طلبت مني مديرة المَدرسة أن أدرّس للصف الثاني الإبتدائي مادة التربية الإسلامية نظرا لرحيل مفاجئ لإحدى مُدرسات تلك المادة. لم أستاء من فكرة كوني مُدرسة لغة إنجليزية في مَدرسة لغات يُطلب منها تدريس مادة في غير تخصصها، بل كنت متحمسة للأمر رغم تظاهري بقبولي له على مضض. في اليوم التالي قالوا لي أن "حصة الدين" بدأت ويجب أن أدخل الفصل المفترض بي استلامه من المعلمة لأتهيأ للمهمة. دخلت الفصل أثناء الشرح ووقفت في آخره أتابع ما يجري وكان الدرس عن سورة الفيل. عايزة أشوف مين أشطر الولاد ولا البنات كانت المُعلمة من متبعي الأسلوب التربوي الأحمق الذي يقوم على إثارة المنافسة والغيرة بين الفتيان والفتيات تحقيقا للتفاعل المرجو من التلاميذ وبيد أن الصراخ هو المعيار الأوحد لقياس ذلك التفاعل ونجاح "الحصة" بشكل عام. كانت تلقنهم الآيات قطعة قطعة، فأجد الأطفال يصرخون بعبوس حتى تنتفخ عروق رقابهم مرددين ما تقول. كانت هناك فتاة متفوقة في الصف الأمامي تصرخ بكل ما فيها من قوة وهي تنظر تحديا للجانب الآخر حيث منافسيها "الولاد" والذين يقومون بدورهم بالصراخ رغبة في الانتصار على "البنات" حتى أن بعض هؤلاء الأطفال كانوا يقفون أثناء الصراخ من فرط ذلك "التفاعل العلمي الراقي". يسعد أكثرية المعلمين والمعلمات بهذه المهزلة فلا يهمهم سوى التجاوب الذي لا تُمكنهم قدراتهم من تحقيقه إلا بإشعال الصراع على الأفضلية بين الجنسين، ولا أدري كيف لا يكترثون بعواقب هذا الأسلوب وأثره على الأطفال وما يثير من حس العداوة والسخرية فيما بينهم والذي يرافقهم في تعاملاتهم خلال اليوم الدراسي وقد ينحفر بداخلهم لسنوات طويلة ويؤثر على نظرة كل منهما للآخر مستقبلا، بدلا من أن تكون المدرسة المكان الذي يتربوا فيه على التعاون والإحترام والمحبة وقبول الآخر. انقضى معظم وقت الحصة في تكرار السورة لغرض الحفظ، شعرت أنني داخل إحدى الكتاتيب القديمة رغم الجدران المزينة بالعبارات الإنجليزية والورق الملون. في الحصة التالية بدأت العمل وبمفردي لحسن الحظ. بالطبع كان يجب البدء بمراجعة الدرس السابق، فبدأت في قراءة السورة الكريمة وما أن قلت أعوذ بالله من الشيطان الرجيم حتى وجدت صداها صراخا كالمعتاد من جانبهم، طلبت منهم الإستماع وبعد أن انتهيت من القراءة سألت عن معنى عصف مأكول، فلم أجد إجابة وهذا ما توقعته. من هاهنا لطالما يبدأ الجهل بالدين، نحفظ الآيات صغارا ونقرأوها كبارا في المواصلات ونتسابق في ختم القرآن في شهر رمضان مرة وربما مرتان دون أن نكترث عن معانيها البتة، فما تربينا عليه هو أننا لا نحتاج أكثر من القراءة لزيادة رصيدنا التجاري من الحسنات ثم ننتظر من يفك لنا الشفرات والطلاسم ليَخلُص لنا بالقصة أو العبرة أو الأحكام الفقهية التي نتخذها ثوابتا فيما بعد دون بذل مجهود يذكر. كان على هؤلاء الصغار أن يعوا أن كل ما عليهم ممارسته ليكونوا طلابا جيدين هي أن يبادروا بالأسئلة من أجل المعرفة لا أن ينتظروا المعرفة استعدادا للأسئلة. كان يجب أن يختاروا بين عشوائية الصراخ والتنازع على تغليفه بطبقة صوت ذكورية أو أنثوية وبين القراءة الجماعية المتناغمة التي تدفع أحدهم إلى إخفاض صوته إذا وجده قد طغى على أصوات الآخرين. كما كان عليهم أن يسمعوا من معلمتهم أنهم جميعا بنفس المهارة والتفوق ذكورا وإناثا.
