[email protected] في الليالي المقمرة كانت تخرج من منزلها قابضة بيمناها على عصا تتوكأ عليها ، ممسكة براديو ترانزيستور و كيس من الدمور في يدها الأخرى ، كانت تتجه إلى الجبانة ناحية غرب البلد ، تلك الجبانة التي كانت ترقد في بطن الجبل ، كان عليها أن تصعد إليها متخذة طريقا من الدرج الطيني الملتوي الذي ينيره ضوء القمر ، مستأنسة بعالمها الذاتي الذي يثير الحزن و يفتقر إلى الرغبة ، كان الطريق يمتد أمامها إلى ما لا نهاية ، تكثر فيه الزوايا التي تحتوى على بقايا أشياء تعطى شعورا بوجود احد ما قد غادرها للتو ، كانت تثير بأقدامها الغبار الذي يتراكم على جانبي الدرج فيعفر وجهها و ثوبها الأسود الكالح الذي لم تبدله من عشرين سنة ، كان يسكن الزمن جسدها الهرم و يغيب في عزلتها الداخلية . عندما كادت أن تنتهي من صعود الدرج كانت ترفع رأسها إلى أعلى تنظر إلى ما وراء المقابر بعينين دامعتين و جسد مرتعش بالحزن ، حيث تنتصب طاحونة الهواء . كانت تبدو أنها تتذكر شيئا ما عن ماضيها الذي يمر أمام عينيها مثل شريط سينمائي يعرض على صفحة السماء ، أصبح وجهها مثل شاشة فضية بعد أن انعكس عليه ضى القمر . كانت تنظر بحذر كأنها تخشى شيئا ما ، ربما دخيلا من مادة الذاكرة أو من الحاضر الذي تبغضه ، هل هو الحنين ، الشوق ، الندم ؟ ، كان المكان لا يأوي إلا الموتى و الكلاب ، يحيطه و يتخلله طوفان من أوراق الشجر الميتة ، و من بين شواهد القبور يتصاعد دخان ازرق مشرب بالحمرة كأن هناك سحرة يمارسون طقوس الموت ، كان المكان مظلما ، ثقيلا ، شديد الوطأة . توجهت إلى إحدى الجبانات ، مسدت يديها عليها كأنها تزيل الغبار من فوقها ، أزاحت أوراق الشجر من الأرضية بكعب يديها ، أسندت العكاز على الحافة ، أخرجت من كيسها القماش لمبة جاز و أشعلتها و وضعتها على شاهد الجبانة و وضعت الراديو بجانب اللمبة وأدارته على إذاعة الأغاني . شردت بخيالها و استرجعت سنين مضت. بدت النجوم باردة وهشة ، كان المطر يهطل بشدة و يتساقط بسرعة خلال السقف المعرش ، كانت أبنتها راقدة على سريرها ، و في وقت متأخر من تلك الليلة سمعت صوت خطواته قادم من الخارج ، انتابها شعور بالقلق و الخوف و استعادت أمام عينيها ، الطريقة التي كان يطوق بها جسمها و أحيانا يتحسس نهديها و عندما كانت تضع يديها خجلا عليهما كان يرمقها بنظرة شهوانية و يبتعد عنها و هو يزمجر ، يرغى و يزبد ، لم تجرؤ أن تخبر أمها ، فكيف عساها أن تفعل ذلك ، هل ستصدقها ، فهو أبوها و هي لحمه و دمه ، كانت تستغفر ربها في سرها مرات و مرات ، اقتحم عليها السرير ، حاولت الصراخ لكنه كتم أنفاسها ، و لم يتركها إلا بعد أن أتم فعلته ، تركها عارية غارقة في دمها ، أظافره محفورة في جسدها ، شعرت بان جسدها تدنس و أنها تريد أن تقتل نفسها . مرت الأيام و هي تنزوى و تذبل ، أسود وجهها ، انتفخت بطنها و ظهر سرها المخبوء ، عرفت أمها ، حبسوها في غرفة الغلال ، منعوا عنها الطعام و الشراب ، بعد ثلاثة أيام تمكنت أمها من الوصول أليها ، وجدتها محمومة و وجهها تغطيه البثور و البقع الحمراء . قالت لها : من هو ؟ نظرت الابنة إليها باستعطاف و قالت : أبى . استبد بها الغضب و ثورة مشربة بحيرة و امتعاض لابراء منه ، خارت ساقاها من تحتها و أخذت تنتحب دون توقف خرجت من عندها متوجهة إليه ، كان يجلس مع أبنائه الذكور ، واجهته بالحقيقة ، أنكر و لطمها حتى أدمى فاها ، كانت أشبه بدفة المركب المحطمة ، حبسوها هي الأخرى و عزلوها عنها ، كانت صرخاتها الحادة تسمع من كل الجهات عويلها الصاخب يمزق الأفاق ، عندما غربت الشمس و توارت خلف الجبل ، و ظهر الغسق معلنا ظلامه الذي كان ثقيلا و باردا . حلقوا رأسها و جروها إلى