في تصعيد لافت في لهجتها السياسية، لوّحت القاهرة بإمكانية التدخل العسكري في السودان، مؤكدة أن المساس بمؤسسات الدولة السودانية أو تقويضها يمثل «خطًا أحمر لا يمكن تجاوزه»، ومشددة على حقها في اتخاذ «كافة التدابير والإجراءات» التي يقرها القانون الدولي واتفاقية الدفاع المشترك بين البلدين. وجاء هذا الموقف في بيان رسمي صادر عن رئاسة الجمهورية المصرية عقب استقبال عبد الفتاح السيسي، رئيس المجلس السيادي السوداني عبد الفتاح البرهان، في القاهرة، حيث تناول اللقاء تطورات الأزمة السودانية وسبل احتوائها، إلى جانب التأكيد على عمق العلاقات الثنائية بين البلدين.
غير أن لغة البيان، وتوقيته، يفتحان الباب أمام تساؤلات أوسع حول طبيعة الدور الذي تسعى القاهرة للعبه في السودان، وما إذا كان هذا الدور نابعًا من حسابات الأمن القومي المصري الخالص، أم من اصطفافات إقليمية تقودها أبوظبي، التي بات نفوذها متغلغلًا في ملفات المنطقة، وعلى رأسها الملف السوداني.
خطوط حمراء… وانتقائية في التطبيق
البيان الرئاسي شدد على أن وحدة السودان وسلامة أراضيه تمثلان ركيزة أساسية للأمن القومي المصري، رافضًا أي محاولات للانفصال أو إنشاء كيانات موازية، ومعتبرًا أن أي مساس بهذه الثوابت يهدد استقرار البلدين معًا. كما عبّرت القاهرة عن قلقها إزاء الانتهاكات الواسعة بحق المدنيين، لا سيما في إقليم دارفور ومدينة الفاشر، وما صاحبها من تفاقم للأزمة الإنسانية.
لكن مراقبين يرون أن هذا الخطاب، رغم صرامته اللفظية، يصطدم بسجل مصري متناقض في إدارة أزمات الإقليم، حيث تغيب ذات الحدة عندما يتعلق الأمر بتدخلات حلفاء القاهرة، وفي مقدمتهم الإمارات، في الصراع السوداني، سواء عبر دعم أطراف بعينها أو عبر الدفع بمسارات سياسية تخدم مصالح اقتصادية وجيوسياسية محددة.
السودان بين الأمن القومي والمصالح الخليجية
ويذهب محللون إلى أن التحركات المصرية في السودان لا يمكن فصلها عن الرؤية الإماراتية للمنطقة، التي ترى في السودان ساحة نفوذ استراتيجي، سواء عبر الموانئ، أو الثروات الزراعية، أو إعادة تشكيل موازين القوى الداخلية. وفي هذا السياق، تبدو القاهرة أقرب إلى لعب دور «الضامن الأمني» لترتيبات إقليمية، أكثر من كونها فاعلًا مستقلًا يضع أمنه القومي في الصدارة.
ويعزز هذا الانطباع ما ورد في البيان من تأييد مصري للرؤية التي طرحها الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب بشأن «تحقيق الأمن والاستقرار في السودان»، وهو ما يعكس، بحسب منتقدين، ارتهان القرار المصري لأجندات خارجية، بدلًا من بلورة مقاربة نابعة من المصالح المصرية والسودانية المشتركة.
تلويح بالتدخل… ورسائل متعددة الاتجاهات
التلويح المصري بالتدخل العسكري، وإن جاء مغلفًا بعبارات القانون الدولي والشرعية، يحمل رسائل تتجاوز الداخل السوداني، ليصل إلى أطراف إقليمية ودولية فاعلة. إلا أن السؤال الجوهري يبقى: هل تمتلك القاهرة إرادة مستقلة لاستخدام هذا الخيار دفاعًا عن أمنها القومي الحقيقي، أم أن التدخل – إن حدث – سيكون جزءًا من إدارة صراع بالوكالة، تُقدَّم فيه المصالح الإماراتية على حساب استقرار السودان وأمن مصر طويل الأمد؟
في المحصلة، يعكس البيان المصري تصعيدًا سياسيًا محسوبًا، لكنه يسلط الضوء في الوقت ذاته على أزمة أعمق في السياسة الخارجية المصرية، حيث تتداخل مفاهيم «الأمن القومي» مع حسابات التحالفات الخليجية، في معادلة يدفع ثمنها السودان أولًا، وقد تدفع مصر كلفتها لاحقًا.