وهم الحداثة وحقيقة الأزمة    وزير العدل يشارك في اجتماع المكتب التنفيذي لمجلس وزراء العدل العرب    ستاندرد بنك: 30 مليار دولار حجم تجارة مصر مع دول جنوب الصحراء الأفريقية سنوياً    السلام.. خيار استراتيجى    استعدادا لأمم أفريقيا.. منتخب مصر 2009 يواجه الأردن غدًا    بمشاركة بن رمضان ومعلول.. التعادل يحسم نتيجة مباراة تونس ضد موريتانيا    منتخب مصر مواليد 2009 يختتم استعداداته لمواجهة الأردن    ناشئات يد الأهلى يتأهلن إلى دور ال16 بكأس مصر 2008 على حساب الزمالك    إحباط تهريب سكر ومكرونة تموينية قبل بيعها في السوق السوداء بالإسكندرية    انطلاق فعاليات حفل مهرجان القاهرة السينمائي ال 46    عودة الآثار    مركز أبحاث طب عين شمس يحتفل بمرور خمس سنوات علي إنشاءه (تفاصيل)    غرامة 500 ألف جنيه والسجن المشدد 15 عاما لتاجر مخدرات بقنا    بعثة الجامعة العربية لمتابعة انتخابات مجلس النواب تشيد بحسن تنظيم العملية الانتخابية    محافظ الأقصر يستمع إلى شكاوى المواطنين.. ويوجه بحلول عاجلة لعدد من المشكلات الخدمية    نائب المحافظ يتابع معدلات تطوير طريق السادات بمدينة أسوان    «المهدى بن بركة».. فى الذكرى الستين لاختفائه    محمد رمضان يقدم واجب العزاء فى إسماعيل الليثى.. صور    قصر صلاة الظهر مع الفجر أثناء السفر؟.. أمين الفتوى يجيب    «كوب 30» ودور النفط فى الاقتصاد العالمى    محافظ شمال سيناء يتفقد قسام مستشفى العريش العام    قبل مواجهة أوكرانيا.. ماذا يحتاج منتخب فرنسا للتأهل إلى كأس العالم 2026؟    كندا تفرض عقوبات إضافية على روسيا    طلاب كلية العلاج الطبيعي بجامعة كفر الشيخ في زيارة علمية وثقافية للمتحف المصري الكبير    وزيرالتعليم: شراكات دولية جديدة مع إيطاليا وسنغافورة لإنشاء مدارس تكنولوجية متخصصة    رئيس الإدارة المركزية لمنطقة شمال سيناء يتفقد مسابقة الأزهر الشريف لحفظ القرآن الكريم بالعريش    الداخلية تكشف تفاصيل استهداف عناصر جنائية خطرة    وزير العدل الأوكراني يقدم استقالته على خلفية فضيحة فساد    سعر كرتونه البيض الأحمر والأبيض للمستهلك اليوم الأربعاء 12نوفمبر2025 فى المنيا    ضبط مصنع حلويات بدون ترخيص في بني سويف    انطلاق اختبارات «مدرسة التلاوة المصرية» بالأزهر لاكتشاف جيل جديد من قراء القرآن    ما عدد التأشيرات المخصصة لحج الجمعيات الأهلية هذا العام؟.. وزارة التضامن تجيب    أسماء جلال ترد بطريقتها الخاصة على شائعات ارتباطها بعمرو دياب    طريقة عمل فتة الشاورما، أحلى وأوفر من الجاهزة    البابا تواضروس الثاني يستقبل سفيرة المجر    بحماية الجيش.. المستوطنون يحرقون أرزاق الفلسطينيين في نابلس    بعد افتتاح المتحف المصري الكبير.. آثارنا تتلألأ على الشاشة بعبق التاريخ    محمد صبحي يطمئن جمهوره ومحبيه: «أنا بخير وأجري فحوصات للاطمئنان»    حجز محاكمة متهمة بخلية الهرم لجسة 13 يناير للحكم    الرئيس السيسي يصدق على قانون الإجراءات الجنائية