يجمع نظامي الحكم في مصر والسودان سمات مشتركة، تتكامل مع ما يجمع الوطنَين من مشتركات استراتيجية، ولم يكن التباعد السياسي بين الإدارتين، بعد أزمة سد النهضة ثم الحضور التركي في جزيرة سواكن، سوى انعكاس لمرحلة كاملة من التأزّم، بدأت بحلول يونيو 2013 وتولّي الإدارة المصرية الحالية مقاليد الحكم، مرحلة جاءت بدورها، بعد عقود من التباين السياسي بين النظامين، وإن لم يمنع هذا تحقيق حدود دنيا من التوافق، الذي اتضحت هشاشته بتعرّض الإقليم كاملاً لتحوّلات في موازين القوى، بعد ما أطلق عليه "الربيع العربي"، وتداعياته. سمات مشتركة أولاً: تدير الدولتان وطنَين يتمتعان بوفرة نسبية في الموارد الطبيعية الكفيلة، حال إحسان استثمارها والاعتماد عليها، ستقوم نهضة اقتصادية وتنموية، مع بقاء معضلة أن تلك الحقيقة لا تجد لنفسها فاعلية إيجابية في العصر الحالي ونمطه الاقتصادي، ولكن البلدين لم ينجزا حتى الآن، وبعد عقود من التحرر الوطني عن الاستعمار القديم، نهضة تنموية زراعية، فضلاً عن عدم دخول عصر الصناعة بالمعنى الحقيقي ولو على مستوى الصناعات المتوسطة، بالإضافة إلى عدم حيازة ما يؤهل لعلاقة نديّة مع سوق العولمة الرأسمالية بمنظومته الطاحنة وطبيعته الاستعمارية. ثانيًا: يعتمد النظامان على مسار طويل ومستمر من الدعم المالي الاقتصادي الخارجي، مقترن بالتحالف السياسي مع مصدر الدعم أو – في الحد الأدنى – التناغم مع مجمل مواقفهما السياسية، ويبرز لدى الدولة المصرية، نسبيًّا، هامش أعلى من الاستقلالية وحضور لحد أدنى من المحددات، كما في الملف السوري الذي حافظت مصر بشأنه على تعاطي مختلف عن المملكة السعودية، مع الإبقاء على مسايرة الأخيرة في مجمله، وجاء العدوان على اليمن مثالاً لتلك الحقيقة، حيث تورط السودان في أعلى سقف ممكن من التحالف مع المملكة على الأرض، فتحمّل مسؤولية الدفع بقوات بريّة كبديل عن الدفع بقوات سعودية لمساندة قوات هادي، بينما اكتفت مصر بمشاركة عسكرية رمزية مع موقف سياسي، غير مكلف، داعم للعدوان؛ لذا يمكن القول إنه ليس لأي من النظامين توجّه كامل الاستقلال وخطوات متفرّدة في السياسة الخارجية والإقليمية، وإن اتجاههما في هذا السياق مرتبط بالقوى الإقليمية والعالمية الفاعلة والمُبادِرة في المرحلة الحالية، أي الولاياتالمتحدة ومملكة آل سعود وتركياوقطروإيران، وخطوات تلك القوى والمحاور التي تشكلّها. ثالثًا: تمثّل الإدارتان نموذجًا للنظام القوي المركزي الحاكم لدولة يعتريها الضعف، مع اختلاف السياق المؤدي لذلك، فيعبّر الواقع المعيشي والاجتماعي والسياسي في البلدين عن ترهّل عام وتراجُع في بنية الدولة، دون أن تصل أي منهما إلى نموذج "الدولة الفاشلة" بالكامل، وإن ظلت عوامل هذا النموذج حاضرة رغم إبقاء أجهزة النظامَين، الأمنية وغيرها، على قوة النظام نفسه وإمساكه بالسلطة، في غياب أي فاعلية سياسية لقوى مغايرة أو بديلة للقوى الحاكمة للبلدين، وإن تمايَز النظام المصري بقوة أعلى، مع هيكل دولتي (جهاز دولة) أكبر وأكثر حداثة وتركيبًا، وتاريخ طويل من الحكم المركزي الراسخ؛ من عوامل النموذج المذكور ضعف سيطرة الدولة على قطاع جغرافي منها، أو أكثر، وقيام خرق كبير لاحتكارها حيازة السلاح، الأمر المتحقق بشكل أكبر في السودان، الذي تعرّض للتقسيم بالفعل نتيجة حرب أهلية، ويعاني إلى الآن صراعًا عسكريًّا مع متمردي إقليم دارفور، بينما يبدو الوضع أفضل في سيناء، التي ساعدت عزلتها الجغرافية الطبيعية على كبح خطر الإرهاب عن باقي أراضي الدولة، وإن أسهم الوضع الليبي في تسلل خطر ثانٍ من الغرب تجري مكافحته. السمات الثلاثة نجد لها حضورًا في الأزمة الحالية بين الدولتين، وتكفل وحدها تعقّدًا بالغًا للموقف، فضلاً عن تكاملها مع عامل آخر هو واقع الاستقطاب بين المحاور والتحالفات في الإقليم، كما تحقق غيابًا مزدوجًا للقوة وللاستقلال السياسي لدى الدولتين، مما يمنع توافقهما على حد أدنى من المصالح المشتركة يخفف من انعكاس الاستقطاب الإقليمي على العلاقة الثنائية. نظام البشير.. الرقص على أحبال القوى الإقليمية بخلاف الحالة المصرية الأكثر سكونًا في معسكر الولاياتالمتحدة والخليج، والمترسّخة بمعاداة إيران دون سبب كافٍ واتّباع الموقف الخليجي في اليمن والتنازل عن جزيرتي تيران وصنافير المصريتين. تحدد بوصلتان للنظام السوداني تحالفاته السياسية الإقليمية بلا محددات أخرى تُذكر، الأولى "ماليّة" مباشرة، والثانية متعلّقة بالوضع الأمني الداخلي الهش في مواجهة التمردات المسلّحة في دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق، الخطيرة على النظام والدولة، رغم اتفاق السلام بشأن دارفور الذي رعته الدوحة عام 2011 وكان مدخلاً مبدئيًّا لتقارب سوداني قطري، تمّ لاحقًا عندما نضجت العوامل الموضوعية لإتمامه، كما تنتج تلك الأزمات ضرورة عمليّة للتقارب الحثيث مع إثيوبيا، فيما يخص ولايتي جنوب كردفان والنيل الأبيض، بصرف النظر عن مصر ومصالحها، ومع تشاد فيما يخص دارفور. تحت ضغط غربي وحصار اقتصادي وعقوبات اقتصادية أمريكية على الإدارة السودانية، شهد السودان في بدايات عقد 2010 تقاربًا مع إيران التي اكتفت بتقديم معونات تقنية وعسكرية للخرطوم، في ظل أزمة اقتصادية داخلية مستفحلة وقتها، وهو تقارب أسفر وفقًا لأولوية إيران عن نقل أسلحة إلى المقاومة الفلسطينية في غزة، فكانت بداية المرحلة الحالية من الأزمة السياسية مع الدولة المصرية، وصولاً لقصف صهيوني على شحنات في محيط مصنع اليرموك للأسلحة في الخرطوم عام 2012، وشهد عام 2015 قفزة نظام البشير الأولى نحو المحور المقابل، حين استقطبته مملكة آل سعود في إطار حربها المكلفة وصعبة الحسم على اليمن، مقابل وعود بالتوسط لدى الولاياتالمتحدة لرفع العقوبات عن السودان، وهو ما تحقق بشكل هامشي وجزئي تمامًا في الأيام الأخيرة لإدارة أوباما، بما لم يحقق للنظام السوداني ما أراد، وقد واجه عامي 2013 و2016 احتجاجات مطلبية اقتصادية ومعيشية واسعة، مما دفعه، مع الفشل المتزايد للحملة السعودية، إلى حسم اتجاهه لمحور تركياوقطر والإخوان المسلمين، عائدًا لجذوره الإخوانية ومتلقفًا التمدد التركي الاقتصادي في إفريقيا والعسكري في الصومال