كوريا الشمالية: أمريكا لا تستطيع هزيمة الجيش الروسي    يعيش في قلق وضغط.. هل تُصدر المحكمة الجنائية مذكرة باعتقال نتنياهو؟    مواعيد مباريات اليوم لمجموعة الصعود ببطولة دوري المحترفين    ما المحظورات التي وضعتها "التعليم" لطلاب الثانوية خلال الامتحانات؟    بورصة الدواجن اليوم.. أسعار الفراخ والبيض اليوم الإثنين 29 أبريل 2024    صحف السعودية| مطار الملك خالد الدولي يعلن تعطل طائرة وخروجها عن مسارها.. وبن فرحان يترأس اجتماع اللجنة الوزارية العربية بشأن غزة    انخفاض جديد.. أسعار الحديد والأسمنت اليوم الإثنين 29 إبريل 2024 في المصانع والأسواق    أمير هشام: تصرف مصطفى شلبي أمام دريمز الغاني ساذج وحركته سيئة    المندوه: كان يمكننا إضافة أكثر من 3 أهداف أمام دريمز.. ولماذا يتم انتقاد شيكابالا بإستمرار؟    مواعيد مباريات برشلونة المتبقية في الدوري الإسباني 2023-2024    ميدو: هذا المهاجم أكثر لاعب تعرض للظلم في الزمالك    عيار 21 يتراجع الآن لأدنى مستوياته.. سعر الذهب والسبائك بالمصنعية اليوم في الصاغة    «أمطار رعدية وتقلبات جوية».. الأرصاد تحذر من حالة الطقس اليوم الإثنين في مصر    بعد وفاة والدتها.. رانيا فريد شوقي فى زيارة للسيدة نفسية    مصنعو السيارات: الاتحاد الأوروبي بحاجة لمزيد من محطات شحن المركبات الكهربائية    إصابة 13 شخصا بحالة اختناق بعد استنشاق غاز الكلور في قنا    مصرع شخص وإصابة 16 آخرين في حادث تصادم بالمنيا    علييف يبلغ بلينكن ببدء عملية ترسيم الحدود بين أذربيجان وأرمينيا    أسألكم الدعاء بالرحمة والمغفرة.. روجينا تنعى المخرج عصام الشماع    مجتمع رقمي شامل.. نواب الشعب يكشفون أهمية مركز الحوسبة السحابية    عمره 3 أعوام.. أمن قنا ينجح في تحرير طفل خطفه جاره لطلب فدية    ختام فعاليات مبادرة «دوّي» بكفر الشيخ    خالد الغندور يوجه انتقادات حادة ل محمد عبد المنعم ومصطفى شلبي (فيديو)    سامي مغاوري يكشف سبب استمراره في الفن 50 عامًا    رابطة العالم الإسلامي تعرب عن بالغ قلقها جراء تصاعد التوتر في منطقة الفاشر شمال دارفور    «مسلم»: إسرائيل تسودها الصراعات الداخلية.. وهناك توافق فلسطيني لحل الأزمة    شاهد صور زواج مصطفى شعبان وهدى الناظر تثير السوشيال ميديا    شقيقة الفلسطيني باسم خندقجي ل«الوطن»: أخي تعرض للتعذيب بعد ترشحه لجائزة البوكر    سامي مغاوري عن صلاح السعدني: «فنان موسوعي واستفدت من أفكاره»    تموين الإسكندرية: توريد نحو 5427 طن قمح إلى الصوامع والشون    برلمانية: افتتاح مركز البيانات والحوسبة يؤكد اهتمام الدولة بمواكبة التقدم التكنولوجي    التهديد الإرهابي العالمي 2024.. داعش يتراجع.. واليمين المتطرف يهدد أمريكا وأوروبا    بعد عامين من انطلاقه.. برلماني: الحوار الوطني خلق حالة من التلاحم    بعد طرح برومو الحلقة القادمة.. صاحبة السعادة تتصدر ترند مواقع التواصل الاجتماعي    "السكر والكلى".. من هم المرضى الأكثر عرضة للإصابة بالجلطات؟    السفيه يواصل الهذيان :بلاش كليات تجارة وآداب وحقوق.. ومغردون : ترهات السيسي كلام مصاطب لا تصدر عن رئيس    إخلاء سبيل سائق سيارة الزفاف المتسبب في مصرع عروسين ومصور ب قنا    فراس ياغى: ضغوط تمارس على الأطراف الفلسطينية والإسرائيلية للوصول لهدنة في غزة    تحرك عاجل من الخطيب ضد السولية والشحات.. مدحت شلبي يكشف التفاصيل    فيديو.. سامي مغاوري: أنا اتظلمت.. وجلينا مأخدش حقه    من أرشيفنا | ذهبت لزيارة أمها دون إذنه.. فعاقبها بالطلاق    أيمن يونس يشيد بتأهل الأهلي والزمالك.. ويحذر من صناع الفتن    فهم حساسية العين وخطوات الوقاية الفعّالة    العناية بصحة الرموش.. وصفات طبيعية ونصائح فعّالة لتعزيز النمو والحفاظ على جمالها    «حياة كريمة».. جامعة كفر الشيخ تكرم الفريق الطبي المشارك بالقوافل الطبية    ضربة للمحتكرين.. ضبط 135 ألف عبوة سجائر مخبأة لرفع الأسعار    ربان الكنيسة السريانية الأرثوذكسية في مصر يحتفل بعيد الشعانين ورتبة الناهيرة    البابا ثيودروس الثاني يحتفل بأحد الشعانين في الإسكندرية    الإفتاء توضح حكم تخصيص جزء من الزكاة لمساعدة الغارمين وخدمة المجتمع    دعاء في جوف الليل: اللهم جُد علينا بكرمك وأنعم علينا بغفرانك    3 حالات لا يجوز فيها الإرث شرعًا.. يوضحها أمين الفتوى    وزير الاتصالات: 170 خدمة رقمية على بوابة مصر الرقمية    الاستعداد للعريس السماوي أبرز احتفالات الرهبان    بالصور.. الوادي الجديد تستقبل 120 طالبًا وطالبة من كلية آداب جامعة حلوان    مصرع شاب في انقلاب سيارة نقل بالوادي الجديد    طريقة تحضير بودينج الشوكولاتة    محمد أبو هاشم: حجاج كثر يقعون في هذا الخطأ أثناء المناسك    في أحد الشعانين.. أول قداس بكنيسة "البشارة" بسوهاج الجديدة |صور    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الفصل الخامس
نشر في اليوم السابع يوم 27 - 06 - 2008


الفقهاء المعاصرون
مضت عشرات القرون ، وفقه النساء على ما هو عليه ، لا يمكن لأحد أن يمسه أو يقربه لأنه مخبوء في الكتب الصفراء التي لا يلم بها إلا الفقهاء المحترفون ولا تدرس إلا في المعاهد الأزهرية ، والمرأة في خدرها ، محرومة من العلم ، محرومة من العمل ، لا تعرف عن العالم إلا ما تتوارثه النساء بعضهن عن بعض عن غدر الرجال وأنه ما لم تتوصل إلى خطة تمليها الأوهام والظنون ، وما ينتهي إليه فكر حرم العلم والثقافة ، فإن زوجها لن يتردد في التزوج بأخرى ، فتظهر "الضُرة" على المسرح وتصبح الحياة صراعًا وشغباً بين الزوجتين وأبنائهما .
