هل ما زالت إشكالية «الدين والعقل» هى الإشكالية الحاكمة فى الثقافة العربية الإسلامية على امتداد تاريخها؟ وإذا كانت كذلك.. فلماذا؟ وهل ثمة تيارات متمايزة فى مضمار الفكر العربى المعاصر تنحاز لأحد طرفى الثنائية، العقل والدين، على حساب الطرف الآخر بما يفضى إلى الصدام بينهما أو محاولة أحدهما إقصاء الآخر أو إزاحته أو حتى تهميشه؟ فى كتابه «العقل والدين.. من الخطاب الإصلاحى إلى الخطاب العلمانى»، الصادر حديثا عن دار «رؤية» بالقاهرة، يناقش مؤلفه الدكتور أحمد محمد سالم إشكالية العلاقة بين الدين والعقل فى الثقافة العربية الحديثة، انطلاقًا من أن العلاقة بين الدين والعقل هى إشكالية حاكمة فى ثقافتنا العربية الإسلامية على مدار تاريخها قديماً وحديثاً، فالثقافة العربية فى عصور ازدهارها هى ثقافة تعطى أولوية للنقل على العقل، حتى وإن أوهم بعض نتاج هذه الحضارة بغير ذلك، كما فى عنوان كتاب ابن تيمية الموسوم ب «درء التعارض بين العقل والنقل» والذى ينحاز فيه بشكل سافر لإلغاء العقل وتقديم النقل دون تأويل. ولذلك فإن بعض المذاهب والفرق الإسلامية التى أعطت الأولوية الأولى والكبرى للعقل، كما نرى عند المعتزلة، أو فى مجمل المشروع الفلسفى والفكرى لدى ابن رشد مثلا، لم تلق رواجًا ولم تكن من القوة والنفوذ والانتشار بما يسمح لها بحفر مجرى عميق فى مسار الفكر العربي، وذلك على الرغم من أن اهتماماتها نبعت من نفس إشكاليات ثقافتنا العربية، ولكن سلطة الفقهاء وسلطة السياسة كان لهما الدور الأبرز فى وأد أى توجه فى ثقافتنا ينحو نحو إعطاء الأولوية للعقل أو إعطائه السلطة المركزية، ولهذا لم يكتب لمثل هذه المحاولات أو التيارات النمو والازدهار فى الثقافة العربية. من جانب آخر، وكما يرى مؤلف الكتاب، كانت ذات الإشكالية هى الحاكمة أيضا فى ثقافتنا العربية المعاصرة، حيث رأى دعاة الإصلاح ومفكرو النهضة أن العقل يدور فى رحى النص، فهو تابع له دائر فى فلكه، يحتل المرتبة التالية له والمنقوصة عنه درجة بل درجات، فى حين رأت معظم التيارات الليبرالية والعلمانية فى ثقافتنا الحديثة أنه من الضروى بل من اللازم أن نتبع أسس التقدم الغربى وأن نأخذ بأسبابه فى كل مناحى الحياة فى التقدم العلمي، وفى النظم الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. ومنذ مطالع القرن التاسع عشر، ومع قدوم الحملة الفرنسية (1798-1801م) اصطدم العرب والمسلمون بمظاهر الحضارة الغربية الحديثة، والعلم الأوروبى المتطور، وكان لازما أن تطرح الأسئلة التى تجسد وتعبر عن عمق الإحساس بالفجوة الحضارية الكبيرة التى عاينوها ورأوا بأعينهم مظاهرها العديدة، وعبّروا عن هذا الاندهاش العظيم جراء معرفة الآخر، المغاير فى اللغة والدين والجنس، بصوغ الأسئلة التالية: لماذا تخلف المسلمون ولماذا تقدم غيرهم؟ وما هى السبل اللازمة إلى تحقيق النهضة والتقدم؟ وهل تحقق النهضة ينبغى أن يكون وفقا للنموذج الغربى الأوروبى..؟ هذه التساؤلات وغيرها، وما تفرّع عنها، حفّزت الأذهان وشحذت العقول من جديد إلى البحث والتفكير فى «إشكالية العلاقة بين العقل والدين»، وهل هى علاقة صراع وتضاد أم تكامل وانسجام؟. وطوال 200 عام هى عمر ما يطلق عليه العصر الحديث، حاول المفكرون والمثقفون ورجال الدين على اختلاف تياراتهم ومذاهبهم الفكرية والدينية البحث عن إجابات لهذه الأسئلة، وذلك فى إطار وعاء جديد وعصرى يختلف إلى حد كبير عن الوعاء التاريخى القديم. وانطلاقا من فكرة أو فرضية أن كل القضايا والإشكاليات المطروحة فى الثقافة العربية الحديثة تمكن معالجتها وتناولها فى ضوء إشكالية «العلاقة بين العقل والدين»، قسّم المؤلف كتابه إلى فصول ستة، خصص الأول منها، وعنوانه (خطاب الإصلاح بين التراث والحداثة)، لعرض خطاب الإصلاح الدينى كما تجسّد فى فكر الرائد العظيم رفاعة الطهطاوي، ومحاولته التوفيقية (هل نقول التلفيقية؟!) للجمع بين الثنائيات المتضادة: الوافد والموروث، العقل والنقل، التراث والحداثة.. تمهيدا لاستزراع وتأصيل المكتسبات الليبرالية الحديثة داخل نسق الثقافة العربية والإسلامية التقليدية. وفى الفصل الثانى المعنون ب (خطاب الإصلاح.. من تعدد الدلالات إلى الوضوح المنهجى) بسط المؤلف القول فى مشروع الإمام المجدد محمد عبده، وخطابه التجديدى التنويرى ذى المنحى الإصلاحى، ومشروعه النهضوى لتجديد الدين، مراعاة لتجدد الدنيا، وقارن بينه وبين تلميذه الشيخ أمين الخولى. فالإمام الجليل الشيخ محمد عبده هو الأب الروحى الذى خرج من عباءته «السلفى» المغرق فى سلفيته (محمد رشيد رضا نموذجا).. و«الليبرالى» الموغل فى ليبراليته (قاسم أمين، أحمد لطفى السيد، أحمد فتحى زغلول، مثالا).. و«الوسطى» المعتدل فى وسطيته (الشيخ مصطفى عبد الرازق، محمد فريد وجدى، وآخرون).. والاشتراكى الاجتماعى، التنويرى والسياسى والناقد والمفكر والمفسر والفقيه والفيلسوف والأستاذ الجامعى.. وهو أستاذ «مدرسة الدراسات الإسلامية» الجريئة فى اجتهاداتها وطروحاتها الفكرية التى تخرّج فيها أحمد أمين «مؤرخ الحياة العقلية للمسلمين»، والشيخ المجدد أمين الخولى، وامتداداتها فى تلامذتهم محمد أحمد خلف الله، ونصر حامد أبوزيد، وحسن حنفى، وعلى مبروك، وأحمد سالم (مؤلف الكتاب). كيف كانت رؤية الإمام لعلاقة «العقل بالنقل»، وكيف حمل خطابه اشتباه الدلالات وتعددها، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، ومن التراث إلى الحداثة، ومن إشكالية «التوفيق بين الدين والعلم» إلى «الإسلام دين العلم والمدنية»، بما أفضى فى النهاية إلى خروج الليبرالى المستنير أحمد لطفى السيد، والسلفى محمد رشيد رضا، جنبًا إلى جنب قاسم أمين داعية تحرير المرأة. يؤكد المؤلف أن خطاب الإمام لو لم يكن قابلا لتعدد الدلالات وتنوعها لما أفضى إلى هذا التنوع اللافت فى التيارات الفكرية وممثليها التى خرجت كلها من عباءة الإمام. فيما اعتبر أن ثمة نقلة منهجية كبيرة تمت على يد تلميذه الشيخ أمين الخولى، الذى تميز بوضوح المنهج ودقته وضبط مصطلحاته فى معالجته لإشكالية العلاقة بين العقل والدين، والتأسيس لمدرسة منهجية مهمة فى الدراسات الإسلامية، كان من