الجديد    موعد مباراة السعودية وكوت ديفوار الودية.. والقنوات الناقلة    بدء استقبال أفلام مهرجان بردية السينمائى فى دورته الثالثة دورة المخرج يوسف شاهين    نجم مانشستر يونايتد يقترب من الرحيل    رئيس الوزراء يتفقد أحدث الابتكارات الصحية بمعرض التحول الرقمي    عاجل- محمود عباس: زيارتي لفرنسا ترسخ الاعتراف بدولة فلسطين وتفتح آفاقًا جديدة لسلام عادل    «المغرب بالإسكندرية 5:03».. جدول مواقيت الصلاة في مدن الجمهورية غدًا الخميس 13 نوفمبر 2025    بتروجت يواجه النجوم وديا استعدادا لحرس الحدود    الرقابة المالية تتيح لشركات التأمين الاستثمار في الذهب لأول مرة في مصر    وزير دفاع إسرائيل يغلق محطة راديو عسكرية عمرها 75 عاما.. ومجلس الصحافة يهاجمه    «عندهم حسن نية دايما».. ما الأبراج الطيبة «نقية القلب»؟    عاجل- رئيس الوزراء يشهد توقيع مذكرة تفاهم بين مصر ولاتفيا لتعزيز التعاون فى مجالات الرعاية الصحية    إطلاق قافلة زاد العزة ال71 بحمولة 8 آلاف طن مساعدات غذائية إلى غزة    «العمل»: التفتيش على 257 منشأة في القاهرة والجيزة خلال يوم    القليوبية تشن حملات تموينية وتضبط 131 مخالفة وسلع فاسدة    «لو الطلاق بائن».. «من حقك تعرف» هل يحق للرجل إرث زوجته حال وفاتها في فترة العدة؟    «وزير التنعليم»: بناء نحو 150 ألف فصل خلال السنوات ال10 الماضية    رئيس هيئة الرقابة المالية يبحث مع الأكاديمية الوطنية للتدريب تطوير كفاءات القطاع غير المصرفي    دعاء الفجر | اللهم ارزق كل مهموم بالفرج واشفِ مرضانا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الأبنودى: لم يهاجمنى إلا عجزة أو أشباه شعراء
نشر في الشروق الجديد يوم 15 - 10 - 2010

كلامه الكثير، ستجد نفسك مضطرا معه للتحفظ أكثر من التصريح، فهو لايسم أحدا رغم أن كلماته تلبس أصحابها، ولا ينتقد أشخاصا، رغم أنه ينتقد أو لنقل يعاتب الجميع. بدءا من الفلاحين الذين تركوا الفلاحة وذهبوا إلى الخليج، والإداريين الذين ارتدوا الفساد، والمثقفين الثوريين الذين انفصلوا عن الجماهير وتضخموا فى مواقعهم، والأدباء الذين جف إبداعهم فالتقطوا الكرابيج، وطبعا الحكام الرأسماليين الذين لا ينجزون من المشاريع إلا ما يجنون ثماره وحدهم، وصولا إلى عتاب الموت، هذا الذى حرمه من رفيقيه يحيى الطاهر وأمل دنقل، وتركه بلا «ونس»..
انحيازات الأبنودى، وخساراته كذلك، سجلتها أشعاره وأغانيه عبر ستة عشر ديوانا بدءا من «الأرض والعيال» الزحمة وجوابات حراجى القط فى الستينيات، مرورا ب«أحمد سماعين» أنا والناس، بعد التحية والسلام، ووجوه على الشط، وصمت الجرس فى السبعينيات، ووصولا إلى الموت على الإسفلت، والاستعمار العربى، ثم المختارات فى الثمانينيات والتسعينيات، فضلا عن مشروعه الإبداعى الموازى فى جمع السيرة الهلالية، الذى بدأه عقب نكسة 1967، واستغرق فيه لأكثر من ربع قرن، وكأنه كان احتماء بالسيرة، بما فيها من فتوحات وبطولة ماضوية، عقب هزيمة غير محسوبة.
