بمناسبة الحوار الدائر حول الدستور الجديد, كتبت في الأهرام(2012/7/8) مقترحا أن تكون الحرية هي النواة الفلسفية الصلبة لكل مواد الدستور. فما أهلكنا وأوهن قوتنا إلا الاستبداد وغطرسة السلطة الشمولية. وأزيد هنا أن لهذا الاستبداد مصادر فكرية وسياسية متعددة بعضها. وافد وبعضها موروث من تراثنا السياسي والفقهي القديم. وما أطرحه للنقاش هنا هو ما يتعلق بقاعدة سد الذرائع الشائعة في المصادر الموروثة, ليس من حيث دورها في الشئون الفردية ومسائل الأحوال الشخصية; وإنما من حيث دورها في ترسيخ الاستبداد وإلغاء الحريات الفردية والجماعية, بحجة تقديم درء المفاسد علي جلب المصالح, وبحجة اتقاء الفتن وإراقة الدماء. إن مؤلفات المجتهدين أصوليين وفقهاء, قدماء ومحدثين; خلو تقريبا من أمثال شارحة لقاعدة سد الذرائع في قضايا المصالح العامة والمنافع العمومية. فقط نجد تلك المؤلفات مترعة بالأمثال والمسائل المتعلقة بشئون فردية وأحوال شخصية. ويبدو أن أغلب ما يتعلق بالمصالح العامة وشئون المجتمع والدولة قد أحاله الفقهاء ب صمت إلي فقه السياسة الشرعية, حسبما نجده في كتبها المتكاثرة منذ القرن الثامن الهجري. تلك الكتب التي وضعت البذور الأولي لما بات يعرف في الفقه الدستوري والقانوني الحديث باسم أحكام الطوارئ. نعم; في تلك الكتب التي تحمل امس السياسة الشرعية نجد الجد الأعلي لترسانة قوانين الطوارئ والأحكام الاستثنائية التي أذاقت شعوبنا الويلات لأحقاب متطاولة. في ذلك القسم من كتب التراث المصنف ضمن السياسة الشرعية نجد أن مؤلفيها قد فوضوا ولي الأمر( الحاكم: الخليفة, أو السلطان, أو الملك) في تقدير المصلحة العامة بالتشاور مع أركان حكمه. ووضعوا تعريفات بالغة الدلالة لمفهوم السياسة الشرعية, كقول القرافي من أئمة المالكية بأنها تعني:التصرف في عموم مصالح الأمة مما زاد علي القضاء والفتيا. وتردد هذا المعني بمضمونه عند آخرين منهم: ابن نجيم, وابن عقيل, والطرابلسي قديما, ومحمد البنا, وعبد الله جمال الدين, وعبد الوهاب خلاف, وعبد الرحمن تاج, ووهبة الزحيلي, وغيرهم حديثا. ولم يكن باب السياسة الشرعية(بالمعني الذي ذكروه) سوي الباب الملكي لما يعرف كما قلنا باسم وقوانين الطوارئ وحتي الأحكام العرفية التي تتذرع كلها بوجوب الاحتياط وسد طرق الشر والفساد; بينما يشهد الواقع ونفس الأمر علي أنها أدت إلي تجذير السلطة الاستبدادية وإضفاء الشرعية عليها, وخنقت حريات الأفراد والجماعات وأضعفت قوة الأمة لصالح قوة السلطة, وحصرت اختصاص الاجتهاد الفقهي بمعناه الأصولي في مسائل العبادات والمعاملات الفردية; لا الجماعية التي يعج بها واقعنا, ويئن منها أبناء مجتمعنا. وليس مصادفة أن تتكرر في كتب الفقه المالكي وأصوله وفي غير المالكي أيضا عبارة كالتي نقلها ابن فرحون(ت:799ه 1397 م) أي قبل ما يقرب من ستمائة سنة في كتابه الديباج المذهب, ونصها هو: سلطان جائر سبعين سنة, خير من أمة سائبة ساعة من نهار, أو كالتي ذكرها القاضي عياض(476 544 ه) قبل ما يقرب من ألف سنة في كتابه إكمال المعلم:جمهور أهل السنة من أهل الحديث والفقه والكلام أنه لا يخلع السلطان بالظلم والفسق وتعطيل الحقوق, ولا يجب الخروج عليه بل يجب وعظه.! أتدري لماذا لم تناقش المجامع الفقهية المعاصرة ولو مرة واحدة الحكم الشرعي في قوانين الطوارئ والمحاكم الاستثنائية في أي بلد من بلادنا العربية؟. هل لأنها اعتبرتها من شئون المصلحة العامة التي يختص بها ولاة الأمر, ومجالسهم التشريعية التي لم تخذلهم مرة واحدة في شأن العمل بالطوارئ وأحكام الضرورة القاسية حسبما يقدرها ولي الأمر. أم ثمة أسباب أخري تتصل بمزدوج الترهيب والترغيب؟؟. أيا ما كان الأمر; فإن الأمثال الشارحة لقاعدة الذرائع سدا وفتحا باتت تعاني من عدة إشكاليات