الذين لم يعرفوا معنى اليأس، لم يروا عشرات المصريين الذين يهيمون على وجوههم فى الصحراء، ولا الذين يغرقون فى البحر، ليس هربًا من ضيق الحياة، ولكنه الملل من تكرار التعب لدرجة الإنهاك، من عبث المحاولة لتغيير ما لا يتغير، ضاق خلق المصريين، ليس لأن أجسادهم تعبت، فالشقاء هو قدرهم منذ آلاف السنين، والعيش على أرض ضيقة وشحيحة يستلزم دوام العمل، حيث لا حياة رخية، ولا عائد سريع، تعبت أرواحهم، أصابها القنوط من عدم القدرة على رؤية أى غدٍ قادم، غدٍ مختلف، تعبوا من كونهم أحياء، وحوّل التعب هذا الوطن إلى سجن هائل، يضم الوادى والصحراء، وقد حسبنا ذات لحظة أن أسوار هذ السجن ستنهار مع أولى صيحات الثورة، ولكننا لم نحصل إلا على جزء مبتذل من الحرية، ولم يكن هناك بد من محاولة الفرار، الاندفاع نحو الموت. ذات يوم كنت شاهدًا على موتهم، على وجعهم الكظيم، لم أكن بعيدًا عن رائحة الأجساد التى تتعفن تحت الشمس، لم تغادر الرائحة أنفى رغم مرور سنوات طوال، كنت طبيبا صغيرا أعمل فى إحدى القرى فى الصعيد، خلف القرية يربض الجبل الغربى الذى يؤدى إلى الصحراء، وكان الليل شديد الوطأة، تظل ذراته معلقة فى الهواء طوال الليل، وينفذ ضوء الفجر الواهن من خلال شبورة الصباح فتخرج جموعهم، رجال ونساء وأطفال وحيوانات، أبقار وجواميس وحمير، كلها مستسلمة لطقس الشقاء اليومى، دائما ما يثيرنى هذا المشهد الأسطورى، لأنه هو الذى صنع التاريخ المصرى وليس مواكب الملوك أو الجيوش، ولكن هناك طرْقًا حادا على باب الوحدة الصحية ينبهنى، يفاجئنى قدوم مأمور المركز فى هذا الوقت المبكر، وجوده فى حد ذاته يعنى أن هناك مصيبة قد حدثت، يقول فى إيجاز: سنخرج للصحراء، سنبحث عن «السلكاوية»، يشير إلى سيارة «البوكس» المتهالكة، يصفر وجه الحارس الليلى ويرفض الخروج معى، لم يكن أحد من الممرضين قد جاء، لا مفر من أن أحضر حقيبتى سريعا وأركب بجانبه، ينظر إلينا أهالى القرية فى توجس، يقفون على حافة الطرقات والحقول وأيديهم ملوثة بالطين، ليسوا مندهشين ولكنهم خائفون، يحتفظون بسرهم الخاص ويتحملون عاقبته، حتى الغجر، رغم عدم حبهم لسيارات الشرطة، يخرجون من خيامهم على أطراف القرية ويتابعون سيرنا، يعلو الطريق وينخفض فى حدة، أخشى السير سريعا بجانب المصارف المليئة بالأوساخ، سيكون موتًا بائسًا، يردد المأمور حانقا: أغبياء.. أغبياء لا يستفيدون، لم يكن يحدثنى، كان فقط ينفث عن غضبه، وكان يجب أن نقطع بحر يوسف من مكانٍ ما، نهر سريع الموج، شارك نبى الله يوسف فى حفره بيديه، خط فاصل بين النضارة والجفاف، نترك خلفنا كل ما هو لامع وأخضر، وتبدو الصحراء فى انتظارنا كالقدر، حيث لا فِكاك، ينهض رجل نحيف كان رابضا فى نهاية «البوكس»، يتدلى برقبته حتى يصبح وجهه بجانب السائق ويأخذ فى توجيهه، كان واحدا من البدو الذين يملكون سر الصحراء، وحده يرى «مدق الرمل» الذى تسعى فوقه كل القبائل، فلم يكن ظاهرا منه أى شىء أمامنا، تدور السيارة حول صخور مكورة، شظفتها الريح وجعلتها ملساء مثل بيض الرخ العملاق فى قصص السندباد، تأملتها منبهرًا ولكن المأمور صرخ فى: راقب الغربان، تطلعت للأعلى فوجدت السماء خالية، ولم أر سببًا لفزعه، حتى إنه عاد للسباب من جديد، وبدأ الرمل يضرب مقدمة السيارة بعنف كأنه يريد أن يمنعنا من التقدم، اختنقت وأحسست بالجفاف، وأصبحت