رغم ذلك يرى صاحب «موال النهار» أن زمن النكسة كان أقل عتمة من الزمن الذى نحياه الآن، والمفاجأة أنه يرى فى مشروع السد العالى الذى سكنه وكتبه فى واحد من أشهر دواوينه وأكثرها جماهيرية «جوابات حراجى القط» أزمة ظهر صداها الآن، يقول:
- «السد العالى هو رمز لتوحد واندماج وعظمة الشعب المصرى، وإثبات أنه عنصر واحد، وليس عناصر كما تحاول الكتابات الحديثة فى زمن الفرقة الاجتماعية. ومن كانت له يد فى الزراعة يعرف ماذا فعل السد لمصر بالتحديد. فلقد كنا نزرع الأرض لأشهر قلائل، ونأتى بإنتاج يكفى بالكاد لأن نملأ بطوننا ذرة وشعيرا، وبعض القمح أحيانا، وكانت وسائل الرى شديدة القسوة، ولكن كنا نعيش عظمة النهر وجبروته فى فيضاناته المتتابعة، وتهجماته على القرى وتدمير الجسور، تلك التهجمات التى كانت توحد أهل القرية، مسلما ونصرانيا، غنيا وفقيرا، إذ كان الجميع يخرجون للتصدى للنهر، فى صورة عبقرية للوحدة المصرية، حيث لم يك النهر يختار فئة ويترك فئة.
لكن المزعج فى النتائج التى أحدثها السد العالى من وجهة نظرى، ليس الغريون الذى كان يأتى به الفيضان من منابع النيل، ويخصب به الأرض، وليس زيادة البلهارسيا والإنكلستوما، ولكن هو هذا الانفكاك لتلك الوحدة، حيث لم نعد فى حاجة كل إلى الآخر، بعد هذا الإحساس بالأمان الذى وهبنا إياه السد العالى، وكأن السد الذى أعالنا ووهبنا هذا الأمان العظيم، ووسع مساحات الأرض الزراعية طولا وعرضا، هو نفسه الذى أسهم فى خلخلة هذا الترابط التاريخى، الذى أدهش المحتلين، وكل من حاول النيل من هذا الشعب.
- مع ظهور مشروع توشكى الذى بدا كبيرا للوهلة الأولى ثم تجمد أو ضل طريقه إلى خدمة الشعب، كان د. مصطفى الفقى رئيس العلاقات الخارجية بمجلس الشعب، كلما صادف الأبنودى يقول له: «يا عبد الرحمن خلى عيد ابن حراجى القط يروح توشكى»، يقصد أن يكتب الأبنودى على لسان «عيد» عن توشكى، كما كتب ديوانه البديع على لسان «حراجى القط» عن السد العالى، لكن الأبنودى لم يستوعب أن يكون هناك شبه بين المشروعين... سألته:
● لماذا؟ هل كان الفرق بين مشروع وآخر؟ تربة وأخرى؟ أم بين زعيم ورئيس؟
- فأجاب: فى الواقع ليس لكل تلك الأسباب، ولكن السد كان مشروعا قوميا، أثر فى حياتك وفى حياتى، وفى حياة الأجيال المقبلة، ومنذ أول لحظة لإعلان عبد الناصر نيته فى تحقيق هذا المشروع، تبناه الشعب المصرى بوضوح، لأن المشروع كان واضحا، وكان قوميا، أى أنه ليس ملكية لأحد، لذلك ذهب الفلاحون ومنهم «حراجى القط» للمساهمة فى هذا العمل العظيم، تماما كما ذهب الجنود للنضال ضد كل أعداء هذا المشروع، وفى النهاية خدم المشروع الأمة بأكملها.