البكاء على يتم النبي قد أبدوا قاسية عندما أعترف أني حاولت عامدة أن أجعلهم يشعرون بالحزن في أحد الدروس، ليس لأنه كان عن نشأة النبي يتيما وحسب بل لأنني أرى أن قلب مؤمن يخلو من الشجن لا يعول عليه، وأن من واجب معلم التربية الدينية أن يغذي الضمائر بإثارة مشاعر كالشفقة والأسى. فالقساوة الحقيقية أن يرى الواحد منا معاقا أو مسكينا أو أي ذا كرب ثم يكتفي بترديد الدعاء "الحمد لله الذي عافاني مما ابتلى به غيري وفضلني على كثير من خلقه تفضيلا" بمسحة من الاستعلاء دون أن تدمع عيناه لمصابه. القساوة الحقيقية في إنتاج أطفال غلاظ مُشبعين بمشاعر الغضب ونبذ الآخر على أساس النوع أو الدين. لازلت أتذكر تعابير وجه طفلة وصديقتها وأنا استفيض في وصف وحدة النبي ويتمه في صغره والتي جعلتني شخصيا أدمع كلما تذكرت الأمر. لا أدري لما يسهب بعض رجال الدين في الحديث عن قدرات النبي الجنسية في الروايات "المفبركة" في حين أن هناك كثيرا من التفاصيل في حياته تحقق غايات أعظم من إثارة شهوة المستمعين كيتمه على سبيل المثال الذي يمكن أن يتحول لدعوة دائمة لمواساة الأطفال اليتامى من منطلق أن اليتم يخلق أناسا عظام كالأنبياء ليمسحوا على أوجاعهم بشيء من الأمل وربما الفخر حتى.
المسيحيين ومعلمي الدين الإسلامي. اقتضى البروتوكول ألا تبدأ المعلمة درس الدين الإسلامي إلا بعد أن تأتي معلمة الدين المسيحي ليذهب معها التلاميذ المسيحيون إلى المكان الذي يمارسون فيه درسهم بشكل منعزل. وفي أحد الحصص حدث أمر ما عطل المعلمة المسيحية مما استدعى المشرفة أن تخبرني بأنها ستتأخر. طلبت من تلاميذي إخراج كتب الدين الخاصة بهم وبدء مراجعة وقراءة الدرس السابق بصمت كما طلبت نفس الشيء من التلاميذ المسيحيين. بالطبع لا يتسمر الأطفال في مكانهم هكذا، كان بعضهم يقومون من أماكنهم خاصة وأني سمحت لهم بالأكل في هدوء. "يا ميس" نادتني بنت مسيحية لتخبرني بنبرة شكوى ممزوجة بشيء من الفزع أن زميلها المسلم ينظر في كتابها وكان واقفا بجوارها. وجدتني أسألها عما يزعجها في الأمر فبدت على وجهها الحيرة وشعرت أني سألت سؤالا معقدا، فأردت ألا أشق على كليهما وطلبت من الولد أن يعود إلى مكانه من حيث أن عليه الإلتزام بمقعده وأن تلك أشيائها وإن أرادت هي ألا تنظر فيها فلا يجب أن تنظر، لكني أخذت أفكر في ردة فعلي هل كانت موفقة أم لا كما فكرت في فعلها نفسه ودوافعه، هل ظنت أن ما يفعله خطأ ما لا أرضى أنا عنه وأرادت تنبيهي خاصة وأنها كانت فتاة ملتزمة ومنظمة؟ هل شعرت بالهلع على مقدساتها وخافت عليها من هذا التطفل باعتبار أن هذا ولد مسلم؟ هل شعرت بانتهاك الخصوصية كإنسان تمت تعريته وظهرت عورته أمام الآخرين أو ما يعتبرونه هم عورة وعار قد يثير شماتتهم وسخريتهم؟ لم أسألها ولكن يبدو أن هذا الموقف جعلها تحبني كما جعلني فيما بعد أبتسم من فكرة أن طالبة مسيحية أحبت معلمة التربية الإسلامية، وطرافة ذلك الأمر بالنسبة لي تعكس صورة من سلبيات المجتمع. فكنت أتخيل أيضا لو أبلغت هذه الطفلة أهلها بأنها تحبني لربما خافوا من أن أستغل ذلك لألقنها بعض من أفكاري الدينية، أو ربما شعروا بالإمتنان لمعاملتي الجيدة لأبنتهم. لكن ذلك كان بمثابة درس لي عن آداب المهنة، فكثير من الأطفال الصغار لا يعرفون ما في عقول الكبار من ملوثات الطائفية والنعرات ورفض الآخر. وعليه يتعرض المعلمون والمعلمات لبعض مواقف كالتي تعرضت لها في غير مدرسة عندما أتت إلى "ليديا" لتريني بفرح وفخر صورة للبابا شنودة التي صنعت لها بروازا أنيقا تنفيذا لنشاط كا طلبته منهم معلمة التربية المسيحية دون تفكير بأني مسلمة وقد لا أحب تلك الأمور، أو "بيشوي" عندما كان يحكي لي عما فعله في الكنيسة هذا الأسبوع. كل ذلك أشار في داخلي عظم المسئولية وماهية آداب تلك المهنة، إلى الخيط الرفيع بين ما يجب على أن أؤثر به عليهم وما لا يجب أن أؤثر به عليهم. وجدتني أنا من أتعلم منهم ومن هذه التجربة التي لم تدم سوي بضع شهور لكنها تركت لي ذكريات أفتخر بها وأرتني المراحل الأولى في صناعة العنصرية والطائفية، وحيث المدرسة مصنعا للجهل.