ثمارها الناضجة فيما بعد تلميذ تلاميذه نصر حامد أبو زيد. الفصل الثالث من الكتاب، (خطاب الإصلاح بين العلم والدين)، تناول فيه المؤلف خطاب المفكر والمصلح محمد فريد وجدي، باعتباره نموذجا فذا ومثاليا عمل على السعى للاستفادة من منجزات العلم الحديثة فى تشكيل الخطاب الدينى، وظهر فى خطابه، مدى الأثر الواضح للعلم الحديث على تطور خطاب الإصلاح الديني، والانطلاق إلى تجديد النظر فى مسائل علم التوحيد أو العقيدة، ويكشف خطاب فريد وجدى بامتياز عن الأثر الحضارى الغربى على مجمل خطاب الإصلاح. فيما شكلت قضية (العدالة والحرية.. بين الإصلاحيين والليبراليين)، محور الفصل الرابع، حيث تتبع فيه المؤلف تفاصيل القضية بين مدرسة الإصلاح الدينى والمدرسة الليبرالية، حيث كانت «العدالة والحرية» قضية محورية فى خطاب الإصلاح الدينى استنادا إلى الشرع، فيما اعتمد أنصار التيار الليبرالى على تناول مفهوم «الحرية» انطلاقا من المرجعية الغربية والتراث التنويرى الأوروبى. فى الفصل الخامس، (جدل الدين والسياسة فى الخطاب العلمانى)، قام المؤلف باستجلاء ملامح الخطاب العلمانى وآفاقه كما تجلى فى خطابات «شبلى شميل»، و»سلامة موسى»، و«إسماعيل مظهر»، و»فؤاد زكريا».. وتوقف تفصيليا عند رصد العلاقة بين «الدين والسياسة»، فى ضوء علاقة المطلق والزمنى، وعلاقة الدين بالفلسفة، وعلاقة العلم بالدين. الفصل السادس والأخير، فى هذه السياحة العقلية والفكرية، فخصصه ل (النزعة العقلية عند فؤاد زكريا.. قراءة فى مشكلة الأصالة والمعاصرة)، حيث عالج مفهوم «العقل» وأهميته ومحورية دوره، كما تبلور عند واحد من أهم ممثلى التيار العلمانى فى النصف الثانى من القرن العشرين، وهو الدكتور فؤاد زكريا، ومدى قدرة العقل على تحليل مشكلات وقضايا الواقع المعاصر. إن الفكرة المحورية البارزة فى هذا الكتاب، بل فى مجمل نتاج الدكتور أحمد سالم والتى سعى لإثباتها والتدليل عليها عبر كتبه ومؤلفاته جميعا، تنطلق من أن الإسلام لا يتعارض مع العلمانية فى النظرة إلى الواقع، وذلك لأن ما بينهما من تقارب أكبر بكثير مما بينهما من تباعد، فكلاهما يعتبر أهمية كبرى لدور الزمن فى إدارة شئون الحياة الإنسانية، وكذا فإن كليهما يركز على الاهتمام بالدنيا. مؤلف الكتاب الدكتور أحمد محمد سالم، أستاذ الفلسفة والفكر المعاصر بكلية الآداب جامعة طنطا، له مجموعة من المؤلفات التى تتبع فيها جذور الفكر الإصلاحى والدعوة إلى الدولة المدنية والنهضة الحضارية، ومعالجة إشكالية التراث والمعاصرة لدى عدد من أهم مفكرى النهضة. وأولى مشروع الشيخ أمين الخولى الفكرى وخطابه التجديدى عناية خاصة، واشتغل على نصوصه التأسيسة المهمة.. أخرج عددا من الكتب المهمة، منها «الإسلام العقلانى تجديد الفكر الدينى عند أمين الخولى»، 2008، و«نقد الفقهاء لعلم الكلام.. بين حراسة العقيدة وحركة التاريخ»، و«إشكالية التراث فى الفكر العربى المعاصر دراسة نقدية مقارنة بين حسن حنفى ومحمد عابد الجابرى»، وكتابه المهم «المرأة فى الفكر العربى الحديث قراء فى معارك عصر التنوير».