أما «توشكى» فهو مشروع أشبه بالشركة التى يقتطع أصحاب المال منها كل منهم على قدر ما يملك، وعلى قدر ثقله السياسى سواء فى بلادنا أو فى البلاد العربية، إذن هو منذ اللحظة الأولى لم يكن مشروعا قوميا، وإنما مثل كل المشروعات التى يباهى بها الوزراء وأصحاب الحل والربط، ولا يجنى الشعب منها شيئا، وإنما هى تدر الأموال لأصحابها.
هذا هو الفارق بين السد الذى يلخص زمنا بأكمله، وتوجها لذلك الزمن، وتوشكى التى تلخص زمنا آخر مختلفا تماما فى توجهاته وأهدافه والمستفيدين منه، والذى لا يمكن أن يتحمس له إلا من يؤمن بالاستفادة الخاصة، وأحمد الله أننى لست منهم.
● نعرف مدى قسوة النكسة على كل مجايليك، وعليك بشكل خاص، لكن بعد كل هذه السنوات والأحداث، هل ما زلت ترى أن النكسة هى أصعب ما مرت به مصر، ومررت به أنت؟
مبدئيا أنا لم أهزم مع من هزموا فى النكسة، ولربما استمع الناس إلى صوتى بصورة واضحة المرامى إبان تلك النكسة، ولكن فى سؤالك شىء ذكى أنا موافق عليه تماما، ففى سنوات النكسة التى يعيرون بها الزمن الناصرى، لم يشك مواطن من جوع، ولا بحث عن الرغيف فلم يجده، ولا كانت اللحمة وكيلو الطماطم شيئا من أحلامه، وإنما كانت أحلامه تحرير الأمة العربية، أحب الناس بعضهم بصورة فريدة فى تلك السنوات، وهذا ما لا نراه فى واقعنا الآن بعد النصر، فنحن نسلك كشعب مهزوم وتحكمنا فوضى الفلول المتناثرة، ونرى كيف يثرى الأثرياء، وكيف تبتعد اللقمة عن الفقراء، ونقارن بين التعليم فى النكسة والتعليم الآن، وبين توحد الأمة فى النكسة وتمزقها الآن، ونحتفل بالنصر لمدة يوم أو يومين فى العام ثم نعود للهزيمة بقية العام، وإذا نظرنا إلى شعبنا اليوم سلوكه، أمانيه، لغته، طموحه، وقيمه لا يمكن أن نصدق أن هذين الشعبين شعب واحد، وأن الزمنين حدثا على أرض شعب واحد.
وأنت تعلمين أننا منذ بداية التاريخ ننظر للفرعون، ونعطيه غلالة من الألوهية، فإذا صلح صلحنا، وإذا فسد فسدنا، وصدق من قال: الناس على دين ملوكهم، وملوكنا الآن طبقة رأسمالية بشعة، شديدة الشره، لا يشبعها شىء، ولن تسكت عنا إلا بعد ارتشاف آخر قطرة.
لقد ساءت أحوال الفقراء وترك المزارعون أرضهم بلا زراعة، واكتسح الفساد الأجهزة الإدارية، وصار كل شىء كذب فى كذب، صارت الأشياء بالشبه، فنحن شبه مصر، وديمقراطيتنا شىء شبيه بالديمقراطية، والمسافة بين الجريدة الرسمية والواقع لا يمكن حصرها، وكأنها جريدة بلد آخر متقدم، لا جريدة شعب يئن من العوز، ويدعو الله أن ينتقم من المتسببين ليلا ونهارا.