وفي السنة الأخيرة للقرن التاسع عشر أصدر قاسم أمين رحمة الله كتابه "تحرير المرأة" فكان أشبه بقنبلة انفجرت بين النيام فهبوا مذعوريين ساخطين لاعنين ووجهت ضده كل القوى وعارضه مفكرون وزعماء مثل مصطفى كامل وطلعت حرب ، وأغلقت السراي الملكية أبوابها في وجهه ، وقيل إن مائة كتاب قد صدرت معارضة له !! . ولم يكن قاسم أمين شخصًا مشبوهاً كما لم يتضمن كتابه شيئًا إدا .
فقاسم أمين عرف بالوطنية وعندما ألقت الظروف بعبد الله النديم بين يديه كوكيل نيابة أكرمه غاية الإكرام ومنحه مالاً وأوصى برعايته في السجن ثم سافر إلى القاهرة يسعى في إطلاق سراحه وكان هذا دأبه في كل ما يعرض عليه من قضايا لها طابع وطني . ولم يكن ما طالب به في "تحرير المرأة" خروجًا على الإسلام ولكن تطبيقًا للقرآن وأعمالاً للفكر والعدل وهما مما دعا إليهما القرآن .
وقيل إنه كتب كتابه هذا بتأثير من الأميرة نازلي فاضل ، وهيهات ، فأين هذا الرومانسي النبيل من تلك الأميرة النزقة ؟ إننا نحملها فوق طاقتها وننسب إليها ما لا يتسع له صدرها ، والحقيقة أن قاسم أمين كان أحد تلك المجموعة من رجالات مصر التي كان شغلها الشاغل ، وهمها الدائم هو النهضة بالبلاد وانتشالها من وهدتها ، وعمل لذلك كل بطريقته الخاصة فعمل الإمام محمد عبده في التجديد الديني وكان رائده المخلص ، وعمل سعد زغلول بالسياسة وترك إضافته المميزة ، واقتحم قاسم أمين ميدان الإصلاح الاجتماعي ، وكانوا هم الذين وضعوا أساس مصر الليبرالية ، مصر دستور 1923 الذي ظل على وجوه النقص فيه أفضل الدساتير .
أما ما تورط فيه هؤلاء الرجال من علاقات شخصية أو صلات سياسية فهو أمر لابد وأن يتعرض له كل من يعمل في المجال العام ويكون الحكم عليه في النهاية هو ما حققه بالفعل من خير ، وقد كانوا جميعًا في علاقاتهم يبتغون خير مصر وتحقيق مصلحتها بأفضل السبل ، أو على الأقل بالسبل الممكنة بالفعل . ومع أن كتاب تحرير المرأة ، وضع المرأة المصرية على عتبة المستقبل ، إلا إن المعارضة العنيفة حالت دون أن يدرس ما قدمه من قضايا دراسة موضوعية ، وتركت الأمور للتطور الأعشى خاصة وانه لم يكن لدى الذين عارضوه ما يقدمونه ، فسلكت قضية المرأة مسلك الأهواء ما بين شد وجذب ، تحرير وتقييد .
وخلال المائة عام من 1899(سنة ظهور تحرير المرأة) حتى الآن 1998م ، وقد كان التطور هو سيد الموقف في قضية المرأة ، ولما كانت مصر قد دخلت المرحلة الليبرالية فقد سارت في طريق الليبرالية بحسناتها وسوءاتها إلى النهاية فخرجت المرأة سافرة ، وظهرت في الحفلات وارتدت "المايوه" في المصايف .. الخ ، كما اقتحمت مجالات العمل حتى الوزارة ودخلت الجامعة منذ الثلاثينات .
وماذا كان دور الفقه والفقهاء ؟
لقد حكمت هذا الدور الصفقة غير المعلنة ما بين دستور 1923 والفقهاء التي كانت تقوم علي الإقرار بأن دين الدولة الرسمي هو الإسلام، وإعطاء علماء الإسلام حظاً من التوقير والاحترام والسلطات في إطار محدد، ورضي الفقهاء بهذه الصفقة التي كانت رغم المسيرة الليبرالية / العلمانية تعطيهم اعترافا وقدراً من السلطات فضلاَ عن أن دستور 23 كان يقرر حرية الفكر ، وفي ظل هذا الحرية كان يمكن لهم إعلان أفكارهم، وقد شاهدوا بأعينهم التطور الكاسح ووجدوا أنفسهم وهم يعلمون بناتهم ويدخلونهن المدارس والجامعات ليشغلن الوظائف والأعمال وما يعنيه هذا من سفور واختلاف .
وخلال هذه المائة عام حدثت مناسبتان جعلت الفقهاء يرفعون عقيرتهم ويصدرون عن رأى فقهي جماعي ، الأولى في الأربعينات والخمسينات عندما ظهرت قضية العمل السياسي للمرأة ، والثانية في السبعينات والثمانينات عندما بدأت "الصحوة الإسلامية" كما يقولون وظهرت "الجماعات الإسلامية" الشاردة ودعت إلى النقاب متجاوزة الإطار السفلي المعتدل الذي كان يلتزمه معظم الفقهاء ويمكن أن نطلق عليه "الوجه والكفين" !
المرأة والعمل السياسي :
أثيرت قضية الحقوق السياسية للمرأة في الخمسينات عندما طالب بها زكي العرابي ومحمد على علوبة وأحمد رمزي أعضاء مجلس الشيوخ ، ولم يقتصر المشروعان المقدمان من الأخيرين على المطالبة بمنح المرأة حق الانتخاب فحسب ، بل طالبا بتعديل شامل لنظامنا الانتخابي حيث يكون الانتخاب قاصرًا على الملمين بالقراءة والكتابة مع جعله إجباريًا وسريًا . ومع أن لجنة الشئون الدستورية بمجلس الشيوخ رفضت هذه الاقتراحات ، فإن مجرد تقديمها أثار المعسكران المتعارضان : معسكر أنصار المرأة ومعسكر خصومها .
