أعادت التطورات التى يشهدها العالم العربى، خصوصًا فى ما يسمى بدول الربيع العربى، النقاش المحتدم والجدل المتواصل حول دور المثقف وتأثيراته فى مجريات الأحداث وقدراته فى إمكانية التغيير، وفى المشاركة فى رسم وصياغة التطورات المتعلقة بكتابة الدساتير المزمعة والانخراط فى النقاش حول مفاهيم الدولة الدينية والدولة المدنية وحدود كل منهما.. إلخ كما أبرزت الأحداث دور الأحزاب والجمعيات والتكوينات ذات الخلفية الإسلامية ورموزها من الدعاة الذين اضطلعوا بفعل التغيرات العاصفة بمسؤوليات الحكم وتسلم زمام السلطة. فى كتابه الجديد الصادر عن الدار المصرية اللبنانية، «الكاتب والسلطان.. من الفقيه إلى المثقف»، يطرح مؤلفه الكاتب والدبلوماسى المعروف خالد زيادة، سفير لبنان بالقاهرة، عددًا من الأسئلة التى يسعى من خلالها لمعالجة إشكالية المثقف والسلطة، تلك الإشكالية الموغلة فى عمقها التاريخى، حيث الصلة بين «الفقيه» و«السلطان»، تلك الصلة القديمة الملتبسة، حبًا وكرهًا، قربًا وبعدًا، ممالأة ومواجهة، مهادنة وصداما، لتصل إلى واقعنا المعاصر لتشمل فئة أوسع هى «فئة المثقفين». ينطلق الكتاب من تأملات عميقة لمفهوم «المثقف»، فى تجلياته وأشكاله وصوره التاريخية، فى إطار الإشكالية المزمنة فى تاريخ الثقافة العربية «المثقف وعلاقته بالسلطة» من جانب، والشعب من جانب آخر، ويطرح تساؤلات حول الصراع بين رجل السلطة والمثقف، وبين الداعية أو رجل الدين والمثقف، والفقيه والمثقف، طارحًا تساؤله الشائك حول حضور المثقف العضوى فى مصر والعالم العربى من عدمه، خصوصًا أن التطورات والتغيرات التى يشهدها العالم العربى لم تولد هكذا فجأة، وكذلك فإن أدوار «رجل الدين»، و«الداعية»، و«الكاتب»، و«المثقف» ذات جذور فى تاريخنا الثقافى والاجتماعى والسياسى على السواء. يقتنص المؤلف فى كتابه لحظتين مفصليتين فى التاريخ الحديث، ما بين مطلع القرن السادس عشر وحتى مطلع القرن التاسع عشر، يغوص فى الذاكرة التاريخية العربية الإسلاميَة لدراسة مأزق المثقف الذى لا يزال يرزح ما بين سندان السلطة، ومطرقة العامة، هى إشكالية قديمة حديثة، تقليدية بقدر ما هى متجددة، لكنها، لا تزال تطرح نفسها باستمرار، وتعلن عن حضورها فى الواقع الراهن. «الكاتب والسلطان» لخالد زيادة، وكما يقول جابر عصفور، يعرض لعدد من الموضوعات المهمة التى تكشف عن تفاصيل العلاقة المتوترة بين زوايا المثلث الذى لم يكف عن التغير والتبدل والتحول عبر تاريخنا الثقافى والسياسى والاجتماعى، حيث تدور فصول الكتاب بين منعطفين تاريخيين، يخص أولهما مطلع القرن السادس عشر، ويرجع ثانيهما إلى بداية القرن التاسع عشر، وما تبع كلا المنعطفين من متغيرات، لم تفارقها مؤثرات متعددة داخلية وخارجية، ليقدم زيادة فى هذا الكتاب «التحليلى الاستشرافى» إن جاز التعبير، رؤيته المبدئية لظاهرة معقدة ومتشابكة، وحيث يطرح تساؤلاته ويقدم تحليلاته، ويقارب تخوم المشهد، ليكشف عن هواجسه الخبيئة، ونوازعه. ويوضح خالد زيادة فى تقديمه للكتاب، أنه ينطلق من سؤالين: يتعلق الأول بالموقع الذى كانت تشغله الأجهزة الفقهية فى الدولة السلطانية؟ والثانى يأتى من فضاء مختلف، ويتعلق ببروز شخصية اجتماعية جديدة متمثلة فى ما نطلق عليه «المثقف». للإجابة عن السؤال الأول قام المؤلف بسياحات وجولات عميقة ومتعمقة فى المؤلفات التاريخية المعروفة، وكذلك المصادر غير الشائعة كالسجلات الشرعية وتراجم الأعيان، ليرصد العلاقة بين الأجهزة الفقهية والمؤسسات الدينية المنوط بها القيام بأعباء الوظائف الدينية من إمامة وخطابة وتدريس وصولا إلى القضاء، وبين السلطة الحاكمة، السلطان أو ولى الأمر، خصوصًا مع ما يشير إليه المؤلف أن هذه العلاقة لم تكن ثابتة بل كانت عرضة للتبدل والتحول مع الانعطافات والانقلابات وتغير الدول. أما السؤال الثانى المتعلق ببروز «المثقف»، فتبدو الإجابة عنه أكثر تعقيدًا، يقول المؤلف: «لقد اقتنعت بأن ولادة المثقف فى البيئة العربية قد ارتبطت بتجربة التحديث فى عصر النهضة والتنظيمات، وأن وظيفته لا يمكن فهمها إلا على ضوء الوظائف التى شغلها من قبل الفقهاء وكتاب الدواوين. مع التأكيد على ضرورة التمييز بين الوظيفة التى يضطلع بها الفرد أو المؤسسة وبين الدور الاجتماعى والثقافى والسياسى الذى يتبدل تبعًا للظروف وتغير الأسئلة من حقبة إلى أخرى».