- كأى مغن يفضل الحديث أطول وقت ممكن عن الموسيقى، يضيق «الخال» بالأسئلة السياسية التى تخص الآن القاسى، ويتحمس للحديث عن الشعر، فسألته:
● نجاح شعر العامية سبيله دائما الأغنية سواء من خلال تترات المسلسلات أو غناء بعض المطربين له، لكنك كنت تترا وحدك؟ قصائدك المقروءة بصوتك لاقت نجاحا كبيرا بين مختلف الفئات...
- أولا أشكرك، ثانيا فإن شعراء الستينيات ومن سبقونا، فؤاد حداد، وصلاح جاهين كان الأساس فى تواصلهم مع الناس، هو النشر والقراءة، إذ كانت مصر تقرأ فى ذلك الوقت، وكانت القصيدة ما إن تنشر حتى تجد صداها، إيجابا أو سلبا، فى الشارع المصرى، أما قضية الأغنية فقضية لاحقة على القصيدة والنشر.
وهنا أحب أن أفرق بين القصيدة والأغنية بفارق حاد، وهو أن الأغنية لا تتبرأ من شبهة المهنة، والصنعة والقصد، بينما القصيدة على عكس ذلك تماما تقتحم الشاعر وتغمره، وتغير رؤاه للعالم، ليغير بدوره العالم ويعيد بناءه من جديد، ولا يقصد بذلك إلا وجه الفن والحقيقة، ومشاعره التى تتفرق وتتلاقى، ونشكل وعيا خاصا سريا، لا إرادة كبيرة للشاعر فيه.
وإيماء لملحوظتك، فأنا أحتفظ بالكثير من القصيدة أثناء كتابتها لأشى به أثناء الأداء، وهذا ما يخلق تلك الرابطة العميقة بينى وبين الجماهير، تشبها بالشاعر الشعبى الذى يحكى الملاحم والذى يتوحد مع جمهوره إلى حد أنك لا تستطيعين التفريق بينهما، ويوهم جمهوره بأنه يستطيع أن يفعل كما يفعل هو، مخفيا عن قصد كل مقولات الثقافة والعجرفة اللغوية والترفع عن البشر.
● لكن هذا الإيهام بسهولة خروج الشعر، وشعرك تحديدا، خلق من بين جمهورك مقلدين لك ومتشبهين بك؟ بخلاف التلامذة والمحبين، فهل يضايقك هذا؟
لا يضايقنى إلا قصيدة ليس فيها شعر، فليست مجرد «عوجة البق»، والكلام عن النخل والدار وغيرها من المفردات يعنى أن هناك قصيدة، فالقصيدة ليست مفردات، وإنما سياق يخلق مفرداته، وأنا أحاول بكل جهدى أن أنبه أمثال هؤلاء أن يكتبوا حياتهم هم، وأن ينسوا أن اللهجة هى التى أوصلتنى لأن أكون ما أنا عليه. فأحيانا أجد شبابا يكتبون عن أمى وعن بيتنا، وكأنه ليس لديهم أم أو قرية أو بيت خاص، ونادرون هم الذين يأتونك بنص مدهش، بعالم طازج لم ينتهك، وبلغةِ عذراء، وصور مشعة، شديدة الخصوصية.