ونشر العديد من الفقهاء مثل الأستاذ حلمي نور الدين عن الإخوان المسلمين ، والشيخ محمد زكي إبراهيم وعلي علي المنصوري عن العشيرة المحمدية والدكتور محمد يوسف موسى باسم جبهة علماء الأزهر ،والأستاذ حسين محمد يوسف باسم شباب سيدنا محمد وفضيلة الشيخ محمد الخضر حسين وفضيلة الشيخ حسنين محمد مخلوف ، بحوثا تفند هذه المطالبة كللت بفتوى أصدرتها لجنة الفتوى بالأزهر ووقعها رئيس اللجنة الشيخ محمد عبد الفتاح العناني . ولما كانت الفتوى تضم معظم ما جاء في الكلمات السابقة فيمكن الاجتزاء بها عن هذه الكلمات .
وفيما يلي نص هذه الفتوى :
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيد المرسلين ، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد : فقد شغل الناس في هذه الأيام بفكرة اشتراك المرأة المصرية في الانتخاب لعضوية البرلمان . وثارت حول هذه الفكرة عاصفة من الجدل ، بين أنصارها ومعارضيها وكأنه لم يكف لحسم هذا الخلاف ما كتبه بعض كبار العلماء فتقدمت بعض الجماعات الإسلامية إلى لجنة الفتوى في الأزهر تسألها بيانًا شافيًا لحكم الشريعة في هذا الشأن رجاء أن يتضح الحق ويستبين وجه الصواب .
تمهيد :
ولجنة الفتوى تقرر أولاً تمهيدًا لهذا البيان أنه ليس بدعا في محيط الجماعات أن تعرض فكرة يراها بعض الناس صالحة فيدعون إليها ، ويراها آخرون غير صالحة فيعارضونها ويصدون عنها ، بل إن طبيعة الاجتماع تقضي باختلاف الآراء وتشعب الأفكار .
غمز السلف الصالح :
ولكن البدع والشيء غير المستحسن ولا سيما في البيئات المثقفة أن يندفع أنصار الرأي أو معارضوه قصد الانتصار والغلب إلى الغمز في الشخصيات والسخرية من العقليات وما إلى ذلك مما لا وزن له في مقام تعرف الحق أو التعريف به ، بل إن ذلك أمر من شأنه أن يصرف النفوس عن متابعة صاحبه ولو كان على شئ من صواب . وأشد منه عيبًا أن تنجر الخصومة في الرأي إلى الغض من أقدار سلف العلماء والنيل من كرامتهم والطعن عليهم في طريقتهم التي سلكوها لمعرفة الصحيح وغيره من الأحاديث التي تروي عن رسول الله  كي يطمئنوا إلى صحة ما يأخذون به من ذلك في قضائهم وفتياهم ، وفي استنباطهم الأحكام من معين الإسلام .
هذه الطريقة التي يغمزها بعض من كتبوا في موضوع حق المرأة في الانتخاب معبرا سخرية وتحقيرًا بطريقة "العنعنة" هي طريقة البحث عن رواة الحديث والوقوف على صفاتهم وأحوالهم من العدالة والأمانة والضبط ومبلغ تحري العدل الأمين الثقة فيما يرويه أو يتلقاه عن عدل أمين ثقة مثله وهكذا ، وتمييز هؤلاء عن المعروفين بالكذب أو التدليس أو التهاون وعدم التثبت فيما يروون وعدم المبالاة عمن يأخذون إلى غير ذلك مما استطاع به العلماء أن يعرفوا صحيح الحديث ويميزوه من الضعيف أو المكذوب على الرسول، بل إنهم استطاعوا بهذا البحث أن يقفوا على كيفية تلقي الراوي عن شيخه ، وأنها كانت بالإملاء من محفوظة أو من كتاب بخطه أو خط أحد تلاميذه ، وأن الشيخ كان يروي الحديث لشخص واحد أو لجماعة وأنه كان يروي في حال شيخوخته وضعف ذهنه أو في حال قوته وسلامة ذاكرته إلى غير ذلك .
واستطاعوا من هذا البحث أيضًا أن يحكموا في حديث أنه ملفق من حديثين لكل منهما راو وطريق ، وأن يحكموا في كلمة من حديث إنها دخيلة فيه زادها الراوي بقصد التفسير مثلاً . هذه الطريقة من البحث في الإسناد ومعرفة حال الرواة قد بذل فيها العلماء جهودا مضنية لا يستطيعها غيرهم ، وهي لازمة ومتعينة لا سبيل غيرها في أول الأمر لمعرفة الصحيح وغيره من الأحاديث ثم يأتي بعدها النظر في النصوص المروية أنفسها مما عنى به العلماء عناية لا تقل عن عنايتهم بتحقيق الإسناد دون تقصير في ذلك كما يدعى بعض الناس . وإذاً لا ينبغي أن يعاب على العلماء السابقين تحريهم ودقة بحثهم عن رواة الأحاديث لمعرفة من هو جدير بقبول روايته ومن لا يطمئن إليه ومعرفة ما يؤخذ به من الأحاديث التي صح إسنادها وما لا يؤخذ به منها لمعارضته ما هو أقوى منه أو لمخالفته أمرًا مقطوعًا به . ذلك منهج قد حفظت به الشريعة ، واعترف بقيمته أرباب النظريات الحديثة لما له من الميزات في حفظ المأثور وتنقيته من الشوائب .
لا ينبغي الإيمان ببعض الكتاب والكفر ببعضه :
كذلك لا ينبغي أن يعاب على من يستدل في أمر من الأمور بنص من الكتاب الكريم ، أو الأحاديث الصحيحة متى كان المعنى واضحًا ، وكان النص صريحًا فيه كالاستدلال بقوله تعالى : "وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى" ، على وجوب أن تلتزم المرأة كل ما يحفظ عليها شرفها وكرامتها ، وينأى بها من مواطن فتنتها أو الافتتان بها . لا ينبغي أن يعاب عليه في ذلك ثم يقال له : نحن في القرن العشرين وأنت بهذا الاستدلال تريد أن ترجع بنساء الأمة إلى عهود الظلمات .
إن العيب عليه حينئذ بذلك ليس في الحقيقة إلا عيبًا على النص ذاته وما يحمل من المعنى الواضح . وهنا ينبغي أن نقولها كلمة صريحة قاطعة : فإما إيمان بالنصوص التي هي أساس الدين والشريعة وقبول لأحكامها ، وإما غير ذلك ، أما أن يؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعض فهذا شيء قد حكم على أهله القرآن الكريم .
أصول الإسلام ثابتة :
هذا : ومما ينبغي التنبيه عليه أن بعض الكاتبين قد اعتمد في سبيل الانتصار لدعوى حق المرأة في الانتخاب على أن أمة أخرى أو أهل إقليم آخر قد سبقوا إلى الاعتراف بهذا الحق والأخذ به وأنه ليس من الكرامة للوطن ولا للأمة المصرية أن تتخلف عن هؤلاء فلا نعترف بهذا الحق ولا سيما في القرن العشرين .
