1 هل كان نعيق الغراب هو البداية لكل ما حدث ؟ وقع أقدامنا يعلو في الشوارع الخالية ، النوافذ والأبواب علي الجانبين مفتوحة علي الصمت ، والأصوات غائبة ، عدا نعيق غراب يترامي من موضع قريب . تخلف عن سربه ، أو جاء بتدبير ؟ لم يلق النعيق استجابة ، ولا التفت إليه الناس القليلون ، وإن عمق الصمت السادر في المكان . هل كان ذلك النعيق ، في تلك اللحظة في أكتوبر ، بداية قدوم الغربان إلي السويس ، أسراب متوالية ، قدمت من الشرق ، تقافزت فوق المآذن وأسلاك الكهرباء والتليفون وفوق الأسطح وأفاريز البلكونات ؟ كنت أعرف نعيق الغربان ، أعرف وقعه في أذني ، يختلف عن هديل الحمام ، وصياح الديكة ، ومواء القطط ، ونباح الكلاب ، أميز بين اختلاف الأصوات . الغراب وحده أميزه من صوته . لاحظت نظرتي المتلفتة . أشرت إلي الطائر ، فوق الشجرة المقابلة ، منقاره مدبب ، طويل بما يختلف عن مناقير الطيور الأخري ، ريشه يضوي بلمعة سوداء . هو غراب ينعق ! اعتدت رؤيته فيما بعد فوق أغصان الشجر ، وقطع الأحجار، يتقافز علي الرمال والأرض الصخرية . أتمثله بترامي صوته ، الجسم الأسود ، الريش المتداخل السواد والزرقة ، الألق الذي تضويه أشعة الشمس . تقول : خير . لماذا هو رمز الشؤم ؟ حين قدمنا أول نزولنا السويس لمتابعة اشتعال الحرائق في الزيتية ، طالعتنا النيران والسحب السوداء من بعد ، والسيارة تمضي في اتجاه المدينة التي لم أكن رأيتها من قبل ، قصف المدافع يترامي من الضفة المقابلة، والسحب الهائلة ، شكلت أفقاً يغيب ما وراؤه من مدن وقري وبنايات ، لا شيء إلا السواد المتكاثف يغطي السماء ، يفصل بين ما نراه ، وما يغيبه الأفق. شكاير الرمال علي جانبي الخلاء المترامي وعربات الزيل الناقلة للجنود، الجنود يحملون الآر بي جي والمدافع الرشاشة والبنادق، والحفر في الأرض صنعتها الدانات. اخترقنا الشوارع الخالية داخل المدينة، البيوت الغارقة في الدمار ، تأثير الانفجارات والقصف، القذائف والشظايا المتطايرة ورخات الرصاص تركت تأثيراتها علي جدران البيوت والأسوار التي تخفي ما وراءها، الدانات طيرت واجهات المباني، أو هدمتها، هجرها أصحابها ، فروا من المدينة دون أن يسعفهم الوقت لحمل أي شيء. الرغبة في الفرار من الخطر سبقت الخوف علي ما تحويه البيوت. تخيلت صورة الحياة في المدينة قبل أن تخلو من الناس. ما رأيته كأنه ديكور فيلم سينمائي غاب العاملون فيه . أدركت أن كل شيء علي حاله منذ رحل الناس عن المدينة : فوارغ طلقات ، زجاجات فارغة ، نظارة داستها الأقدام ، أسلاك شائكة مهملة إلي جانب الطريق ، فتحات ملاجئ تعلو الأرض ، عربات محترقة ، جراكن مثقوبة ، أوراق شجر متساقطة ، كراسات تهرأت في أشعة الشمس ، بقايا أشجار متفحمة ، حفر صنعتها القذائف ، خوذ متناثرة ، قطع شظايا سوداء ، صناديق خشبية خالية، ميكروفونات محطمة، أسراب ذباب علي بقايا طعام ، كلبان يتقوسان لمعركة غابت بواعثها . الفرار من المدينة فرضته لحظة مفاجئة، أثاث البيوت في مواضعه، لم يتمكن الناس من أن يحملوا حتي أشياءهم الثمينة ، أو أمتعتهم الشخصية . فروا بأجسادهم بعيداً عن القصف . الصمت سادر إلا من أصوات ميّزتها بأنها لغربان . الشوارع خالية من كل ما يشي بالحياة : الدكاكين مغلقة ، عدا فرن وارب بابه ، وقف أمامه مدنيون وعسكريون ، بأيديهم سلال ، أو أكياس مطوية . النوافذ والشرفات مفتوحة علي الخواء ، اختفي الناس إلا من دوريات جنود ، ثلاثة أو أربعة ، يقفون علي النواصي ، أو يستترون بالجدران ومداخل البيوت ، وثمة الخيام والدشم والملاجئ والسواتر الترابية . تأثيرات معركة الأربعين هي الكلمات العبرية علي جدران البنايات ، أو الكلمات العربية