فى نهاية شهر أبريل العام الماضى، داهمنا نبأ مروع حكى عن قيام مئات من أهالى قرية «كترمايا» الواقعة فى قلب إقليمالخروب اللبنانى، باختطاف رجل مصرى يدعى محمد مسلم، 38 سنة، عنوة، بينما كان فى حوزة قوة من الشرطة اعتقلته للاشتباه بأنه ارتكب جريمة قتل بشعة استهدفت جدا وجدة وطفلين من أحفادهما، 7 و9 سنوات، فضلا عن جريمة أخرى قيل إنه اقترفها من قبل، وهى اغتصاب فتاة فى الثالثة عشرة من العمر. وعلى مرأى ومسمع من رجال الشرطة الذين لم يكن عددهم كافيا لصد هذه الجموع الغاضبة وحماية المتهم الأسير، باشر الأهالى عملية انتقام رهيب من مسلم، ونفذوا بأيديهم حكم الإدانة والإعدام الذى أصدروه (هم) بحقه، وكان التنفيذ وحشيا وهمجيا إذ لم يكتفوا بقتل الرجل علنا، بل تمادوا فى الثأر الغريزى المنفلت من أى رحمة أو تهذيب خلقى وعقلى، فقاموا بسحل الجثة والتمثيل بها، ثم عمدوا إلى عرضها وتعليقها وهى مشوهة مدماة على عمود إنارة فى ساحة القرية!! آنذاك، لم تتأخر ردود الفعل المستبشعة المصدومة من هذه الفعلة الجماعية النكراء، وكانت النخبة اللبنانية بمختلف أنواعها (سياسية وثقافية وإعلامية) وبكل تناقضات أطيافها وطوائفها، أول من أجمعوا واجتمعوا (اجتماع نادر) على إعلان إدانة واستنكار قويين للحادثة التى اعتبروها نذير شؤم ودليلا، ليس فقط على ضعف الدولة وتآكل هيبتها وقدرتها على فرض سلطة القانون، وإنما يدل كذلك على تفشى ثقافة عنف وقسوة بدائية ارتدت بشرائح فى المجتمع إلى ما قبل مسيرة التحضر والترقى الإنسانى التى من أهم إنجازاتها اختراع «القانون» وابتكار «الدولة» وجعل مؤسساتها هى المحتكر الوحيد لإقامة العدالة وقوة إنفاذ وتطبيق القوانين. ولم تختلف ردود الفعل عندنا هنا فى مصر تجاه حادثة «كترمايا» عما قيل بشأنها فى لبنان، لكن ميزها فقط شىء من الغمز واللمز الذى تجاوز أحيانا حدود التلميح إلى التصريح المتعالى بأن المجتمع المصرى محصن ضد ارتكاب هذا النوع من الممارسات الجماعية الهمجية بسبب عمق ثقافته المتسامحة الرحيمة النافرة من العنف، وبسبب قوة دولته التى لم تنهكها -كما الدولة اللبنانية- الصراعات والحروب الأهلية والطائفية. ورغم أن شواهد ومظاهر عديدة (يراها الأعمى) خلفتها رحلة الخراب الشامل الذى ضرب مجتمع ودولة المصريين فى العقود الأربعة الأخيرة، كان من شأنها أن تطعن فى واقعية ومصداقية الزعم بنأى وارتقاء المجتمع المصرى فوق حوادث وارتكابات من صنف ما جرى فى قرية «كترمايا»، فإن أشد الناقدين -العبد لله واحد منهم- لمنهج الاستعلاء والإسراف فى مدح الذات بمناسبة ودون مناسبة، لم يكن يتوقع ولا يرد فى أسوأ كوابيسه أن يسمع بوقائع ما جرى قبل أيام فى حى المنشية بمدينة دسوق عندما ضاق الناس هناك ذرعا بعربدات بلطجى هارب من وجه العدالة، راح على مدى شهور طوال يقترف أبشع الجرائم بغير رادع من مؤسسة قانون وعدالة، وفى غياب تام وضعف مزرٍ من جهاز الشرطة، فقرروا أن يأخذوا أمر الثأر من هذا المجرم وعقابه بأيديهم، فكانت النتيجة أن صنع أهل حى منشية دسوق نموذجا فظيعا نافس وربما تفوق على ما صنعه أهالى قرية «كترمايا» اللبنانية قبل عام ونصف العام مع المواطن المصرى محمد مسلم، ليس فى القسوة والوحشية فحسب، وإنما أيضا فى قوة إشارته إلى الحال الراهنة لمجتمعنا ودولتنا و.. أكمل غدا!!