● بمناسبة اللهجة كيف استطعت تطويع خصوصيتها المحلية، لتتجاوز حدود مصر إلى الدول العربية الأخرى؟
انظرى. أحيانا لا يسمع الشعر حتى فى بلده، لغياب العناصر التى أسلفت ذكرها، إلى جانب غلبة الحرفة على الصدق، وغلبة البحث عن الفحولة الشعرية على الرؤية، التى يمكن للناس أن ترى بها أيضا، أما إذا كنت مؤمنة بوعيك الخاص، غير المنفصل عن وعى الجماهير، إلى جانب إذابة كل الثقافة للتخديم على هذه الرؤية، فإنك لا تخشين أن تقولى تلك الأشعار فى أى مكان فى الأمة العربية، وهذا ما حدث معى، إذ تتلمذ على أشعارى الكثير فى البلدان العربية، وتكتظ الساحات الثقافية لسماعى فى كل مكان، مع الحصول على شهادات التقدير من دول عديدة، بمعنى أن الصدق لا يذهب هباء، تماما مثلما تغنى لمصر فى قطر أو الإمارات العربية فتواجهين ب«كومنولث» عربى، أى تجتمع كل الجنسيات العربية لسماعك، ولكل منهم قصائد بعينها يطلبها ويتحزب لها. وفى تلك الفترة يتحقق لى أن أكون الشاعر الشعبى، الذى يطلب منه جمهوره أشياء بعينها من الملحمة التى يرويها، وربما كان هذا هو مبعث فخرى الكبير، لأن خروج الشاعر عن حيز جمهوره المحلى، مهما كان متسعا كالجمهور المصرى، يعطيه ثقة أكبر فى أن ما يقوله ليس مرتبطا بمكان أو زمان، وإنما هو صالح حتى فى حال ترجمته لأن يلف العالم، وربما كانت تجاربى فى روما وفيينا وباريس، وجامعات: أكسفورد وكامبريدج وليدز خير دليل على ذلك.
● لذا كان نيلك لجائزة مبارك مفاجأة سارة للجميع، فضلا عن كونه إضافة وانتصارا للعامية وشعرائها، لكنه فتح الباب لاتهامات قديمة أن تطفو على السطح...
- أولا أحب أن أؤكد للمرة الألف أن من أعطانى هذه الجائزة هم صفوة المثقفين المصريين، والعلماء ال 62 عضوا، الذين تتكون منهم لجان إعطاء الجائزة، وهى جائزة لا يترشح لها أحد من تلقاء نفسه، وإنما لا بد أن ترشحه هيئة ثقافية أو علمية، وأنا قد أعرف بعضهم لكننى لا أعرف الجميع، لذا لا أشك فى نظافة وطهارة هذه الجائزة بالنسبة إلى.
أما كونها تحمل اسم مبارك أو طه حسين فهذا لا يهم، لأنهما لا يعطيانى الجائزة، وإنما من يعطها هم رموز الحركة الثقافية، وليس معنى أننى حصلت على الجائزة أننى دخلت الحزب الوطنى.
لقد حصلت على الجائزة ليس لأننى كتبت أغنيات مثلا، وإنما للستة عشر ديوانا شعريا، التى واكبت تاريخ مصر، فى الفترة التى عشتها، ولكتبى النثرية، ولبحثى ولجمعى السيرة الهلالية على مدى ثلاثين عاما، وعلى المحاضرات والأمسيات الشعرية فى عديد من منابر الأمة، إلى جانب بعض الأفلام التى كتبت حواراتها، ثم تلك الأغنيات التى تغنت بالوطن، وبعواطف ليست مريضة. إلى جانب نشاطى السياسى بصورة عامة، وتلك الشعبية التى لا يهبها الشعب لأى أحد مجانا.
● وماذا عن اتهامك بأنك حصلت على الجائزة لقربك من السلطة؟
نعم. هناك من ينبط على الجائزة ويوحى بأننى حصلت عليها لأنى شاعر حكومى، بينما هو يتسول حسنى مبارك، فى أحد البرامج التليفزيونية طالبا منه العفو والمغفرة، ولا أعرف كيف يتسق هذا مع ذاك؟!.
وأنا لم أتعرض للتهجمات إلا من شعراء عجزة، يملكون مواهب ضحلة، لا تساعدهم على السير طويلا، أو من أشباه شعراء، كانوا يشكلون ما يشبه الظاهرة، وطوى الزمن إبداعهم فيما طوى، فتحولوا إما إلى جنرالات يديرون جنودا وهميين، أو خيالات «مقاتة» يحرسون حقولا ليست مزروعة، وفى حياتى لم أقبل أن أدخل معهم فى شجار أو حوار كما حلموا. لأننى كنت مؤمنا بأن ثمة شيئا اسمه الغد، ومع الأسف هو دائما يأتى ليرى من الباقى ومن هرسته أحقاده، ورغبته فى أن أتوقف عن الإبداع.
