساعتين كل يوم ليمر علي بائعي الصحف والكتب ليتعرف علي الجديد، بالإضافة طبعا إلي التربص بالأخبار حيث يتأمل كل الصفحات الثقافية بحثا عن الكتب الجديدة والندوات، وينقل ذلك كله إلي أوراقه ويرتب مواعيد الندوات وأماكنها وضيوفها ، ويقارن بينها خاصة أن اليوم الواحد وفي ساعات متوازية يمكن أن تنعقد خمس ندوات، فإلي أيها يذهب ؟ يختار الندوة.. وقبل الموعد في أغلب الأحوال يكون هناك ويجلس منصتا تماما لكل ما يقال، فإذا وجد ما يتفق مع أفكاره وآرائه رضي وسكت أو طلب الكلمة ليؤكد الإعجاب والرضا مشجعا صاحب العمل، وإذا تباينت الرؤي والتأويلات، فإنه لابد سيطلب الكلمة ليقول رأيه بكل إخلاص وصدق وحماس، ولم أسمع له رأيا مرة إلا كان دقيقا وعميقا ودالا علي سداد نظرته وخبرته وقدرته علي الغوص في النصوص، والوقوع علي ما فيها من جمال وسحر وملكات فنية وأدوات مختلفة للتعبير والتصوير، وقد يتساءل - منفعلا - عن غياب كل ما يستوجب المديح لأن النص سطحي واللغة عاجزة والبناء مترهل والشخصيات تائهة والخيوط خرجت من يد الكاتب. كامل لا يكتفي بالقصة والرواية، لكنه يقرأ في كل المجالات تقريبا ماعدا العلوم البحتة، فمع الأدب يطالع كتب النقد والتاريخ والفلسفة والجغرافيا والسياسة والثقافة بشكل عام. ويبدو أن القراءة كانت لازمة كتعويض من الخالق لظروف محمد كامل الذي يعيش وحيدا بعد وفاة زوجته وابتعاد ابنته، ولا يتمني إلا شيئا واحدا علي المستوي الإنساني إلا أن يري حفيديه، ولا يتيسر له ذلك بسبب ظروف ابنته. ثقافة مبكرة الصديق الغالي محمد كامل لا يفتأ في كل ندوة يدهشني بثقافته وقراءته المبكرة جدا لكل عمل جديد، حتي أصبح أحد حراس الحركة الثقافية وأحد مؤشراتها التي يمكن عن طريقه معرفة حالها، وهو حريص لذلك علي المشاركة في معظم الندوات خاصة إذا اتسمت بالبساطة والتواضع، وكان هم من فيها الفكر وليس تبادل الغطرسة والاستعلاء، أو استعراض الثقافة والمعلومات دون وعي حقيقي واشتباك مع القضايا الأساسية. محمد كامل برغم حدته وانفعاله اللذين ألمسهما عندما يتكلم وخاصة إذا كان غاضبا، فهو صاحب قلب كبير ونفس حنون، وتملأ المحبة كل جوانحه، إذ لا يحمل حقدا لأحد ولا يستفزه ويثير سخطه إلا إذا استشعر أن المتحدث إليه يتعامل معه بتعال أو يكلمه بغير اهتمام وينزله منزلة أقل، هنا يصبح كامل كالجمل الثائر، لأنه ذو أنفة ونفس أبية وكرامة ولا يقبل الضيم مهما كانت الأسباب، ولذلك فهو يمضي بفرح إلي المنتديات البسيطة والجادة والمنتظمة، خاصة إذا كان روادها علي درجة عالية من الثقافة والتواضع، ميالون إلي المعرفة والإفادة. محمد كامل يستطيع أن يحدثك عن عشرات الكتاب، ومعظم معلوماته عنهم استقاها من الكتب والحوارات والمناقشة في الندوات، وأغلب الكتاب عارفون لفضله وثقافته وينتظرون بشغف وأنا أولهم آراءه وتعليقاته وتحليله للعمل الأدبي، وقد أكرمني