لماذا قلت بالأمس إن ما فعله بعض سكان حى المنشأة بمدينة دسوق قبل أيام مع البلطجى أحمد السعيد حشاد، ربما يكون أفظع على الأقل فى دلالاته مما فعله أهالى قرية «كترمايا» اللبنانية العام الماضى مع المواطن المصرى محمد مسلم؟ للسببين أعينهما اللذين استند إليهما من استغلوا حادثة «كترمايا» لممارسة هواية الاستعلاء والإسراف فى مدح الذات، إذ قالوا آنذاك بمنتهى الثقة كما أشرت أمس، إن المجتمع المصرى محصن ضد ارتكاب عنف وحشى جماعى على النحو الذى اقترفه أهالى القرية اللبنانية مع مسلم، لأن الثقافة الرحيمة المتسامحة عميقة الجذور فى مجتمعنا، ولأن مؤسسات الدولة المصرية قديمة وقوية وحاضرة فى المجتمع بما يكفى لردع ارتكابات من هذا النوع، ومنع أسبابها من الأصل، وهى لم تتعرض، كما الدولة فى لبنان، لصراعات وحروب طائفية أنهكتها وقللت من قدرتها وهيبتها!! غير أن ما جرى فى دسوق الأسبوع الماضى كشف عن عوامل تآكل خطيرة، تراكمت على مدى عقود وسنوات الجمر الطويلة الأخيرة، وقد ضربت هذه العوامل بعنف فى أسباب تباهينا على الآخرين. وأبدأ بالثقافة الرحيمة النافرة من العنف والقسوة، فهى كانت فى الماضى القريب حقيقة واضحة يسهل ملامستها، أما حاليا فليس من السهل التعرف عليها فى واقع مشبع وملوث بمظاهر بؤس مركب، مادى وعقلى وروحى، يكابد المصريون عنفه وقسوته المتناهية.. فمن أين للمواطن المصرى البسيط القدرة على تمثيل ثقافته التاريخية الأصلية تلك؟ فضلا عن ممارسة أخلاقياتها وسلوكها، فى بيئة حياة خشنة ومضنية لم يعد يسممها الفقر والعوز وذل الحاجة فحسب «كما تعود فى عهود عديدة سابقة»، وإنما زاد عليها تشويه وخراب عقلى وروحى منهجى ومنظم وواسع النطاق، بات يتعرض له هذا المواطن على مدار الساعة، وأخذ يضغط عليه من أعلى ومن أسفل، أى من أبواق آلة «الإعدام» العقلى «لا الإعلام» الرهيبة بجناحيها العام والخاص، ومؤسسات التعليم (مع الاعتذار للفظة «التعليم»)، أما تحت فترعى وتسرح قطعان وجماعات تبيع الناس بضاعة الجهل والتأخر والجلافة. فى هذه البيئة، كيف لأهالى حى منشأة دسوق أن يعرفوا أن دين الإسلام ينهى نهيا قطعيا عن التمثيل بجثة ميت «ولو كان مجرما عتيدا» إذا كانوا وغيرهم من أهل مصر يتلقون ثقافتهم الدينية من جهال يتنطعون ويتمسحون بالدين فيقدمون على تحريم كل شىء تقريبا إلا الحرام نفسه؟! أما عن الدولة التى كانت قوية فحدث عنها الآن ولا حرج، إذ صارت فى أفضل الأحوال «دولة متفرجة» على الجرائم وانتهاك القوانين، خصوصا بعدما ختم حسنى مبارك وعصابته عصره الأسود الطويل بجريمة الفراغ الشرطى المتعمد، ذلك الذى تستغله حاليا جماعات أقرب للعصابات، بعضها جرى صنعه واختراعه وتلبيسه رداء الدين الحنيف فى دهاليز وأقبية مباحث النظام المدحور المظلمة، ومع ذلك تقدم هذه الجماعات نفسها للناس على أنها والإسلام سواء، وأن ما يهلفط ويهرطق به مشايخها وأمراؤها هو القانون الإلهى واجب النفاذ وليست قوانين الدولة، بل أصبحنا نراها وهى تغتصب من هذه الأخيرة سلطة إقامة العدالة علنا وجهارا نهارا (انظر ما يحدث الآن فى سيناء وبعض المناطق الأخرى). إذن، لماذا نستغرب أن يقدم مواطنون بسطاء على إنشاء منظومة عدالة خصوصية وأخذ أمر عقاب مجرم بلطجى بأيديهم؟ وهم بعيدا عن مؤسسات القانون ومرفق العدالة فى الدولة؟! وهل من المنطقى فى ظل الوضع القائم حاليا، أن نستنكر قيام هؤلاء المواطنين بالانتقام من المجرم حشاد إلى درجة تقطيع أطرافه، وشطر رأسه عن جسده وهو ميت، بينما كان بإمكانهم محاصرته فى منزله واستدعاء الشرطة للقبض عليه؟! ومن أدراك أنهم لو كانوا ذهبوا للشرطة التى تركته (وهو الهارب من السجن) يعيث فى الأرض فسادا وبلطجة،أن يقولوا لهم هناك: وإحنا مالنا ما تتحرقوا بجاز كلكم.. خلوا الثورة تنفعكم؟!!