وتود اللجنة أن تلفت الأنظار إلى أن الإسلام في تشريعاته إنما يبني أحكامه على أصول ثابتة ويستنبط قوانينه من مصادر معينة ولا يجارى ما يضعه الناس ولا ما يجرى به عرف أمة إلا أن يكون شيئًا تقره تلك المصادر والأصول ، أو على الأقل لا يخالفها ولا يهدم ركنًا من أركانها ، فليس مما يشرف أمة إسلامية كأمتنا ينص دستورها على أن دينها هو الإسلام أن تترك نصوص الإسلام ومصادره التشريعية وتجارى غيرها في تشريعها لمجرد التقليد والمحاكاة دون أن تزن ذلك بميزان الشريعة التي تؤمن بها والتي فيها الوفاء بالمصالح والوقاية من المضار .
ومصادر شريعتنا هي الكتاب العزيز والسنة الصحيحة ، وما يرجع إليهما من الأدلة التي أرشدا إليها وأفادا اعتبارها والاعتداد بها . وهذه المصادر والأدلة بما اشتملت عليه من المبادئ العامة والقواعد الكلية لا تضعف عن النظر فيما يجد في الحياة من مشاكل ، ولا تأبي الأخذ بما فيه مصلحة إلا أن تكون مصلحة براقة تلوح لبعض الأنظار من بعض النواحي على حين تلازمها مفسدة مثلها أو أعظم منها . فمثل هذه المصلحة تلغيها الشريعة ، ولا تأبه لها .
الموضوع :
ولجنة الفتوى تتوخى جهدها هذه الأصول والمبادئ في بحث ما يعرض لها من المسائل وتسير على هذا المنهج في بحث المسألة الحاضرة : مسألة حق المرأة في الانتخاب ، وهي تقرر أن هذه المسألة ذات شقين :
الأول : أن تكون المرأة عضوا في البرلمان .
الثاني : أن تشترك في انتخاب من يكون عضوا فيه .
ولمعرفة الحكم في هذين الأمرين اللذين يتضمن أولهما نوعًا من ولاية التصرف في شئون عامة ، يلزم بيان أن الولاية نوعان : ولاية عامة وولاية خاصة .
فالولاية العامة : هي السلطة الملزمة في شأن من شئون الجماعة ، كولاية سن القوانين والفصل في الخصومات ، وتنفيذ الأحكام .
والولاية الخاصة : هي السلطة التي يملك بها صاحبها التصرف في شأن من الشئون الخاصة بغيره كالوصاية على الصغار ، والولاية على المال ، والنظارة على الأوقاف .
وقد فسحت الشريعة للمرأة في هذا النوع الثاني من الولاية فهي تملك منها ما يملكه الرجل كما تملك التصرف في شئون نفسها الخاصة بها . فلها حق التصرف في أموالها بالبيع والهبة والرهن والإجارة وغيرها من التصرفات ، وليس لزوجها ولا لأحد من أهلها حق معها في ذلك ملكتها الشريعة ذلك كله مع إرشادها إلى ما يحفظ كرامتها وحياطتها بما فيه ضمان شرفها ومكانتها .
الحكم في الولاية العامة :
إما الولاية العامة ومن أهمها مهمة عضو البرلمان وهي ولاية سن القوانين والهيمنة على تنفيذها فقد قصرتها الشريعة الإسلامية على الرجال إذا توافرت فيهم شروط معينة .
وقد جرى التطبيق العملي على هذا من فجر الإسلام إلى الآن . فإنه لم يثبت أن شيئا من هذه الولايات العامة قد أسند إلى المرأة ، لا مستقلة ولامع غيرها من الرجال وقد كان في نساء الصدر الأول مثقفات فضليات ، وفيهن من تفضل كثيرًا من الرجال كأمهات المؤمنين ، ومع أن الدواعي لاشتراك النساء مع الرجال في الشئون العامة كانت متوافرة ، لم تطلب المرأة أن تشترك في شيء من تلك الولايات ولم يطلب منها الاشتراك ، ولو كان لذلك مسوغ من كتاب أو سُنة لما أهملت مراعاته من جانب الرجال والنساء باطراد .
وهذه قصة سقيفة بني ساعدة في اختيار الخليفة الأول بعد الرسول قد بلغ فيها الخلاف أشده ثم استقر الأمر لأبي بكر وبويع بعد ذلك البيعة العامة في المسجد ولم تشترك امرأة مع الرجال في مداولة الرأي في السقيفة ولم تدع لذلك ، كما أنها لم تدع ولم تشترك في تلك البيعة العامة . وكم من اجتماعات شورية من النبي وأصحابه ، ومن الخلفاء وإخوانهم في شئون عامة لم تدع إليها المرأة ولم تشترك فيها .
الدليل الشرعي :
أما الدليل الشرعي على هذا المنع فهو ما رواه البخاري في صحيحه وأخرجه أحمد في مسنده والنسائي في سننه والترمذي في جامعه قال البخاري : حدثنا عثمان بن الهيثم قال حدثنا عوف عن الحسن البصري عن أبي بكرة قال : "لقد نفعني الله بكلمة أيام الجمل" لما بلغ النبي أن فارس ملكوا ابنة كسري قال : "لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة" . وظاهر أن الرسول لا يقصد بهذا الحديث مجرد الإخبار عن عدم فلاح القوم الذين يولون المرأة أمرهم لأن وظيفته عليه الصلاة والسلام بيان ما يجوز لأمته أن تفعله حتى تصل إلى الخير والفلاح ، وما لا يجوز لها أن تفعله حتى تسلم من الشر والخسارة ، وإنما يقصد نهي أمته عن مجاراة الفرس في إسناد شئ من الأمور العامة إلى المرأة ، وقد ساق ذلك بأسلوب من شأنه أن يبعث القوم الحريصين على فلاحهم وانتظام شملهم على الامتثال . وهو أسلوب القطع بأن عدم الفلاح ملازم لتولية المرأة أمرًا من أمورهم .
ولا شك أن النهي المستفاد من الحديث يمنع كل امرأة في أي عصر من العصور أن تتولى أي شئ من الولايات العامة وهذا العموم تفيده صيغة الحديث وأسلوبه كما يفيده المعنى الذي من أجله كان هذا المنع . وهذا هو ما فهمه أصحاب الرسول وجميع أئمة السلف . لم يستثنوا من ذلك امرأة ولا قومًا ولا شأناً من الشئون العامة ، فهم جميعًا يستدلون بهذا الحديث على حرمة تولى المرأة الإمامة الكبرى والقضاء وقيادة الجيوش وما إليها من سائر الولايات العامة .