الركيكة ، تعلن انتصار اليهود . عرفنا أن المقاومة ردت قوات اليهود ، أخفقت في دخول السويس . أمضينا الليلة في فندق بلير ، رائحة القدم تفوح من الواجهة ، والنوافذ العالية ، والأبواب الزجاجية في إطارات الخشب . السلمات القليلة تفضي إلي قاعة سفلية ، تفضي عبر الدرج ذي الدرابزين الخشبي إلي الحجرات الواسعة في أعلي . صحوت علي صوت انفجار قريب . قلت لنظرتي التي أثق أنها امتلأت بالخوف : أظن أنها قنبلة لم تكن انفجرت ! ثلاثة جنود يقفون علي مفترق الطريق ، دعونا إلي شرب الشاي ، يعدونه في كوز صفيح علي نار بين قالبي حجر ، كل ما حولنا يلغي التصور بوجود مقهي . روي لنا الجندي عن تبادل القصف المدفعي بين ضفتي القناة ، الاشتباكات الليلية ، طلعات الطيران من الضفة الشرقية ، تقابلها المدفعية المضادة للطائرات . 2 زال الحصار . عدت إلي السويس ، اقتصر نزولي علي مرات متباعدة . أعود بالحنين إلي الوقفة تحت الشجرة في نهاية الساحة الواسعة . سيارة بيضاء للأمم المتحدة ، بداخلها ثلاثة مدنيون ، كانت أول رؤيتي لسيارات قوات الطوارئ ، بعد أن صارت جزءاً من مألوف الحياة في سيناء والقناة ، وعربات قطار يتعالي صريرها وهي تسير متباطئة علي القضبان . أخترق الشوارع ، علي جانبيها الشرفات والنوافذ يشي داخلها بالحياة ، وتشغي البنايات بالدكاكين والقهاوي ، ويزدحم أمامها الباعة والقعود والمارة . الرائحة المميزة في أنفي ، ملمس أوراق الشجر المتدلية ، تطالعني الأشجار في الساحة المطلة علي البحر . أشجار السنط والكافور والصفصاف والجازورينا. يتزايد فوقها تناثر الغربان ، يضوي ريشها في ألق الشمس . ثمة غربان تحوم بلا صوت فوقنا ، تعلو في تحليقها ، وهي تنعق ، تشحب أصواتها في الأفق ، تتلاشي تماماً. 3 ألفت العودة إلي السويس علي فترات متباعدة اخترق الشوارع إلي الخلاء المطل علي الخليج . الأشجار في اقترابها وتباعدها تخفي البحر ، وإن ترامي هدير أمواجه . أقف أمام الكشك الخشبي ، المطل علي البحر . غاب إحساسي بالغربة في تعدد زياراتي إلي السويس . الطريق في حي السويس المفضي إلي الخلاء ، يتقاطع مع شوارع رئيسة وجانبية ، وبنايات علي واجهاتها لافتات ، وحدائق وميادين ، زحام الأربعين ، والهدوء النسبي في عتاقة وفيصل ، وريفية الجناين والقري غرب القناة. في الأفق نفق الشهيد أحمد حمدي ، أتلفت حولي وأنا أتجه ناحية الخلاء ، أحاذر كي لا أتوه ، لم يعد الطريق كما ألفته . زاد الزحام والبيوت والأسواق ، تبينت عجزي عن اختراق قلب المدينة إلي الساحل ، الخلاء المطل علي البحر . أغمض العينين ، أحاول استعادة ما بقي في الذاكرة من الملامح القديمة . في داخلي الكثير من الأسئلة ، وإن لم أصادف من أتجه إليه بها . أعرف أني سألتقيك في الكشك الخشبي الصغير ، أو أن يكون قد حل بدلاً من الكشك ما تقيم فيه ، وإن لم أتصور غيابك عن الخلاء ، هو الموضع الذي ظللت فيه أيام المعارك ، ويعدها ، لا تتركه إلا إلي مشاوير سريعة داخل المدينة ، سرت فيها إلي جوارك ، ولوحت بيدي وأنا أتجه إلي طريق القاهرة . رافقتك إلي سوق الأربعين ، صلينا الجمعة في جامع الغريب ، تناولنا الغداء في مطعم بالميرا ، أمضينا فترة بعد الظهر في الكازينو المطل علي خليج السويس . تعددت جولاتنا ، تنتهي إلي الخلاء الموصل بين المدينة والبحر ، ما بين السويس وعتاقة . لم تعد صورته إلي ما كانت عليه ، تزايدت البنايات السكنية وزحام السيارات ، لكن الأشجار التي تميزه ظلت في مواضعها ، حتي الشجرة التي رمقنا أعلي أغصانها أول صوت لغراب ، علي حالها ، وإن اكتست أغصانها بالخضرة . لاحظت في زياراتي المتقاربة أن الغربان تتزايد . كنت أستطيع عدّها ، لكنها تكاثرت بما يصعب حصره . تحوم في الفضاء ، ثم تحط علي الأشجار وأفاريز الشرفات والأسطح وأعلي الأسوار . تغطت الأشجار والجدران وأفاريز الأسطح والأسوار والشرفات والأسلاك ، بالآلاف من الغربان ، تقف ، وتتقافز في مواضعها . عدا الغربان التي تناثرت في كل مكان ، ثمة غربان كثيرة ، مئات ، وربما آلاف الغربان ، تحلق في سماء المدينة ، تصنع ما يشبه السحب الصغيرة . 