العربة ساخنة بحيث لا يمكن التشبث بأى شىء، وتمتم أحد العساكر متبرما، ما فائدة الإسراع تحت شرد الظهيرة، سنصل متأخرين فى كل الأحوال. رمقه المأمور بنظرة قاسية أسكتته، وظل الرمل يهمى علينا من كل جانب، وظهرت الغربان أخيرا فى السماء، وصاح المأمور وهو يهتز فى غضب: انظر كم هى ضخمة، السبب فى ذلك هى جثثهم، كرهت الغربان، وكان نعيقها يجعل جسدى يقشعر، ربما لم يكن علىّ أن أشارك فى رحلة العذاب هذه، ولكن الغربان تكاثرت فى السماء، سدت عين الشمس كما يقولون، تلاطمت أجنحتها وتحول نعيقها إلى عويل خالص، وقال البدوى: إنهم فى مكانٍ ما حولنا، من هنا يبدأ المدق الذى يصل إلى حدود ليبيا، كنا نقف فى بداية طريق الموت، وبدأت رائحة الهواء فى التغير، أصبحت ثقيلة، مليئة بأنفاس الاحتضار، وهمس المأمور: سيظهرون الآن، البدو يخدعونهم دائما فى المكان نفسه، توقف سائق السيارة فجأة، على بعد أمتار من الطريق ظهرت الجثة الأولى، جسد يرتدى ملابس سوداء مسجى على الرمل الأبيض، أولى علامات القسوة، اهتززت وأوشكت أن أصرخ متفجعا، ولكن المأمور حذرنى.. لا تشفق عليهم، دائما ما تتم خديعتهم بنفس الطريقة ولا أحد منهم يتعلم، كان يبدو صلدًا صلادة من تعود على هذا الشىء، انتظر السائق أن يأمره أحد بمواصلة السير، وعندما لم يحدث هذا بدأ فى التقدم من تلقاء نفسه، توقف فى موازاة الجثة وأدار وجهه للناحية الأخرى، طلب منى المأمور أن أنزل، ونزل وهو يعدل حُلته، وأخذ يصيح فى صخب دون داع، ربما ليدارى فزعه، الفزع الذى نحسه جميعا، الجثة لفلاح فى منتصف العمر، هكذا بدت ملامحه المفزوعة المغطاة بالرمال، فمه مفتوح، وذراعاه المتيبستان ممدودتان لأعلى، تستنجدان دون جدوى، ولم تكن له عينان، ربما كانت الغربان هى السبب، وصاح المأمور.. هذا هو الحال دائما، يوهمهم البدو أنهم سيعبرون بهم السلك الفاصل للحدود، ثم يسلبونهم كل ما معهم ويتركونهم وسط الصحراء، لا أحد يستفيد من تجربة الذين سبقوه، أجل.. الموتى يحفظون الأسرار، تبدأ الجثث فى التناثر من حولنا، أفواه فاغرة، بلا عيون، وأحيانا بلا أصابع ولا أطراف، الضباع أيضا شاركت فى الوليمة. عشرون جثة وآلاف من أسراب الذباب الطنان، أبحث عن منديل أضعه على أنفى، ولكنى أغطى به عيونى، أبكى من شدة الحرقة بداخلى، أبكى لأحلامهم الضائعة ولقسوة الغدر والخيانة التى تعرضوا لها وللأهل الذين يجلسون فى انتظارهم وللأمل فى لقمة عيش منتظمة وللوادى الشحيح الذى لا يعطى إلا إذا زهقت أرواحنا، يجلس المأمور على الأرض ويخلع غطاء رأسه، ينظر إلى وأنا عاجز عن التوقف عن البكاء، لا يسخر منى، ويهتف فى رجاله، احملوهم إلى «البوكس»، اقرؤوا الفاتحة أولا، نقرأ جميعا الفاتحة من أجل هذه الأرواح الرخيصة، يخيل إلىّ أننى أعرف بعضا من وجوههم، جاؤوا إلىّ فى العيادة الصباحية، يطلبون مزيج «الراوند» وبعض أقراص الفيتامين، ظنًّا منهم أنه سوف يغنيهم عن تناول الطعام، أنهم صامتون الآن، لا طلبات لهم، توشك أعضاؤهم على التفكك من بعضها البعض، يأمرهم المأمور: احملوهم برفق، يكفى ما عانوه، ويدارى وجهه منى، كان الأمر فوق احتمالنا جميعا، وغابت الشمس فجأة، فبدا الرمل رماديا وحزينا، لو بحثنا أكثر لوجدنا المزيد من الجثث، ولكن كان لا بد من العودة، تصاحبنا رائحة العفونة، وسوف تبقى فى أنوفنا جميعا لنهاية العمر.