لقد قلت كثيرا من قبل إنك لا تستطيع أن تقتل شاعرا من خارج القصيدة، فالشاعر لا تبكيه إلا قصيدة أفضل من قصيدته، تشع صدقا، وجدة، ومضامين حقيقية تؤثر فى الواقع، وتلف حولها البشر الصادقين، ولم يحدث هذا معى حتى الآن.
أما التشويه بأننى كنت شاعر السلطة، أو أننى كنت أعمل مع شعراوى جمعة، رحمه الله، أو أننى ابن.... فكل هذا زائل ومردود إلى أهله.
ونحن فى الستينيات عندما كان يكتب صلاح جاهين قصيدة كنا نحملها وندور بها على الجميع، نقرأها وننسخها على الرغم من أننا كنا شعراء كبارا.
● ما رأيك فى شكل العمل السياسى فى مصر الآن ؟
ما أراه أن إخواننا فى المعارضة، ومعظمهم أصدقاء وأحباء، يلعبون دور الطليعة والجماهير معا، أى أن كلا منهم يدلى للآخر برأيه، ويستمع إلى رأى الآخر، ولكن فى غيبة عن الجماهير الحقيقية، التى فى المدن الصغيرة، وعلى هوامش المدن الكبيرة، وفى القرى، وفى مثل تك المواقع التى لا يعرف المثقفون طريقا إليها. وهم يتضخمون فى أماكنهم، ولا ينمون فى داخل الجماهير، أى لا يتركون الجماهير تعطيهم هذه الألقاب، مثلهم فى ذلك مثل بعض الأدباء، الذين يمنحون لأنفسهم ألقابا تزول بزوالهم، ذلك لأن لأهل الحقيقة لم يعطوهم هذه الألقاب، ولم يعرفوا بهم أصلا.
فأنا هنا مثلا فى هذه القرية التى أعيش فيها، لا أرى أثرا لهؤلاء المثقفين أو حتى للحزب الوطنى، وما أراه هو المجهود السلفى الذى يعمل بكل جد وحماس لتغيير الواقع وتنقيب النساء، وإطلاق الذقون، وهم الآن يلجأون للنساء للقيام بهذا الدور، إلى جانب المساعدات العينية من أرز وسكر وصابون وشاى، حتى أصبح الشارع رصيدا لتلك الاتجاهات التى يعارضونها فى القاعات المغلقة.
وأنا أحترمهم وأحبهم وأنتمى إليهم ولكنى أومن أن هذا الطريق وهذه الأساليب لن تؤدى إلى نتائج مأمولة.
● فى ضوء هذا كيف ترى أزمة جريدة الدستور الحالية بعد إقالة رئيس تحريرها الكاتب إبراهيم عيسى وتصفية الجريدة؟
أنظر إلى أزمة الدستور كجزء من ظاهرة ناشئة لإطفاء الكثير من أضواء التعبير الحر فى مصر، كما حدث مع الإعلاميين عمرو أديب وقناة الأوربت، وعلاء صادق، وكانت الدستور ثالثة هذا الأساسى، ذلك لأن الضربة قاسية لكل هؤلاء الذين يملأون الدستور بكل الآراء المتقدمة والشجاعة، فالدستور ليست إبراهيم عيسى فقط، ولكن عيسى قائد لكتيبة من المناضلين والثائرين بالكلمة، الذين يدخلون معارك مع الحكومة، وينتزعون أرضا جديدة فى كل يوم.
وينظر الإنسان بريبة للأيام المقبلة، منتظرا أن تطفأ العديد من بؤر الإضاءة والوعى فى مصر، والدولة على ما يبدو نسيت أن ما يكتب بعرق الجبين والنضال، من الصعب انتزاعه مرة أخرى، لذا فنحن متضامنون تماما مع الكتيبة الحية لمفكرى وكتاب وصحفيى الدستور.
