لم تعد المدافع والطائرات والصواريخ والمُسيَّرات هى فقط أسلحة حسم الحروب، ولا يتحقق النصر الا بهزيمة العقول والضمائر، حروب تستهدف الشعوب لا الجيوش، والأفكار لا المواقع، وتستخدم أدوات نفسية وإعلامية لتحطيم الأوطان من الداخل، دون إطلاق رصاصة واحدة. الهدف الأساسى لهذه الحروب هو زعزعة ثقة الشعوب بحكوماتها وتحريضها عليها، عبر حملات موجهة تُظهر الدولة ضعيفة ومرتعشة وغير قادرة على إدارة شئونها، واتهام المسئولين بعدم الأمانة والتقصير، لخلق حالة من الفوضى الذهنية تؤدى تدريجيًا إلى فقدان السيطرة، والانزلاق إلى مصير الدولة الفاشلة، وعندما يضعف الإيمان بالمؤسسات، تتفكك الروح الوطنية وتتحول الشعوب إلى أداة لهدم ذاتها. ومع تطور التكنولوجيا اتسع نطاق هذه الحروب، وأصبحت أكثر تعقيدًا ودهاء، وظهر سلاح جديد أقوى من المدافع وأخطر من القنابل «المعلومات»، وفى زمن الواقع الافتراضى لم تعد المعارك تُخاض فى الميادين بل على شاشات الهواتف، وفى زوايا الإنترنت المظلمة، وإذا كانت المدافع لها وقت تُخرس فيه فالشائعات لا تعرف السكون، فهى نار مستعرة تُغذّيها أزرار إلكترونية وتضخّمها الجيوش الإلكترونية. وتستخدم هذه الحروب أدوات متعددة اهمها التضليل عبر الأخبار المفبركة وضرب الاقتصاد والعبث بأسعار الدولار والضغط على السياحة وتضخيم التضخم وغلاء المعيشة، وكلها تُستخدم كوقود لإشعال الغضب الشعبي، وكأنما هناك من يُمسك بخيوط اللعبة من بعيد، ويدير الأزمة ويصدّرها فى صورة غضب. ووسط هذا المشهد المعقد اتذكر عبارات خطيرة قالها «برنارد لويس» مهندس خرائط التقسيم عام 2005: «العرب والمسلمون لا يمكن تحضرهم، وإذا تُركوا لأنفسهم دمّروا الحضارة»، وأضاف: «الحل هو إعادة استعمارهم وتفتيت دولهم إلى كيانات عشائرية وطائفية، دون اعتبار لانفعالاتهم، فإما أن يخضعوا للسيادة الغربية، أو يُتركوا ليُفجّروا العالم». وتتزايد المؤشرات فى المنطقة التى تؤكد أن ما يحدث من فتن دينية وطائفية وثقافية وتفتت فى الهويات ليس مجرد مصادفة، بل جزء من مؤامرات ممنهجة تستهدف تخريب المجتمعات من الداخل، ونشهد تآكلًا متسارعًا فى مشاعر الانتماء الوطني، وتراجعًا فى الروح الجماعية لصالح ولاءات هشّة وعابرة، لا تصمد أمام الأزمات ولا تعكس عمق التاريخ والثقافة، وهذه المخططات تضرب الهوية وتُضعف تماسك الشعوب، لتفتح الباب أمام التفكك الاجتماعى والسياسي، مما يُسهل التدخلات الخارجية ويُجهض فرص النهوض الوطنى المستقل. أنقذ الله مصر من الفتن، بعد أن ظهر هذا المخطط بوضوح فى ممارسات الإخوان، وانتقلت الجماعات الإرهابية من السلاح إلى الشائعات، ومن التفجير إلى التحريض الإلكترونى، واستخدموا السوشيال ميديا والفيديوهات المفبركة والقنوات التحريضية التى تبث من الخارج، لمحاولة تشويه صورة الدولة وإرباك المشهد السياسي، أملاً فى بث اليأس وإحباط الروح الوطنية. لم ينجحوا فى الوصول لأهدافهم، فالشعب المصرى وإن أرهقته الضغوط لا يزال يحتفظ بوعيه.. ولكن الخطر لا يزال كامنًا وفى حاجة إلى مناعة فكرية مستمرة.. ومن يظن أن الحرب انتهت مخطئ، الحرب مستمرة بأسلحة غير تقليدية، ومواجهتها الحقيقية هى سلاح الوعى.