الخارج ، ذبحها أحد إخوتها كما تذبح الذبيحة و وقف على جسدها و اخذ يصرخ و يهذى كالمجنون ، لقد انتقمت لشرفي .... انتقمت لشرفي ، جاء الناس من كل صوب و حدب ، هالهم ما حدث لكن لم يجرؤ أحد على إدانته و لكنهم امسكوا به . كان أديم الأرض يمتد تحتهم مثل كابوس مخيف ، تبعثر فيه جسد الذبيحة التي ترقد عاجزة عن الدفاع عن نفسها . جاءت بشعرها المهوش و عيونها الفزعة ، فتحت فمها كما لو كانت ستصرخ ، ارتمت على ابنتها ، تخضبت يداها و ملابسها بدمها ، حملتها بين ذراعيها ، استقر رأسها الأسود المذبوح العنق على كتفها و انساب شعرها البني على ذراعيها ، حملتها و أنزلتها في صحن الدار ، أخذت تستعيد صوتها و وتولول بحشرجة مكتومة ، كانت مثل حيوان برى يدور و يدور حول شريك روحه الذي اصطاده رمح الصياد . امتنعت عن الطعام و الشراب ، كانت تخرج كالمجنونة في الليل تذهب إليها تمسك بحافة القبر و يعلو صوت نشيجها تنخرط في بكاء قاس منتحب ، كانت ظلمة الموت تعتصرها و تحرق قلبها ، كانت تردد بعضا من كلمات و تضرب صدرها بيدها و تتمايل في إيقاع منتظم: حريرهن لبسوه و أنتي حريرك في التراب حطوه حريرهن زاهي و أنتي حريرك غبره السافي و ألف لك شعرك و أرخى الضفيرة وراه ضهرك عيني تقول يا بخت من نضرك و العين بكاية على عدمك و ألف لك راسك و أرخى الضفيرة وراه أكتافك عيني تقول يا بخت من شافك و العين بكاية على غيابك خدوها الرجال و أنا وراها أجرى قالت عاودي ما تتعبي إلا أنتى خدوها الرجال و أنا وراها أطير قالت عاودي دا الغياب طويل كان الندم يعبر قلبها و يمر على القبر فيستنزف دموعها ، و في احد الأيام شعرت بوجود شيء ما خلفها ، شيء كالطيف يحدثها و يستحثها ، كان الضباب يغمر المكان و يتصاعد دخانه ، كان يحاصرها بنظراته المستريبة ، ” يجب أن تصفى الحساب ” ، ظل هذا الطيف الخفي يلاحقها و يطاردها في كل مكان ، يتخذ أشكالا مختلفة ، كان يملأ كل حيز من الفراغ الذي أمامها و خلفها ، و لم يكن هناك مفر من التراجع أمامه ، تشربت مرارة الليل ، هضمت شراسة الهجوم العنيف ، و تعاركت مع الخوف الكامن حولها في الليل ، و في وضح النهار و في ليلة باردة موحشة جمعت ملء ذراعيها أغصانا جافة وضعتها على الأرض أمام باب الدار ، أشعلت فيها النار ، أرسلت النار خيوطا من الضوء و الظل على الجدران و السقف المعرش بسعف النخيل ، تجمعت الغنمات من البيوت المجاورة لتستدفئ حول النار ، رقدت على الأرض و راحت تراقب ظلال النار ، نامت و حين استيقظت على ضوء الفجر و صياح الديك و نباح الكلاب ، كانت قد عقدت عزمها و ا ستقر رأيها على أن تنفذ ما خططت له ، قامت و هزت رأسها و تطلعت فيما حولها ، كانت الأرض رمادية عارية و جافة ، وضعت شالا حول كتفيها ولفت رأسها بالطرحة السوداء و خرجت للطريق ، كان الضباب كثيفا و الريح تصفر و أصوات نعيب الغربان تنشر الشؤم في الخلاء ، عبرت مستنقعا و وصلت إلى أجمات شجر التوت التي كانت تطوقها حزم العشب الرمادية القديمة الميتة ، جزت العشب و وضعته في منديل من القماش ، عادت أدراجها إلى بيتها بعد انقضاء ساعة زمن و شرعت في طهو الطعام و جلست القرفصاء أمام الطبلية التي وضعت عليها طعام الغذاء . عندما رفع زوجها أول قطعة من غموس اللحم الدسم إلى فمه شحب وجهه و كساه اللون الأصفر ، حاولت التماسك ، كانت حواسها لا تعمل على الوجه الصحيح ، لكنها الآن تمتلك حواسها و توجهها كما تريد ، خيل لها انه حاول أن يتكلم معها تحاشيت النظر في عينيه ، كان الألم الذي يعتمل في قلبها لا يقدر على احتماله احد ، عندما أنتهى من الطعام ، هبت من جلستها ، وقفت وراءه و هو يفرك يديه بالصابون و يغسلها من مياه الصنبور المتدفق ، عندما فرغ من الاغتسال