قلت بالأمس إن سلسلة حوادث الانتقام الوحشى والعنف الأهلى الدموى التى كان آخر حلقاتها ما جرى الأسبوع الماضى فى محافظتَى دمياط والشرقية، ربما تكون أفظع وأخطر فى دلالاتها على الأقل مما فعله أهالى قرية كترمايا اللبنانية مع المواطن المصرى محمد مسلم قبل ثلاث سنوت.. لماذا أخطر؟ للسببين عينهما اللذين استند إليهما من استغلوا حادثة كترمايا وقتها لممارسة هواية الاستعلاء والإسراف فى مدح وتبجيل الذات، إذ قالوا بمنتهى الثقة أيامها، إن المجتمع المصرى محصن ضد ارتكاب عنف وحشى جماعى على النحو الذى اقترفه أهالى القرية اللبنانية مع مسلم، لأن الثقافة الرحيمة المتسامحة عميقة الجذور فى مجتمعنا، ولأن مؤسسات الدولة المصرية قديمة وقوية وحاضرة فى المجتمع بما يكفى لردع ارتكابات من هذا الصنف ومنع أسبابها من الأصل، وهى لم تتعرض، كما الدولة فى لبنان، لصراعات وحروب طائفية أنهكتها وقللت من قدرتها وهبطت بهيبتها! غير أن حوادث العنف الدموى المروع التى تتوالى أخبارها علينا منذ عام ونصف العام (تحت ظلال جريمة الغياب الأمنى المبرمج بعد الثورة) كشفت عوامل تآكل خطيرة تراكمت على مدى عقود وسنوات الجمر الطويلة ونحرت بقوة فى أسباب تباهينا على الآخرين وتعالينا على أمراضهم. وأبدأ بالثقافة الرحيمة النافرة من العنف والقسوة، فهى كانت فى الماضى القريب حقيقة واضحة فعلا يسهل ملامستها، أما حاليا فليس من السهل التعرف عليها فى واقع مشبع وملوث بمظاهر بؤس مركب، مادى وعقلى وروحى، تَلظَّت الأغلبية الساحقة من المصريين بناره وتعذبت بقسوته.. فمن أين للمواطن المصرى البسيط إذن القدرة على تمثل عوامل تحضره وأصل ثقافته التاريخية بحيث يعود سلوكه الجمعى رحيمًا مهذبًا، بينما هو فى بيئة حياة مضنية وخشنة وقاسية لم يعد يسممها الفقر والعوز وذل الحاجة فحسب، وإنما زاد عليها تشويه وخراب عقلى وروحى منهجى ومنظم وواسع النطاق بات يتعرض له هذا المواطن على مدار الساعة وأخذ يضغط عليه من أعلى ومن أسفل، أى من أبواق آلة «الإعدام» العقلى ومؤسسات التعليم (مع الاعتذار للفظة «التعليم»)، أما تحت فترعى وتسرح قطعان وجماعات تبيع الناسَ بضاعةَ الجهل والتأخُّر والجلافة (هذه الجماعات باتت تسرح وتمرح الآن براحتها فوق قمة السلطة العليا)؟ فى هذه البيئة، كيف لقرويين بسطاء أن يعرفوا أن دين الإسلام ينهى نهيًّا قطعيًّا عن التمثيل بجثة ميت ولو كان مجرمًا عتيدًا، إذا كانوا وغيرهم من أهل مصر يتلقون ثقافتهم الدينية من جُهّال يتنطعون بجلافة ويتمسحون بوقاحة بالدين الحنيف فتراهم يحرِّمون كل شىء فى الدنيا تقريبا، إلا الحرام نفسه؟! أما عن الدولة التى كانت قوية فحدِّث عنها الآن ولا حرج، إذ صارت فى أفضل الأحوال «دولة متفرجة» على الجرائم وانتهاك القوانين خصوصًا بعدما ختم حسنى مبارك وعصابته عصره الأسود الطويل بجريمة الفراغ الشرطى المتعمَّد، ذلك الذى تستغله حاليا جماعات أقرب للعصابات، بعضها جرى صنعه واختراعه وتلبيسه رداء الدين الحنيف فى دهاليز وأقبية مباحث النظام المدحور المظلمة، ومع ذلك تقدم هذه الجماعات نفسها للناس على أنها والإسلام سواء، وأن ما يهلفط ويهرطق به شيوخها وأمراؤها هو القانون الإلهى واجب النفاذ لا قوانين الدولة، بل أصبحنا نراها وهى تَغتصِب من هذه الأخيرة سلطة إقامة العدالة علنا وجهارا نهارا (انظر ما يحدث الآن فى سيناء وبعض المناطق الأخرى). إذن، لماذا نستغرب أن يُقْدِم مواطنون بسطاء على إطلاق العنان لعنف ثأرى غريزى والتعامل بمنظومة عدالة خصوصية وعشوائية تسمح بأن يأخذوا أمر عقاب المجرمين والبلطجية بأياديهم هم بعيدا عن مؤسسات القانون ومرفق العدالة فى الدولة؟! ربنا يستر.