الليل يحل فتبدأ المذبحة الليلية.. العصافير والفئران والديدان وبنات آوى وكل الأشياء الحية تقفز بعضها على البعض الآخر.. إما لتقتله أو لتزاوجه.. يا إلهى.. كم هو غريب ذلك العالم الذى خلقته.. أنا لا أفهم!» كان عقل الأب ياناروس «بطل رواية الإخوة الأعداء لكازانتزاكس» لا يزال يحاول فهم ما يحدث على الكوكب بصفة عامة وعلى أرض اليونان بصفة خاصة.. وبعد طول تفكير وبعد الكثير والكثير من الجثث من كلا الجانبين كان قد استقر على ما سوف يفعله لإنهاء تلك المأساة الإنسانية.. قرر الصعود إلى الجبل والإتفاق مع المتمردين على مساعدتهم فى دخول البلدة بسلام.. شريطة ألا يُراق دم.. أى دم.. وعلى الجبل قابل المتمردين وقائدهم كابتن دراكوس.. إبنه! جلس الأب ياناروس يتحدث مع إبنه وهو يطيل النظر إلى ملامحه المتوحشة ونظراته الشرسة.. «يا إبنى.. أنا الأب ياناروس الذى لم يقبل قط أن ينحنى لأحد إلا الله.. أركع أمامك لأتوسل إليك.. إنزل القرية غدا مساء ليلة سبت النور.. سأسلم لك مفاتيحها.. وسنحتفل معاً بالقيامة وسنتبادل قبلات السلام.. لكن لا تقتل أحداً؟!.. هل سمعت؟!.. أعتق القرية.. إحترم حياة سكانها وشرفهم وممتلكاتهم».. و فى اليوم الموعود تجمع سكان القرية أمام عتبة الكنيسة بعد أن أخبرهم الأب ياناروس بما اتفق عليه مع المتمردين.. « وأثار هذا التجمع الجديد إنتباه الغربان.. فحطت على الصخور تشحذ مناقيرها.. كانت تتخيل فى رؤوسها الصغيرة الخبيثة أن هذا الجمع سيتمخض عن عدد من الجيف.. ذلك أن ما يسميه الناس كفاحاً مقدساً.. تسميه الغربان وليمة مقدسة.. وما نسميه نحن بطلاً.. تسميه الغربان قطعة ممزقة من اللحم»! هبط المتمردون من الجبال إلى القرية.. إستقبلهم الأب ياناروس وأهل القرية.. إلا أن الأمور للأسف لم تسر كما خطط لها.. فبعد أن طلب من الكابتن دراكوس إبنه وقائد المتمردين أن يلقى كلمة سلام للجموع فى هذه الساعه الرهيبة.. رفع الكابتن يده قائلاً: عودوا إلى منازلكم.. إجروا! زمجر الأب ياناروس: هل هذه هى كلمة السلام التى تقولها يا كابتن؟ هل هذا هو الصلح الذى وعدتنى به؟! ما لم يكن يعلمه الأب ياناروس أن الحرب تحول البشر إلى وحوش.. أو كما يقول «ليونيداس» أحد الجنود فى الجيش الوطنى فى مذكراته التى وجدوها مطمورة بدمائه بعد قتله فى إحدى المعارك.. «فى أول الأمر حاولت رغم أنفى أن اسلك كما لو كنت متوحشاً.. فكانت النتيجة أن أصبحت متوحشاً بالفعل.. وبدأت أقتحم الأبواب وأجذب النسوة من شعورهن وأدوس على الأطفال الصغار»! لم يكن الأب ياناروس يصدق نفسه.. هل تلك هى الحرية والعدالة التى يتشدق بها هؤلاء الشيوعيون المتمردون؟!.. هل تلك هى كلمة الشرف فى عرفهم؟! خاطبه الكابتن: إسمع يا أبانا.. لو تركنا كل الناس أحراراً فسوف نضيع.. سيختفى الشعب.. وتظهر الحثالة.. لا تتعجل الأمور إذن.. الحرية ستأتى فى وقتها.. وهى تأتى دائماً فى النهاية.. وليس الآن.. زمجرت البنادق.. وسقطت الجثث على بلاط الكنيسة.. وجر الأب ياناروس نفسه فى هدوء وسط الجثث.. تناول عصاه وخرج من الكنيسة ووقف وسط الفناء.. وصاح: «يا إخوتى.. لا تصدقوا الحمر ولا تصدقوا السود.. ولكن تصالحوا أنتم.. وإن كان لابد لكل قرية من مجنون.. ساصبح أنا هذا المجنون.. مجنون اليونان الذى يسير ليحذر الناس من تصديق الوحوش».. ورفع الأب ياناروس يده مودعاً إبنه: «إلى اللقاء ايها السفاح»! تابعه الجنود بقيادة إبنه وهو يبتعد بين الصخور متدحرجاً نحو السهل متوهجاً كأنه عملاق عجوز.. تدخل أحد الضباط: «كابتن.. هل لأنه ابوك لن نقتله؟!.. ألم تسمعه؟.. إنه يريد أن يكون حراً«!.. فرفع الكابتن يده قائلاً بصوت مخنوق.. «أقتلوه»! صاح أحد الضباط: يا أب ياناروس.. إنتظر.. إستدار العجوز.. وتوهجت الشمس فى وجهه.. وركز الضابط البندقية على كتفه.. واصابت الرصاصة الأب ياناروس فى جبهته بالضبط.. ففتح ذراعيه دون أن يطلق صيحة.. وسقط على ظهره فوق قطع الحجارة!