مصر وتونس يجمعهما، إلى الأخوة فى العروبة، كونهما شقيقين توأمين فى إطلاق مفاعيل ثورة شعبية عارمة وراقية لكن ثمارها الأولى فى القطرين سقطت (لأسباب موضوعية يطول شرحها) فى حجر قوى وجماعات غاشمة ومظلمة لا تكاد تخفى كراهيتها وعداءها الصريح لكل (تقريبا) الأهداف النبيلة التى ثار الناس من أجلها، لهذا رأينا على مدى عامين كيف تمتَّنت وتدعمت أواصر التوأمة، ليس بتوحد مشاعر الصدمة والإحباط الذى أصاب فعلا قطاعات من القوى الثورية فى المجتمعين المصرى والتونسى بعدما شاهدوا أحلامهم فى بناء وطن جديد ناهض تسوده الحرية والعدالة تنسحق أمام عيونهم، كما لم تتأكد وحدة مصير ومسار القطرين بتماثل صور العربدة والتخريب والفشل الذريع التى كابدها كل مجتمع منهما وهو يرزح تحت حكم جماعات التخلف والتأخر المتمسحة بالدين، وإنما بدا التماثل والأخوة بمعناهما الإيجابى مجسدين على نحو مدهش ومنعش للأمل أيضا عندما أظهر كل مجتمع منهما بسرعة ملحوظة حيوية كبيرة وقدرات هائلة على المقاومة بضراوة وبسالة ضد محاولات جماعات الفاشية الصاعدة وراثة الديكتاتورية الفاسدة المدحورة وإبدال نظام أسوأ وأشد قسوة وجلافة بها. هذا الكلام مناسبته ما يجرى حاليا فى تونس الشقيقة بعد جريمة اغتيال شكرى بلعيد المناضل والمعارض شديد المِراس لحكم حركة «النهضة» (النسخة التونسية المعدلة قليلا من جماعة «إخوان الشر» عندنا) ومحاولاتها المتهورة خطف الدولة والمجتمع التونسيين، وإن بحذق ولؤم أكبر مما تبديه «جماعتنا» الأقل تعليما ورشدا والأبعد تأخرا والأعمق غوصا فى البؤس العقلى والتساهل الأخلاقى. شىء مذهل هذا التشابه الذى يلامس حدود التطابق بين الحال فى مصر والحال فى تونس.. فالحديث نفسه تسمعه فى القطرين عن عربدة «الميليشيات» وعصابات البلطجة الجوالة، وتسويغ العنف والقمع وإشاعة ثقافة الكراهية و«التكفير»، والتحريض على إهدار الدماء والأرواح بفتاوى إجرامية لا يفوق شذوذها وهمجيتها إلا مستوى الجهالة الراقدة فى تلافيف عقول أصحابها، ومن ثم تخليق وتغذية بيئة مسمومة صديقة وحاضنة لإرهاب جامح ومنفلت، يتفشى ويتورم تحت مظلة التقويض والهدم الممنهجين لكل أسس ومعانى ومتطلبات دولة القانون والعدالة.. هذا فضلا عن إخفاق شامل وخيبة قوية جدا فى إدراة شؤون البلاد ورعاية مصالح العباد، مما أنتج تدهورا حادا وسريعا فى ظروف معيشة كتل وقطاعات شعبية واسعة زاد عليها ثقل الإفقار والتهميش والتجويع. إذن فقد تشارك مجتمعا القطرين فى مكابدة الظروف والمآسى والإحباطات والجرائم نفسها، تماما كما تجاورا فى موعد انفجار ثورتيهما وتبادلا عوامل الإلهام والتحفيز المعنوى مع الخبرات العملية للكفاح والتمرد.. والآن يبدو جليًّا أن مصر وتونس يلهم كل منهما الآخر ويشد أزره ويحرضه على الصمود والمزيد من المقاومة والكفاح الذى سيقرب يوم الخلاص من «عصابات» استغلت تركة التصحر والخراب السياسى والاجتماعى التى خلَّفتها عهود الديكتاتوريات الفاسدة المجحومة فى القفز والسطو المسلح على انتفاضات ثورية عفوية، إذا نجحت وبلغت أهدافها وغاياتها ستتبدد وتتآكل كل أسباب وجود هذه العصابات ونفوذها الذى حققته فى غفلة من تاريخ تطورنا. باختصار، أريد أن أقول إن الشواهد الحالية ومجريات الأحداث وسلسلة الاحتقانات والأزمات المحتكمة التى تعصف باستقرار قوى و«جماعات الشر» على كراسى الحكم فى مصر وتونس، ليست من نوع ولا من جنس أزمات الصراع السياسى بين أفرقاء اليمين واليسار التى تعرفها مجتمعات الدول المستقرة (دعك من نظريات النصب التى يهلفط بها قطعان المنافقين هذه الأيام) لكنها فى الحقيقة تجليات لصراع وجودى حامى الوطيس بين جماعات مسرفة فى الاغتراب عن العصر وتكره قيم التقدم ومنجزات الحضارة عموما، وبين مجتمعات تلفظها وتجاهد للخلاص منها بعدما جربتها واكتشفت بالدليل المادى الملموس (وبالغريزة قبل الوعى) أن غربة هذه الجماعات وغرابتها وشذوذها تحمل أخطارا داهمة، لا على الوطن وتماسك نسيجه فحسب، ولكن على أبسط شروط الحياة الإنسانية لسكانه جميعا.