تحديدًا، والاستثمارات المالية القطرية المتوالية في الإقليم بوجه عام، وجاءت جولة أردوغان الإفريقية، في الأيام الأخيرة من العام الماضي، تدشينًا مناسبًا لانضمام السودان لهذا المحور، دون أن ينسى البشير أن يقول في كلمته الافتتاحية لجلسة المباحثات المشتركة مع أردوغان إن السودان يعتبر تركيا "آخر معاقل الخلافة الإسلامية". الوجه الجنوبي للتراجع الإقليمي المصري يعبّر الاعتماد المصري على الحضور العسكري الإماراتي في إريتريا لمناكفة وتهديد إثيوبيا وتركيا عما سبق ذكره عن تراجُع للدور الإقليمي لمصر، وغياب لاستقلال الفعل المصري عن الداعمين الاقتصاديين من "القوى الإقليمية الجديدة" المعتمدة على مال النفط، فجاء الالتحاق عسكريًّا ولوجيستيًّا بالإمارات في البحر الأحمر كانعكاس لهذا التراجُع، وعمل تحت مظلة الإمارات ليس بصفتها أحد "الداعمين" فقط، بل أيضًا باعتبارها خصمًا جذريًّا للإخوان المسلمين وقواهم وداعميهم (قطروتركيا)، الأمر الذي يتكامل مع حضورها العسكري هناك بقواعد بحرية في القرن الإفريقي واحتلال عسكري لعدد من الجزر اليمنية الصغيرة، حضور لولاه لما استطاعت مصر القيام بخطوة أقرب إلى الرمزية، كإنزال عدد محدود من القوات في نقطة جغرافية بالقرن الإفريقي، مما يعني أن أي "تصعيد" مصري محتمل يتجاوز التهديد إلى الفعل، ضد الخِصم الإثيوبي أو الآخر التركي في جزيرة سواكن السودانية، سيكون تحت السقف الخليجي السعودي الإماراتي وحساباته، ولن يتحدد بمحض المصالح الحيوية المصرية وحساباتها. انعكاس آخر لالتحاق السياسة الخارجية لمصر وغياب استقلاليتها نجده في حفاظها على عداء يفتقر لما يبرر حدّته، بحكم الأمر الواقع، تجاه إيران، في الوقت الذي تقيم فيه الإمارات مثلاً، علاقات اقتصادية متميّزة مع إيران مع وقوعهما في محورين إقليميين متصارعَين، وفي الوقت الذي سلّمت فيه مصر أكثر نقاط أمنها القومي حيوية، وهو مدخل خليج العقبة المشرِف على سيناء، إلى مملكة آل سعود، لم يعمل محور المملكة والإماراتوالولاياتالمتحدة على وقاية وحفظ الأمن القومي المصري جنوبًا، واكتفى بتكثيف نقاط قوّته الخاصة بمعزل عن المصالح المصرية المهددة بسد النهضة وبالحضور العسكري التركي، رغم الالتحاق المصري الكامل بهذا المحور، بل على العكس تداخلت المملكة في الاستثمار بسد النهضة فضلاً عن استثمارات سعودية في عموم إثيوبيا، كانت كفيلة، حال حضور نديّة مصرية في العلاقة مع المملكة، بالتحوّل إلى أوراق ضغط على إثيوبيا لصالح مصر، وهو ما لم يحدث، تمامًا كما تم تبريد واحتواء الأزمة مع قطر "خليجيًّا" دون مكسب يُذكر لمصر، وكما عمل ويعمل النفوذ الإماراتي في ليبيا بسقف لم يراعِ يومًا المصالح المصرية كأولوية أو هدف، مع كون مصر أول وأكثر من يتحمل كلفة الوضع الليبي، والطرف الذي تُرِك ل"يناشد" المجتمع الدولي دعم الجيش الوطني الليبي بقيادة خليفة حفتر دون مردود حقيقي، مع تعاظُم التهديدات للأمن القومي المصري ببقاء الوضع في ليبيا على حاله، وعزوف القوة الخليجية هناك عن العمل على شيء سوى مصالحها الخاصة بمعزل عن مصر.