موضوعية. وهذه الإشكاليات التي أتينا علي بعض منها جعلتها معزولة في معظمها عن الواقع المعاصر; وخاصة في ظل استمرار عجز المعاصرين عن تجديدها, فضلا عن إحجامهم عن نقد الموروث منها للتأكد من فعاليتها أو عدم فاعليتها في أداء مهمتها التعليمية والتطبيقية في الواقع الاجتماعي المتغير علي الدوام. والغريب أن المعاصرين في أغلبهم لم يتنبهوا إلي أن استحضار الأمثال القديمة إلي عالم الواقع إما أن يفككها من حمولتها التاريخية, ولا يكون ذلك إلا بجهد واع منهم, وإما أن يبقي علي تلك الحمولة ومن ثم يجعل تلك الأمثال مفارقة للواقع المعيش, وعليه تتدني فوائدها لأقل قدر. وهكذا نستطيع القول بأن اكتفاء الفقيه المعاصر باستنساخ الأمثال القديمة في قاعدة الذرائع وفي غيرها, قد أفقده الشعور بنبض الواقع. إن عملية الاجتهاد في القول بسد الذرائع أو فتحها تدور في أغلبها حول الشروط والتقسيمات التي وضعها الأصوليون أمثال القرطبي( ت410 ه) صاحب أقدم تقسيم للذرائع, والقرافي, والزركشي, والشاطبي, وابن تيمية, وابن القيم, والغزالي, وغيرهم ممن أتي بعدهم وكرر أقوالهم, علي ما بينهم من اختلافات في تلك التقسيمات, أو من مطارحات في تقدير شروط إعمال سد الذريعة أو فتحها, ومن أرادها فليلتمسها هناك في كتبهم. أقول بعد أن تتبعت الأمثال الشارحة لقاعدة الذرائع في المؤلفات المشار إليها, وبعد أن درستها دراسة أولية: إن السمات الأساسية لتلك الأمثال تتمثل في أنها متركزة أساسا في العقائد والعبادات, وفي المعاملات, ثم العدد القليل منها في العادات والأعراف, و العدد الأقل في الجنايات والجزاءات, ولا نكاد نصادف في تلك المؤلفات مثالا يتناول مسألة من مسائل المصالح العامة, أو قضية من قضاياها. وتلك السمات لم تفارق أغلب مؤلفات الفقه وأصوله منذ بدايات عصر التدوين إلي العصر الحديث. أغلب تلك المؤلفات تستنسخ الأمثال نفسها. ولئن ساغ ذلك في الأزمنة السابقة حيث كانت تلك الأمثال تؤدي وظيفتها الشارحة والمسهمة أيضا في تكوين الوعي العام, فما مسوغ استمرار المحدثين من أصوليين وفقهاء في استنساخ تلك الأمثال نفسها دون تجديد أو تغيير؟ وقد عدت عليها عوادي التغيرات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والسلوكية, حتي باتت تلك الأمثال قديمة شاحبة المعني, ومتيبسة الدلالة, وبات استرجاعها عملا غريبا وبلا معني في سياق المعطيات الاجتماعية المعاصرة. أضف إلي ما سبق أن جل جهد المعاصرين متجه للتشديد علي الذرائع من جهة السد, أو من باب الاحتياط. وتبلغ هذه النزعة ذروتها باستحضار مقولة فساد الزمان, فهنالك ينهض الفقيه الأصولي لسد ذرائع الفساد العميم, وينهض فقيه السياسة الشرعية للاحتياط من الفتن, وتغليب دواعي حفظ النظام والاستقرار علي أي اعتبارات أخري, وبينهما وبسببهما تسود ثقافة مترعة بالتردد والحذر والإحجام عن أخذ زمام المبادرة في كثير من أشغال الحياة ومتطلباتها; بدعوي سد ذرائع الفساد. والنتيجة هي وجود فجوة كبيرة تحجب النظرية الفقهية عن الممارسات الاجتماعية علي اتساعها. والنتيجة هي أيضا مزيد من تراجع تأثير الثقافة الشرعية في توجيه مسارات الحياة الاجتماعية. وإذا أضفنا إلي ذلك إشكالية نقص الاجتهادات في كيفية نقل قواعد الذرائع إلي أرض الواقع وتحديد المسئول عن ذلك( فردا كان أو مؤسسة, أو سلطة ما), لوضح لنا عمق أزمة النظرية الفقهية وقواعدها في واقعها المعاصر.وهو ما دفعنا إلي الدعوة لتجديد النظر في الأمثال الشارحة لقاعدة سد الذرائع وفتحها, وفي غيرها من القواعد الفقهية العملية. طال انتظار أمتنا لمن يفتح لها ذرائع الحرية, ويخلصها من أحكام الطوارئ, يضعها علي سكة الحياة الطيبة التي ما جاءت شريعة الإسلام إلا لإقامتها لإسعاد البشر تحت ظلالها. المزيد من مقالات د.ابراهيم البيومى غانم