تمدد على الحصيرة النظيفة المفروشة في قاعة الجلوس ، أخذت تراقبه ، خرجت و دارت حول البيت من الأمام و من الخلف ، توجهت لعشة الدجاج و أخرجت دجاجة ، نتفت ريشها و دخلت بها إلى المطبخ ، أحضرت سكينة ، ذبحتها و ألقتها على الأرضية ، ألقت نظرة على الجسد المسجى على الأرض ، كان ما زال يتنفس ، أحست بمرارة في حلقها و انتابها الغضب ، جهزت بخورا و اجتمرت بالمجمرة التي تأججت نارها لهبا و أرسلت ما يكفى من الحرارة في جسمها إلى حد أن نزعت ثوبها الخارجي و أبرزت مساحة واسعة من صدرها الملتهب للنار ، سمعت صوته واهنا ضعيفا ، ينادى عليها ، كانت عيناه مشوشتين ، حاول أن يستند إلى الجدار لكنه تهاوى ، غارت عيناه و ظهر بياضها و سقطت رأسه على صدره ، وقفت أمامه و ابتسامه صافية تملا وجهها ، أسبلت عينيه ، أرقدته على الأرض و غطته بملاءة ، بحثت عن بقايا القارورة التي بها العشب السام ، طوحت بها في الخلاء الذي أمام البيت و انطلقت في صراخ . لم يشك فيها أحد ، و تمت مراسم الدفن ، بعد أن تأكدت من حقيقة موته و ذهابه إلى العدم ، توجهت إلى قبر إبنتها الذي أصر أخوتها على دفنها فيه و هو قبر من قبور الصدقة للذين ليسوا لهم أهل ، زفت لها الخبر و قالت : تستطيعين الآن أن ترقدي في سلام ، لقد انفرجت لك أبواب السماء ، ادخليها مطهرة فقد أقيم الآن العدل و هبطت السكينة بأجنحتها على روحك . خلا عليها البيت ، رحلت الابنة ، سجن أولادها الذكور و دفن الأب دون أن يترحم عليه أحد ، بعد عنها الناس وصموا بيتها بالبيت الذي تحوم حوله الأرواح الشريرة ، و كان كثيرا ما يقذف الأولاد الصغار باب دارها بالطوب و بالقاذورات و عندما تفتح الباب و تطل برأسها كانوا يهرولون مبتعدين ، عاشت حياة زاهدة لا زاد و لا مال ، كانت تكتفي بالخبز و الفطائر التي يوزعها أقارب الموتى في المقابر كرحمة على أرواح موتاهم ، و كان غفير المقابر من حين لأخر يدخر لها بعض التمر الذي يجود به عليه أقارب الموتى ، و ها هي الآن تستمع للاغاني التي كانت تطرب لها ابنتها و تتراقص عليها ، كم تفتقدها ، أنتبهت من شرودها على صوت الغفير يقول لها بشفقة : الفجر شقشق ، ألم يحن الوقت كي تذهبي لتنامي و تستريحي . قالت له : راحتي في جلوسي هنا حيث ترقد حشا قلبي و نور عيني الذي ذهب برحيلها . أقشعر الرجل من كلامها و أحس بوجع يوخز كتفيه و قال لها : إطلبى لها الرحمة و المغفرة ، أستغفري الله ضعي نفسك بين يديه فسبحان ذي العزة و الجبروت ، سبحان الحي الذي يموت ، تنهد و زفر نفسا طويلا متعبا ، و من بعيد تناهى إلى أذانهما صوت أذان الفجر ، سددت إليه نظراتها فلمع بريقا يتراقص في عينيها ، بسطت كفيها و رفعتهما إلى السماء و بصوت متهدج : استغيث بك في كربتي ، أكشف نفسي أمامك من كل ستر أو حجاب ، أسألك العدل يا أعدل العادلين ، فأصغى إلى .... إلى من تقف وحيدة فقيرة بين يديك ، استعطفك و أناشدك أن تجعل النار مأوى لمن ارتكب الخطيئة في حق ابنتي ... أجعل الخوف في جوفه ... تمتمت : الملك لك يا صاحب الملك ، اغمرنا برحمتك . لملمت أشياءها ، مشيت متوكئة على عصاها ، كانت رائحة التراب ما زالت عالقة في خياشيمها شقت طريقها بصعوبة ، كانت أثار ضئيلة من الفجر الذي بدأ يودع خيوطه تنتشر في المكان ، أخذت تقلب أفكارها في مثل هذا الفراغ الرمادي الدامس ، كانت بيوت القرية تتلاشى في الأفق الجنوبي و قد غمرها سديم دخاني خافت لا يقطعه إلا أضواء مصابيح البيوت الشاحبة ، كان الهواء باردا و قد حط الندى على أوراق الأشجار المتناثرة على طول الطريق ، أستنشقت الهواء ببطء و سمحت لابتسامة خجولة بأن تعلو شفتيها ، تابعت سيرها ، أختفت في حبائل الضباب الجارف و ذاب و قع خطوها في الهواء .