● لنختم بمنطقة أكثر إنسانية... ماذا عن يحيى الطاهر عبدالله وأمل دنقل؟، إذا لم يقل الموت كلمته معهما، إلام كنت تتوقع أن يصل بهما الحال؟ هل كان يحيى سيحصل على نوبل؟ أم تفترس الفيروسات نحولته؟ وأمل هل كان سيدخل السجن أم يدعى لمؤتمرات شعرية بالخليج؟
أحيانا حين أتحدث عنهما يفهم كلامى على سبيل الخطأ، فقد رفع أهل يحيى الطاهر على مجموعة من القضايا، تزن نصف قفة، فقط لأننى تحدثت عن صفات أصيلة فى يحيى وهو فى درجة ابنى فقد عاش فى بيتنا فى قنا بعد أن غادر الكرنك لمدة ثلاث سنوات، يضاف إليها ثلاث سنوات أخرى عاشها معى فى القاهرة، وفى ليلة زواجه حين هرب منا وانتظرناه أنا والدكتور جابر عصفور، والكاتب سليمان فياض، والشاعر فاروق شوشة ولم يأت، اضطررت للجلوس على كرسى العريس مكانه، إلى جوار العروس، حين أجبرنى الجميع على ذلك، وبالتالى فحين أتحدث عنه فأنا أتحدث عن قطعة منى، ويحيى كان لا يحتمل أية ظواهر سيئة، أو أقوال خطأ، ولو كان لا يزال موجودا لكان جنّ منذ وقت طويل، فالأحوال التى نعيشها لا تسمح إلا لمن لديهم بعض العقل البارد بالاستمرار والعطاء والإبداع.
أما عنه كقصاص فكنت أقول دائما إنه شاعر القصة القصيرة، وهو رجل عميق الرؤية، نادر الإحساس، معجز التعبير، ولديه لغة خاصة، نحتها من كل ما صادفنا من لغات ولهجات، فصارت لغته فى القص، وعلى كثرة من حاولوا تقليده فإن يحيى يظل حالة فريدة فى القصة القصيرة، وعيبه أنه رحل سريعا، ولا أرى أحدا من جيله يتحدث عنه، وهذه مأساة، فقد نموت غدا فلا يذكرنا أحد.
أما أمل دنقل فهو شاعر فذ، استطاع أن يحمى خصوصيته الذاتية بعنف ورقة، ولأنه صاحب شعر فريد، ورؤى شجاعة، وقصيدة لم يسبقه إليها أحد، يظل اسمه، وتظل أشعاره تتردد، ولو كان على قيد الحياة لكان قد كتب ملاحم الآن، فى هول ما نعيش وما نرى.
فى الواقع لقد فقدت بهما «الونس»، ودفء العلاقات القادمة من عوالم الطفولة والصبا، رحمهما الله.
● متى يمكن أن تتوقف عن الكتابة؟
أى شيطان أوحى إليك بهذا السؤال؟!
حين أتأكد أننى لن أجد قصيدتى التى تعطينى ملامحى، وتضىء اسمى وتجدده، فلا شك أنها اللحظة التى أفارق فيها الحياة، فلا أتخيل متعة فى الدنيا أكثر من متعة القول، ولا ثروة فى العالم يدعون أننى مليونير، وأحيانا ملياردير أغلى من القصيدة، فإذا ما غابت القصيدة غبت معها، فأنا رجل ينزعج حين تطول المسافة الزمنية بين قصيدة وأخرى، و«أحرحر» مثل «الفروجة» التى عليها بيضة، إذ ما قيمتى بدون هذه القصيدة؟، فأنا لا مال ولا جمال، والشعر هو الذى يمنحنى كل ذلك.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.