4 لم تعد الغربان علي حالها ، تتناثر في وقفاتها فوق أغصان الشجر ، أو تحوم في السماء . علا نعيقها في صخب متشابك ، مالت بمناقيرها تنقر ، وتمزق ، وتخمش الوجوه ، وتقتلع الأعين ، وتختطف . دخلت من النوافذ المفتوحة إلي داخل البيوت، اختبأت في ثقوب الجدران، طارت بما حدّست أنه يصلح للالتهام من واجهات الدكاكين. تعددت الحكايات عن أفعال الغربان ، خطفت طفلاً من حجر أمه المتربعة فوق السطح ، طارت به في الأفق يلاحقها الصراخ. 5 كنت أتنقل بخطوات بطيئة داخل الحجرة المطلة علي أفق البحر ، في يدي زجاجة ماء ، ألجأ إليها كلما أحسست بالعطش . استقر الطائر علي حافة النافذة ، راح ينقر الإفريز الخشبي ، ويحك جناحيه الملتمعين . تلفت ناحية الصوت وراءنا . كان الطائر يحلق أعلي الحجرة . لم يكن قد دخلها من فوقنا ، عرفنا أنه اقتحم المكان من نافذة خلفية . لم ألحظ كيف تسللت الغربان إلي داخل البيت ، الظلال المتماوجة تبين في الطرقة والزوايا الرمادية . 6 انتفضت في الخلاء بلتقائية لهبوط غراب فوق كتفي . عاود الغراب طيرانه ، يسبقه الصوت الذي اعتدت سماعه في زياراتي إلي المدينة . لم نجد مكاناً نحتمي به من الطيور المحلقة ، تهبط فتلامس الرءوس والأجساد ، يداخلنا نعيقها بالخوف . حومت في السماء، دارت دورات واسعة، تراصت صفوفاً فوق الأسطح، وفروع الأشجار ، وعلي الأسوار وأفاريز النوافذ والشرفات . أحدث اصطدام مناقيرها لكثرتها بالحوائط والنوافذ ما يشبه الصرير الذي لا ينتهي ، حطمت بمناقيرها أسلاك النور والاتصالات . انحنيت علي الأرض ، أمسكت بقطعة حجر ، صوبتها نحو طائر فوق شجرة ، طار إلي حيث استقر علي سلك بين عمودين . قلت لنظرتك الخائفة: اطردها ! هو واحد من آلاف الغربان .. أبعدته لكنه ظل في الخلاء ! علت الغربان ، حلقت في أنصاف دوائر ، ثم عادت ، هبطت فوقنا ، تنقر ما تصل إليه من جسدينا ، الرأس والجبهة والرقبة والصدر . تقافزت فوق رأسي ، اهتز جسدي عندما حط أحدها علي كتفي ، شعرت بحركة مخالبه في لحمي . شكلت الغربان سحابات سوداء ، صغيرة ، تداخلت ، كونت سحابة هائلة . بدت المرئيات تحتها شاحبة ، كأن الشمس احتجبت ، أو أن النهار لم يطلع بعد ، أو أن الليل قد أتي . هبطت من السماء ، ومن أماكنها فوق الشجر . حطت علي رءوسنا وأكتافنا ، نقرت الوجوه والأيدي التي حاولت دفعها . اختلط نعيق الغربان وصرخاتنا . حاولنا الاختفاء ، أو الهرب . أغمضت عيني كي لا تصل إليها مناقيرها . تفرقت الأسراب ، ثم عاودت الاقتراب كأعنف ما تكون ، امتلأت السماء بالطيور السوداء ، شكلت سحابات متقاربة ، هائلة ، بدلت ضوء النهار . بدت قطعاً من السواد الداكن . حاولنا أن نخيف الغربان ، ندفعها للطيران إلي بعيد ، إلي المناطق التي قدمت منها . طرد الغربان بوسيلة ما ، هو التصرف الذي يعيد المكان إلينا ، نمشي في الطريق المتجهة إلي البحر ، نجلس تحت الشجرة في نهاية شارع الكورنيش . أدركنا أنه من المستحيل أن نطرد كل هذه الغربان من المدينة . لم يكن أمامنا إلا مقاومتها ، محاولة طردها ، نعرف أن ما سنفعله ربما يصيبنا بالأذي ، لكننا أمسكنا بأغصان الشجر ، وبدأنا في التلويح بها . تطوحت أيدينا في كل الاتجاهات ، نحاول دفع الطيور من حولنا ، طردها فلا تؤذينا .