قبل أسابيع قليلة سألت هنا: من أين نبدأ؟ وجاوبت بالآتى: واضح جدًّا أن العصابة الفاشية بعدما أصابها مَسّ من جنان الشياطين وتحولت من إنكار الواقع والحقيقة المادية التى تنطق بأن شعب مصر عازم على نزع سمومها نهائيا وإلى الأبد من بدن الدولة والمجتمع، إلى السير وراء غرائزها المريضة وطبيعتها الجلفة ونزعة الإجرام والتوحش المتأصلة فى بنيتها من تحت لفوق.. هذه العصابة وحلفاؤها الإرهابيون لم يعد أمامهم جميعا من سبيل للهرب الموهوم من قدر الاندثار والموت المحتوم إلا التمادى والغوص أكثر وأعمق فى مهاوى العربدة الدموية والتخريب وتجاوز كل الحدود فى الخيانة الوطنية واجتراح آيات معجزات من الخسة والسفالة والضِّعة، على أمل وعشم يشبه عشم أخيهم إبليس فى دخول الجنة، أن يركع المصريون ويسلموهم الوطن لكى يبهدلوه كيفما يحلو لهم! باختصار، نحن فى حرب من نوع هو الأشد قذارة بين كل الحروب، فرضها علينا طول الصبر والتسامح أكثر من اللازم مع ظاهرة رديئة (التجارة الحرام فى الدين) نستطيع أن نصفها الآن بأنها كانت جريمة تاريخية مكتملة الأركان وليس لها مثيل فى الخطورة وإنتاج أذى فادح ورهيب على كل صعيد سياسى واجتماعى وعقلى وروحى. ومثل كل حرب عدوانية لا يستطيع الطرف الذى يقاوم أن يترك نفسه لردود الفعل تجاه أفعال المعتدين وعربداتهم وإنما يجب عليه أن يمسك بزمام المبادرة ويخطط جيدا للنصر ويتحسس مواضع أقدامه ويستجمع قواه وأسلحته كافة بعد أن يفرزها ويحددها بالضبط من دون تهويل ولا تهوين، وأن يصارح نفسه بوضوح بمن هم حلفاؤه فى المعركة، ومَن الذين ينخرطون عمليا فى المجهود الحربى للعدو، سواء عن قصد وسبق إصرار وسوء نية، أو بحُسن نية معجونة بجهل وتغفيل مريعَين مثل حال ذلك القطيع التافه البائس الذى نراه الآن وهو يهلفط ويتنطط ويتنطع بجرأة مثيرة للعجب على ثورة لا يعرفها ولا يفهم معناها أصلا، ومن فرط الخفة والأمية يجردها من أهدافها النبيلة ومراميها ويُسكنها فى رؤوس الدواب المنخرطين فى صفوفه على هيئة أفعال صخب وضجيج دائم فى الميادين والشوارع لا ترمى لشىء ولا يسعى مقترفوها لأى غرض سوى البقاء هكذا فى الجلبة والزيطة (وربما «الصياعة» أيضا) إلى أبد الآبدين! إذن، نحن نخوض الحرب ضد الأشرار أعداء الحياة ونحن محشورون فى قلب لوحة فوضوية مترامية وهائلة ومعقدة جدا وتتقاطع فيها الخطوط وتختلط الأوراق والمصالح، كما تتزاحم على رقعتها مئات المعطيات والتفاصيل مما قد يغرى بالعشوائية والتعامل بالقطعة مع عدو، على غشمه وغباوته، مندفع باليأس ومغترّ بالدعم المادى السخىّ المتدفق من خارج الحدود، مما يجعله قادرا على البقاء لوقت طويل نسبيًّا فى وضع يسمح له بالهجوم والعربدة واجتراح الجرائم من كل صنف.. وبناء عليه فإن التخطيط الجيد لتسريع الفوز بالنصر وتقليل كلفته إلى أدنى حد (للنصر كُلفة قطعًا) لا بد أن يمر أولا على إجابة سؤال: من أين نبدأ الهجوم المضاد؟ وما الحلقة الرئيسية التى لو ركزنا الجهد عليها ونجحنا فى كسرها ستتداعى خلفها باقى الحلقات بسرعة ويسر؟! العبد لله يستطيع أن يقول، بعد طول تأمل فى لوحة واقعنا الراهن، إن الحلقة الرئيسية، حيث يجب أن تكون البداية هى فى الواقع حلقتان مزدوجتان وملتصقتان لا حلقة واحدة، أولاهما خامتها القوة التى لا تسحقها إلا قوة مضادة حاسمة وصاعقة ومسلحة بسلاح الشرعية والقانون، وأما الحلقة الأخرى الموازية فهى حلقة «السياسة» التى تبدو لكل من يتمعن فى صورتنا ووضعنا الحالى أنها تعانى وتشكو من اهتمام وعناية وجهد أقل بكثير مما يوجَّه صوب الحلقة الأولى. ومع ذلك فقد أهدتنا الأقدار فرصة هائلة ورائعة لعلاج أوجه التقصير الشديد وإزاحة ركام الأخطاء والخطايا السياسية التى ارتكبناها منذ ثورة 30 يونيو حتى الساعة.. أقصد استحقاق إقرار الدستور الجديد وكيف نستفيد به ونجعله نقطة تطور وتحول دراماتيكى فى مسار الحرب بما يجعل النصر ملموسا أو قريبا جدا من أطراف أصابعنا. وربما تسأل عزيزى القارئ: هل «إقرار» مشروع الدستور الجديد من جانب جمهور الناخبين هو الشرط الوحيد لصنع مشهد مغاير لما هو قائم حاليا؟! وإجابتى أن حصول المشروع على شرعية الرضا الشعبى هو أمر شديد الأهمية وسوف يكون له تأثير إيجابى هائل لأنه سيمكننا من الشروع الفورى فى عملية بناء المستقبل الذى نحلم به، تلك التى تعطلت وجرى تعويقها عمدًا منذ ثورة 25 يناير حتى الآن، ولا هدف للإجرام والعربدة الإخوانية الحالية إلا استمرار هذا التعويق والتعطيل.. ومع ذلك فإن نتيجة التصويت فى الاستفتاء حتى لو جاءت سلبية (وهو احتمال صعب جدا) فلن يفقد الاستحقاق كل آثاره الإيجابية لا سيما إذا وفرنا له الحدود القصوى من النزاهة والشفافية فضلا عن كثافة حضور الناخبين أمام لجان الاقتراع، فمجرد إتمامه على هذا النحو كافٍ لإحداث تغيير حقيقى وملموس فى ملامح المشهد السياسى.