بحضور ندوات كثيرة لأعمالي نظمتها جهات عديدة، وما يدهشني حقا أن ندوات كثيرة أقيمت لمناقشة كتبي لم تذكر وسائل الإعلام عنها حرفا كأنني مسجل خطر، فإذا هو كعادته مع الجميع أول الحاضرين. حرصه علي ارتياد الندوات ليس في الأساس من أجل رؤية الكتاب وإنما من أجل الاستمتاع بالأدب والفكر، فهو يتوجه إليها كي يشم عبير الفن وكي تلفحه نسائم التعبير الجميل ويسقي روحه بالعبارات المجنحة واكتشاف النقاد لعروق الخيال وعبقرية الإبداع في الأعمال الأدبية، كما يحرص علي طرح وجهة نظره التي تتميز عادة بالحيوية والمعاصرة ومواكبة المستجدات الإبداعية والنقدية، وقد يعتقد البعض أنه يمكن أن ينطلق من رؤية تقليدية لا تتجاوز ما كان سائدا أيام تيمور والسباعي والحكيم، اعتمادا علي سنه الكبيرة نسبيا، لكنه علي العكس متجدد الذائقة، رحب الأفق، ويعرف جيدا أين يكمن الجمال في العمل الجيد، وأسباب الخلل في عمل متواضع ومفكك. ومن سماته المهمة التي تكشف عن مدي صدقه مع نفسه ومع الناس أنه لا يستطيع مهما كانت الأسباب أن يضغط عليه أحد كي يرضي عن عمل هزيل لكاتب مشهور، فلابد أن يقول الحقيقة التي يؤمن بها وليذهب الجميع إلي الجحيم. كما أن صداقته بشخص لا تلوي عنقه كي يمتدحه إذا كان عمله لا يروق له، لذلك يسعي الكثيرون للحصول علي رأيه لأنه سوف يكون في كل الأحوال صادقا، بل حادا في صدقه ولن يسلك سلوك بعض النقاد الذين يتحيزون مع أو ضد حسب العلاقات الشخصية. أستطيع بكل اطمئنان أن أسميه شيخ القراء، كما سمينا د. محمد مندور من قبل شيخ النقاد ومحفوظ شيخ الأدباء، فهو دون أدني شك زعيم الضلع الثالث من أضلاع الحركة الثقافية وهو من أخلص من عرفت في هذه الحركة ولها، ولو قدر أن يكون للقراء نقابة فهو بالفعل وعن جدارة نقيب القراء الذي رشحته الجماهير الذي يمكن أن يمثلها خير تمثيل، وجماهيره ليست أبناء شريحة القراء العاديين، وإنما هم أنفسهم..الكتاب والمثقفون. لقد فكرت عدة مرات في أن أنظم معه جلسات شخصية في بيتي أو في أي مكان يرتضيه كي يحكي وأسجل تجاربه ومراحل حياته وأفكاره بوصفه صاحب تجربة إنسانية حاشدة وعامرة بالأحداث والمواقف بل والغرائب، كما أن له حكايات مع شخصيات مهمة، لكن الوقت لا يسمح وجغرافيا القاهرة تفرق أكثر مما تجمع، علي أنني لن آيس أو أستسلم وسوف أبحث عن صيغة ملائمة، وليته هو الذي يفعل ذلك بنفسه، ولا أجد غضاضة في مساعدته في التحرير ثم في النشر دعواتي له بدوام الصحة وطول العمر ليظل بيننا ذلك الضلع المهم من ضلوع الحركة الثقافية، ولولا أن القواعد الجامدة لا تسمح له بالانضمام إلي المؤسسات والنقابات الثقافية لطالبت بأن يكون عضوا باتحاد الكتاب، فهو ليس أقل من كل الأعضاء، ولا أحسبني مبالغا إذا قلت إنه وعلي مسئوليتي أفضل من كثيرين منهم ليس بالإنتاج ولكن بالفاعلية، وليس بالدرجة العلمية ولكن بالدرجة الثقافية.