هذا الحكم المستفاد من الحديث وهو منع المرأة من الولايات العامة ليس حكما تعبديا يقصد مجرد امتثاله دون أن تعلم حكمته وإنما هو من الأحكام المعللة بمعان واعتبارات لا يجهلها الواقفون على الفروق الطبيعية بين نوعى الإنسان : "الرجل والمرأة" .
الأنوثة وحدها هي العلة :
ذلك أن هذا الحكم لم ينط بشيء وراء"الأنوثة" التي جاءت كلمة "امرأة" في الحديث عنوانا لها ، وإذا فالأنوثة وحدها هي العلة فيه . وواضح أن الأنوثة ليس مقتضاها الطبيعي عدم العلم والمعرفة ولا عدم الذكاء والفطنة حتى يكون شئ من ذلك هو العلة لأن الواقع يدل على أن للمرأة علمًا وقدرة على أن تعلم كالرجل وعلى أن لها ذكاء وفطنة كالرجل ، بل قد تفوق الرجل في العلم والذكاء والفهم ، فلا بد أن يكون الموجب لهذا الحكم شيئًا وراء ذلك كله .
إن المرأة بمقتضى الخلق والتكوين مطبوعة على غرائز تناسب المهمة التي خلقت لأجلها ، وهي مهمة الأمومة وحضانة النشء وتربيته ، وهذه قد جعلتها ذات تأثر خاص بدواعي العاطفة وهي مع هذا تعرض لها عوارض تتكرر عليها في الأشهر والأعوام من شأنها أن تضعف قوتها المعنوية وتوهن من عزيمتها في تكوين الرأي والتمسك به والقدرة على الكفاح والمقاومة في سبيله وهذا شأن لا تنكره المرأة من نفسها .
ولا تعوزنا الأمثلة الواقعية التي تدل على أن شدة الانفعال والميل مع العاطفة من خصائص المرأة في جميع أطوارها وعصورها . فقد دفعت هذه الغرائز المرأة في أسمي بيئة نسوية إلى تغليب العاطفة على مقتضى العقل والحكمة .
وآيات من سورة الأحزاب : تشير إلى ما كان من نساء النبي وتطلعهن إلى زينة الدنيا ومتعتها ومطالبتهن الرسول أن يغدق عليهن مما أفاء الله به عليه من الغنائم حتى يعشن كما تعيش زوجات الملوك ورؤساء الأمم . لكن القرآن قد ردهن إلى مقتضى العقل والحكمة في ذلك "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً * وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً" .
وآية أخرى من سورة التحريم تحدث عن غيرة بعض نسائه عليه الصلاة والسلام وما كان لها من الأثر في تغليبهن العاطفة على العقل ، مما جعلهن يدبرن ما يتظاهرن به على الرسول ، وقد ردهن القرآن إلى الجادة "إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ" .
هذه هي المرأة في أسمى البيئات النسوية لم تسلم من التأثر الشديد بدواعي العاطفة ولم تنهض قوتها المعنوية على مغالبة نوازع الغيرة مع كمال إيمانها ونشأتها في بيت النبوة والوحي ، فكيف بامرأة غيرها لم تؤمن إيمانها ولم تنشأ نشأتها وليس لها ما تطمع به أن تبلغ شأوها أو تقارب منزلتها ؟ ! فالحق أن المرأة بأنوثتها عرضه للانحراف عن مقتضى الحكمة والاعتدال في الحكم ، وهذا هو ما عبر عنه الرسول بنقصان العقل ورتب عليه كما جاء في القرآن الكريم أن شهادة المرأة على النصف من شهادة الرجل .
تفريق في الأحكام بين الرجل والمرأة :
وقد بنت الشريعة على هذا الفرق الطبيعي بين الرجل والمرأة التفريق بينهما في كثير من الأحكام :
جعلت القوامة على النساء للرجل "الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ" ، وجعلت حق طلاق المرأة للرجل دونها ومنعتها السفر دون محرم أو زوج أو رفقة مأمونة ولو كان سفرها لأداء فريضة الحج ، وجعلت لها حق الحضانة للصغار دون الرجل ، وأوجبت على الرجل حضور الجمعة والجماعات والجهاد ، ولم توجب عليها شيئًا من ذلك .
وإذا كان الفرق الطبيعي بين الرجل والمرأة قد أدى في نظر الشريعة إلى التفرقة بينهما في هذه الأحكام التي لا تتعلق بالشئون العامة للأمة فإن التفرقة بينهما بمقتضاه في الولايات العامة التي يجب أن تكون بمنأى من مظان التأثير بدواعي العاطفة تكون في نظر الحكمة أحق وأوجب .
ومن هنا تقرر لجنة الفتوى ، أن الشريعة الإسلامية تمنع المرأة كما جاء في الحديث الشريف أن تلي شيئًا من هذه الولايات ، وفي مقدمتها ولاية سن القوانين التي هي مهمة أعضاء البرلمان . هذا .. وليس من الولايات العامة التي تمنع منها المرأة ما يعهد به إلى بعض النساء من الوظائف والأعمال كالتدريس للبنات وعمل الطبيبة والممرضة في علاج المرضى من النساء وتمريضهن ، فإن هذه الأعمال وما شابهها ليس فيها معنى الولاية العامة ، الذي هو سلطان الحكم وقوة الإلزام .
موقف السيدة عائشة :
استند دعاة حق المرأة في الانتخاب إلى بعض وقائع حسبوها من الولاية العامة التي تولتها المرأة ، على حين أنها ليست من هذه الولاية في شيء . فقد قالوا إن السيدة عائشة رضي الله عنها تولت قيادة الجيش في واقعة الجمل لمقاتلة حزب علي رضي الله عنه . وإيراد هذه الواقعة على هذا الوجه ليس فيه إنصاف للحقيقة والتاريخ . فإن السيدة عائشة لم تخرج محاربة ولا قائدة لجيش محارب ، وإنما خرجت داعية للمطالبة بدم عثمان رضي الله عنه ، وقد دفعها إلى ذلك أنها كانت ساخطة كغيرها من أهل عثمان وأشياعهم على خطة التريث والتمهل وعدم المبادرة بالبحث قبل كل شيء عن قتله عثمان والاقتصاص منهم ، وهذا أمر ليس من والولاية العامة في شيء كما قلنا .
على أن صنيع السيدة عائشة هذا ليس فيه دليل شرعي يصح الاستناد إليه ، فإنه كان اجتهاد منها ، وكانت مخطئة فيه ، وقد أنكر عليها بعض الصحابة هذا الخروج فاعترفت بخطئها وندمت على خروجها .
