حاولت فعلا، لكنى فشلت فشلا ذريعا فى الهروب من اعتراف علنى واضح وصريح بحقيقة أن مشاعر التوجس والنفور الذى يصل فى أحيان كثيرة إلى حد العداء الشديد للثورة وكل ما حملته من شعارات راقية وأهداف نهضوية ومبادئ سامية، إنما هى مشاعر متغلغلة ومتفشية ومتوطنة فى مساحات واسعة من أجهزة ومؤسسات الدولة المصرية عموما، وخصوصا أجهزة الأمن والشرطة. ولا غرابة فى ذلك إذا تذكرنا وأدخلنا فى اعتبارنا حقيقة أخرى أقدم هى أن دولة المصريين (ومجتمعهم أيضا) تعرضا لأطول عملية سطو مسلح فى تاريخ البلاد الحديث كله، إذ امتد هذا السطو لنحو أربعة عقود من الزمن، لكن عصابات اللصوص والنهابين والمزورين التى تدفقت منذ منتصف سبعينيات القرن الماضى (من بعد حرب أكتوبر تحديدا) على قمة الدولة وعششت فى مفاصلها الحسّاسة طورت على مدى الأعوام الخمسة عشر الأخيرة عملياتها التخريبية، فلم يعد نشاطها وجهدها الإجراميان مقصورين فقط على تطويع سلطة الحكم لخدمة «المشروع الوطنى للنشل» وإنما تصاعد هذا الجهد واتسع النشاط الإجرامى (مع بداية تنفيذ خطة مد عمر نظام مبارك بالتوريث) ودخل طورا أسوأ وأبشع فرأينا كيف جرى العمل بطريقة مكثفة وممنهجة على تغذية وبناء دعائم «ثقافة» منحرفة وواطية شاعت رويدا رويدا وصار لها فى حياتنا تجليات مدهشة ومقرفة أبرزها أن «الفساد» لم يعد شيئا شائنا يفرض على مرتكبه أن يلوذ بالستر والتخفى بل ارتدى ثوب السلوك العادى جدا الذى قد يكون سببا للتباهى والتفاخر بدل الخزى والشعور بالعار والشنار! كما أن من تجليات تلك الثقافة المريضة احتقار كل ما يمت إلى العلم والعقلانية والكفاءة بصلة مقابل تمجيد الفهلوة وتبجيل النصب والإثراء بأى وسيلة، واعتبار خرق النظم والقوانين أو التحايل عليها (فضلا عن تفصيلها على مقاس الحرامية) نوعا من الشطارة ودليلا أكيدا على المهارة.. وقد نجم عن ذلك كله وصاحبه ركام هائل من مظاهر الجهالة والبدائية والعشوائية والجلافة والقبح والقسوة التى نرى آياتها المفزعة ووقائعها المخيفة تتلاحق وتتزاحم على سطح مجتمعنا هذه الأيام. لقد كان غرضى من السطور السابقة أن تكون مجرد مقدمة، غير أنها كما ترى طالت حتى كادت تنسينى الموضوع الأصلى والمناسبة التى دفعتنى للبدء باعتراف (يفضح اقتراب العبد لله من التخلى عن تفاؤله العبيط الدائم) وإقرار علنى بأن ثورة المصريين تواجه الآن تحديا وجوديا خطيرا يتمثل الجزء الأكبر منه فى كل هذا النفور والعداء الذى يبديه بعض أجهزة الدولة والمؤسسة الأمنية بالذات، تجاه أى شىء وأى فعل يذكرها بما حدث ابتداء من يوم 25 يناير، وهو أمر تشى به وتفضحه مئات الوقائع والحوادث التى تراكمت أمام أعيننا من يوم ذهاب المخلوع أفندى إلى شرم الشيخ حتى الساعة. فأما آخر هذه الحوادث التى اعتبرتها الأكثر قدرة على حصار أى تفاؤل (تفاؤلى أنا على الأقل) فهى ما جرى يوم الاثنين الماضى خارج وداخل قاعة محاكمة المخلوع، ولست أقصد حالة الفرجة الممتعة التى انهمكت فيها جيوش الأمن هائلة العدد (عشرات الآلاف) الموجودة فى المكان بينما عصابات الصيع والبلطجية من «أبناء مبارك» يتحضرون ثم ينفذون اعتداءات دموية بشعة على أهالى الشهداء، ولا أقصد تراخى هذه الجيوش عن واجب فرض النظام ومنع بعض هؤلاء الصيع من دخول القاعة ورفع صور «أبيهم المجرم» فى وجه المحكمة التى تحاكمه، كما أننى لا أهتم (رغم اشمئزازى العظيم) بأن فرق الشرطة والأمن عندما قررت الخروج بالسلامة من حالة الفرجة فإنها خرجت للإسهام بهمة ونشاط فى المجهود الحربى للصيع والبلطجية ضد المواطنين العزل. أما الذى أثار اهتمامى وأفزعنى حقا فهو المنظر الذى فضحته عدسات الكاميرات وهى تنقل صور عديد من الضباط وعناصر الأمن وهم يسحلون ويعجنون عظام أهالى الشهداء بينما ملامح الغيظ والغل والحقد تسرح وتمرح على صفحات وجوههم وتكاد تنطق بحجم مخزون الكراهية الذى يدخرونه فى صدورهم للمصريين وثورتهم.