وفي ذلك يروي الحافظ ابن حجر في شرح صحيح البخاري يقول : أخرج عمر بن شبة من طريق مبارك بن فضالة عن الحسن أن عائشة أرسلت إلى أبي بكرة تدعوه إلى الخروج معها فقال : إنك لأم وإن حقك لعظيم . ولكن سمعت رسول الله  يقول : "لن يفلح قوم تملكهم امرأة" ولم يخرج معها أبو بكرة . وورد كذلك من طريق قيس بن أبي عاصي قال : لما أقبلت عائشة فنزلت ببعض مياه بني عامر نبحت عليها الكلاب فقالت : أي ماء هذا ؟ فقالوا الحوأب ، فقالت : ما أظنني إلا راجعة ، فقال لها بعض من كان معها : بل تقدمين فيراك المسلمون فيصلح الله ذات بينهم ، فقالت : إن النبي  قال لنا ذات يوم : "كيف بإحداكن تنبح عليها كلاب الحوأب؟ "وأخرج هذا أحمد وأبو يعلي والبزار والحاكم وصححه ابن حبان وسنده ، على شرط الصحيح .
وورد من طريق عصام بن قدامة عن عكرمة عن ابن عباس أن رسول الله قال لنسائه : "أيتكن صاحبة الجمل الأديب(1) تخرج حتى تنبحها كلاب الحوأب يقتل عن يمينها وعن شمالها قتلي كثيرة وتنجو بعد ما كادت" .وأخرج أحمد والبزار بسند حسن من حديث أبي رافع أن رسول الله قال لعلي بن أبي طالب : "إنه سيكون بينك وبين عائشة أمر ، قال فأنا أشقاهم يا رسول الله ، قال : لا ، ولكن إذا كان ذلك فارددها إلى مأمنها" .
ومن هذه الأحاديث المتعددة الطرق يتضح لمن اشتبه عليهم الأمر أن موقف السيدة عائشة رضي الله عنها في واقعة الجمل كان عن اجتهاد منها لم يقرها عليه كثير من الصحابة ، وأنها تذكرت ما أنبأ به النبي فندمت على خروجها واعترفت بخطئها .
وقد روي الطبراني بسند صحيح عن أبي يزيد المديني قال ، قال عمار بن ياسر لعائشة لما فرغوا من الجمل : ما أبعد هذا المسير من العهد الذي عهد إليكن يشير إلى قوله تعالي : "وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ" ، فقالت : أبو اليقظان؟ قال : نعم ، قالت : والله إنك ما علمت لقوال بالحق ، قال : "الحمد لله الذي قضي لي على لسانك" ، فهي تعترف بخطئها وتقر عمارًا على إنكاره لصنيعها وتوافقه على أن الخروج لمثل ذلك الشأن لا يجوز للنساء .
ويجدر أن نسوق هنا ما رواه أبو يعلى والبزار عن أنس قال : "أتت النساء رسول الله فقلن : يا رسول الله ذهب الرجال بالفضل بالجهاد في سبيل الله فما لنا عمل ندرك به عمل الجهاد في سبيل الله ؟ " فقال : "مهنة إحداكن في بيتها تدرك عمل المجاهدين في سبيل الله" .
هذا إلى ما قدمناه من أن خروج السيدة عائشة في هذه الواقعة ليس من الولاية العامة ، فلا يتصل بموضوع اليوم في شئ .
بيعة النساء للرسول :
وأبعد من ذلك عن الموضوع ما يستدل به أنصار حق المرأة في الانتخاب من أن الرسول بايع النساء كما بايع الرجال .
ومبايعة النساء هذه ، هي التي جاء بها القرآن الكريم في قوله تعالى في سورة الممتحنة : "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ" .
هذه المبايعة التي يستدل بها أنصار حق المرأة في الانتخاب وهي عهد من الله ورسوله قد أخذ على النساء ألا يخالفن أحكام الله وأن يتجنبن تلك الموبقات المهلكات التي كان أمرها شائعًا فاشيًا في العرب قبل الإسلام .
فأي شيء في هذا يصلح مستندًا لأنصار هذا الرأي ؟
إنه لم يدع أحد أن المرأة ممنوعة من تلقي دروس العلم والمعرفة أو من حضور مجالس العلم محتشمة لسماع تعاليم الدين والوعظ والإرشاد ، بل إن الإسلام يحتم عليها أن تتعلم وتتثقف وتتأدب بآداب الدين الصحيحة كما يحتم ذلك على الرجل ، فهذا حق لها وواجب عليها ، حق لها على الأمة أن تمكنها من أن تتعلم كل ما يصلح لها في دينها ودنياها ، وواجب عليها أن تبذل جهدها في سبيل هذه المعرفة ، ولا عيب عليها أن تسأل في ذلك عما تجهل وأن تناقش فيما لا تقتنع به مما تسمع ومما هي في حاجة إليه من العلوم والمعارف ، ولها في ذلك أسوة ببعض نساء السلف إذ اعترضت إحداهن على عمر وقد كان يخطب الناس في المسجد ينهاهم عن المغالاة في المهور فقالت : "أيعطينا الله ويمنعنا عمر ؟" ، تشير إلى قوله تعالى : "وَإِنْ أَرَدْتُمْ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً" .
وفي هذا يروي ابن يعلى عن مسروق أن عمر لما راجعته تلك المرأة بعدما نزل من المنبر قال : كل الناس أفقه من عمر ، ثم صعد المنبر فقال : كنت نهيتكم أن تزيدوا على أربعمائة ، فمن طابت نفسه فليفعل . كل هذا لائق بالمرأة وهو كما قلنا حق لها وواجب عليها لكنه لا نسبة له بما تطالب به اليوم من الولاية العامة وما تدعيه من حق الاشتراك في الانتخابات .
وفي رأينا أن مبايعة النساء للرسول إن دلت على شئ يصح التمسك به في المسألة الحاضرة فذلك هو التفرقة في الأعمال بين ما ينبغي أن يكون للنساء وما يكون للرجال ، فهي حجة على أنصار دعوى المساواة في كل شئ بين الرجل والمرأة وليست دليلاً لهم ، ذلك أن مبايعة النساء هذه كانت عقيب فراغ النبي من مبايعة الرجال عند الصفا يوم فتح مكة ، فقد بايع هؤلاء الرجال أولاً ولكن على ماذا ؟ على الإسلام والجهاد ، فإن هذا هو الأمر الذي يليق بهم وينتظر منهم كما بايعهم قبل ذلك في الحديبية سنة ست من الهجرة على ألا يفروا من الموت ، وكما بايع نقباء الأنصار في منى قبل الهجرة على السمع والطاعة والنصرة وأن يمنعوه مما يمنعون منه نساءهم وأبناءهم .
أما مبايعة النساء فكانت على ما قدمنا مما وردت به الآية الكريمة من سورة الممتحنة ، ولله الحكمة البالغة "لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا" .
إذاً لا شئ مما يستدل به دعاة حق المرأة في الانتخابات يصح أن يكون دليلاً لهم ، ولا شئ منه يمكن أن يكون من الولاية العامة .
أما الذي هو من الولايات العامة فهو تولى شجرة الدر ملك مصر ، لكنا لا نظن أحدًا من أهل الجد في القول يلجأ إلى هذا الأمر فيجعل منه دليلاً شرعيًا على أن الإسلام يجيز في الملك أن تتولاه امرأة . هذا ما رأته اللجنة في حكم أحد المرين وهو الخاص بانتخاب المرأة لتكون عضوا في البرلمان .
اشتراك المرأة في الانتخاب :
أما الأمر الثاني : وهو اشتراكها في انتخاب من يكون عضوًا فيه فاللجنة ترى أنه باب تريد المرأة أن تنفذ منه إلى تلك الولاية العامة التي حظرتها عليها الشريعة .
ذلك أن من يثبت له حق الاشتراك في الانتخاب فإنه يثبت له حق ترشيح نفسه لعضوية البرلمان متى توافرت فيه الشروط القانونية لهذه العضوية . وبعيد أن ينشأ للمرأة قانون يبيح لها الاشتراك في التصويت ثم يمنعها لأنوثتها من ترشيح نفسها للعضوية وهي التي لا تقتنع بأن الأنوثة تمنعها من شئ ولا ترضى إلا بأن تكون مساوية للرجل في كل شيء .
وإذا لا يصح أن يفتح لها باب التصويت عملاً بالمبدأ المقرر في الشريعة والقانون : أن وسيلة الشيء تأخذ حكمه . فالشيء الممنوع بسبب ما يلازمه أو يترتب عليه من ضرر أو مفسدة تكون الوسيلة إليه ممنوعة لهذا السبب نفسه ، فإنه لا يسوغ في عقل ولا شرع أن يمنع شيء لما يترتب عليه أو يلازمه من مضار ويسمح في الوقت نفسه بالوسائل التي يعلم أنها تتخذ طريقًا إليه .
وبهذا يتبين أن حكم الشريعة في اشتراك المرأة في انتخاب عضو البرلمان هو كحكمها في اختيارها لتكون عضوًا فيه ، كلاهما ممنوع . هذا ويتبين للقارئ مما قدمنا أن الحكم في المسألة بشقيها على هذا الوجه لم ينظر إلى شئ آخر وراء طبيعة هذين الأمرين .
أما إذا نظرنا إلى ما يلازم عملية الانتخاب المعروفة والترشيح لعضوية البرلمان من مبدأ التفكير فيه إلى نهايته ، فإنا نجد سلسلة من الاجتماعات والاختلاطات والأسفار للدعاية والمقابلات وما إلى ذلك مما تتعرض المرأة فيه لأنواع من الشر والأذى ، ويتعرض لها فيه أرباب القلوب المريضة الذين ترتاح أهواؤهم وتطمئن أنفسهم لمثل هذا الاختلاط بين الرجال والنساء .
فهذه مواقف لا ينبغي للمرأة أن تزج بنفسها في معتركها غير المأمون ، ويجب عليها أن تنأى بنفسها عنها حفظًا لكرامتها وصونا لسمعتها ، وهذا واقع لا ينبغي إغفاله أو التغافل عنه ، ويجب تقدير الأمور وتقرير الأحكام على أساسه ، وقد تكفي هذه الإشارة في التنبيه إلى مضار الاختلاط في اجتماعات الرجال بالنساء . وآيات من الكتاب العزيز ترسم لنا الطرق الصالحة في التربية الاجتماعية والتهذيب الخلقي والأدب الديني الصحيح فعلينا أن نعتبر بها ونقيس بتعاليهما ما هو واقع في اجتماعاتنا لنعرف مدي قربنا أو بعدنا من هذه التعاليم :
•"يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً" .
•"قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوْ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنْ الرِّجَالِ أَوْ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ" .
رمضان سنة 1371ه رئيس لجنة الفتوى
يونيو سنة 1952م محمد عبد الفتاح العناني
مؤتمر الهيئات الإسلامية :
وفي مساء يوم 12/6/1952(1) عقدت الهيئات الإسلامية المختلفة مؤتمرًا بالمركز العام لجماعة الإخوان المسلمين وذلك لإعلان "موقف هذه الهيئات من قضية الحقوق السياسية المزعومة للمرأة" كما يدعون ، وهذا نص قرارات هذا المؤتمر كما نشرتها الجرائد صباح اليوم التالي :
قرارات المؤتمر
وفيما يلي ما وافق عليه من قرارات :
الاتحاد العام للهيئات الإسلامية بعد ما قدمه من بحوث وما أصدرته الجهات الدينية من فتاوى بشأن المطالب السياسية للمرأة يقرر ما يأتي :
أولاً : مطالبة الجهات المسئولة بالعمل على إغلاق باب هذه الفتنة نهائيًا ، وعدم إثارتها بعد الآن ، خاصة بعد أن اتضح تعارضها مع دين الدولة ودستورها ومصلحتها العامة .
ثانيًا : تنبيه الحكومات الإسلامية التي منحت النساء الحقوق السياسية إلى ما في ذلك من المخالفة الصارخة لكتاب الله وسنة رسوله ومناشدتها التزام حكم الإسلام الذي لا خير إلا في اتباعه .
ثالثًا : المطالبة بقصر نشاط الجماعات النسائية على ما يتفق مع طبيعتها وما حدده لها الإسلام الحنيف .
رابعًا : شكر الحكومة على موقفها من هذه الفتنة الخطيرة ، وحرصها على التزام حكم الإسلام فيها .
خامسًا : شكر فضيلة مفتي الديار المصرية الشيخ حسنين محمد مخلوف وأصحاب الفضيلة أعضاء لجنة الفتوى بالأزهر وفضيلة شيخ معهد دمياط لموقفهم المشرف من هذه الحركات الهدامة وإعلائهم حكم الله ورسوله فيها .
سادسًا : مناشدة الصحف والمجلات العمل على وقاية الأمة من هذه الحركات الدخيلة ، التي تصرفها عن جهادها الحقيقي وتفكك مجتمعها ، وتوهن قوتها .
سابعًا : المطالبة بقصر التحاق الفتيات بالجامعة على كلية الطب ومعاهد التربية مع الحرص على فصل الجنسين في مختلف مراحل التعليم .
ثامنًا : المطالبة بتخصيص زي للطالبات والمدرسات ونحوهن يتفق مع الحشمة والوقار ويبتعد عن الفتنة والاستعمار .
تاسعًا : المطالبة بالعناية بالتعليم الديني وجعله مادة أساسية يترتب عليها النجاح أو الرسوب والتوسع فيه في مدارس البنات بصفة خاصة وقصر التدريس بهذه المدارس على السيدات ، فإذا لم يتيسر ذلك يختار من الرجال من تؤهله سنه وخلقه وسيرته لذلك .
عاشرًا : مطالبة الحكومة بإغلاق دور اللهو والمراقص والكباريهات ومراقبة الإذاعة والصحف الخليعة صيانة للأخلاق والأعراض درءًا للمفاسد والمهالك" .. انتهى .
وأصدرت مجلة النذير "لسان حال شباب سيدنا محمد" التي عرفت بتزمتها الشديد في قضية المرأة عددًا خاصًا [العدد 161 ، 162] 21 جمادى الثانية سنة 1366 ضمنته عددًا من البحوث مثل اشتغال النساء بالسياسة والأعمال العامة خطر على الأمة ، وعدم كفاية النساء للقيام بأعمال الرجال باختلاف أنواعها ، وعقلاء الغربيين ينادون بعودة النساء إلى البيوت ، واشتغال النساء بالسياسة والأعمال العامة يتعارض مع الإسلام وأثر الحجاب في تطور المجتمع الإسلامي ، والمرأة والسياسة العامة وخاتمة هذه البحوث "الأصول التشريعية" تجمع على منع المرأة من الاشتغال بالأعمال العامة .
وفي حقيقة الحال فإن شباب سيدنا محمد لم تقف عند هذا فقد قام كثير من أعضائها باتصالات لتعزيز موقفهم ، وجعل الأستاذ محمد عطية خميس الرسالة الأولى من رسائل الأسرة المسلمة عن "مؤامرات ضد الأسرة المسلمة" " والحركات النسائية وصلتها بالاستعمار" . وترجع أهمية هذه الهيئة إلى أنها كانت في الخمسينات ، وقبل أن يذر قرن الجماعات الإسلامية ، هي الأولى التي ادعت أنها "حزب الله" وجعلت شعارها "وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ" ، وثمة خيط دقيق ينزل منها ليصل إلى الجماعات الإسلامية في السبعينات والثمانينات .
ولكي يأخذ القارئ فكرة عن مدى حماسة ، أو هوس هذه الهيئة بقضية المرأة نقول إن كل كتاب الأستاذ محمد عطية خميس "مؤامرت ضد الأسرة المسلمة" يدور حول مؤامرة نسجها الاستعمار لحرمان المرأة المسلمة من رمز فخرها وعفتها وقوتها "الحجاب" وأن هذه المؤامرة اشترك فيها جمال الأفغاني ومحمد عبده وسعد زغلول وقاسم أمين وغيرهم . أما ذنب جمال الأفغاني فإنه قال "وعندي أنه لا مانع من السفور إذا لم يتخذ مطية للفجور" ويعلق الكاتب أن الحجاب فرض لتطهير قلوب أطهر نساء الأرض نساء الرسول وأطهر رجال العالمين الصحابة "فكيف ومتى لا يكون السفور مطية للفجور .. ؟" ( ص 64) .
ويعلق المؤلف الأهمية الكبرى على علاقة جمال الأفغاني بالأميرة نازلي فاضل ..
"إذن نخرج من كل هذا بأنه كان لجمال الدين يد في الدعوة إلى السفور فكان يختلط فعلاً بالبرنسيسة الوحيدة التي كانت تقابل الرجال وتجالسهم ، وكان يصفها بأنها تمثال الجمال ، وكان يسعى للحصول لها على وسام الشفقة ، هذا فوق أنه كان يرى صراحة أن لا مانع من السفور ، وأن عقل المرأة ليس نصف عقل الرجل ، ومع ملاحظة ظاهرة عجيبة ، وهي أن جميع أبطال مؤامرة السفور والاختلاط كانوا من تلاميذه ! ؟" (ص 66) .
ووضح هذا بتركيز مرة أخرى على علاقة الإمام محمد عبده بالأميرة نازلي وأن الأميرة غضبت على قاسم أمين لأنه عندما رد على الكونت داركور الذي أساء فيه إلى الإسلام امتدح تقاليد المرأة الإسلامية ووشا واش به لدى الأميرة أنه يقصدها لأنها هي المصرية الوحيدة التي تقابل الرجال وتجالسهم في ناديها ، وكان نتيجة هذه الغضبة أن أصدر قاسم أمين كتابه تحرير المرأة ترضية لها .
ويقول المؤلف :
"وهكذا باع محمد عبده دينه في سبيل امرأة ، بل في سبيل مصلحته الخاصة ، فقام يعلن الحرب على آداب الإسلام ، ويستتر وراء قاسم أمين ، ويتأول الفقه لتبرير موقفه ، بدلا من أن يوضحه .. فقدم فقهًا مزيفًا ، إن نازلي فاضل امرأة مريبة ، فالشخص الذي يقف بجوار المستعمر ، ويجهر بخصومته لولى الأمر الوطني ، شخص مأجور ، وما يصدر عنه من عمل مريب إنما يصدر بعد اتفاق وترتيب مع أعداء الوطن ، وإن الشخص الذي يثق في إيمان وإخلاص وطهارة امرأة خرجت عن طاعة ربها ، ووقفت بجوار عدو دينها ووطنها ، شخص غبي ساذج أحمق .
وعلى هذا الأساس ، أستطيع أن أقرر أن نازلي فاضل لم تجهر بتفرنجها إلا بناء على توجيه الاستعمار ، ولم تجمع حولها رجالاً وجهتهم ضد ولي الأمر الشرعي للبلاد إلا بناء على توجيه المستعمر ، ولم تدفع هؤلاء الرجال إلى الدعوة للسفور والاختلاط والإباحية والفجور ، إلا بناء على توجيه المستعمر أيضًا (ص67) . وتحت عنوان "محمد عبده يهدم الأسرة المسلمة" لاحظ المؤلف .
"أن جميع دعاة هدم الأسرة المسلمة ، يستندون في دعواتهم إلى أقوال الشيخ محمد عبده ، تتحدث درية شفيق وغيرها عن أن الإسلام يبيح السفور والاختلاط ، وتستند في دعواها إلى محمد عبده ، ويفتى علام نصار بأن الإسلام لا ينظر بعين الرضا إلى تعدد الزوجات ، ويستند في قوله إلى رأي محمد عبده ، وينادى بعض الجهلاء إلى تقييد الطلاق وتعدد الزوجات ، ويدعمون هذا الجهل بآراء محمد عبده التي ترجمها عنه قاسم أمين في كتابي تحرير المرأة والمرأة الجديدة !! .
وإذن فيجب أن يعرف القارئ الدور الذي لعبه هذا الإمام الكرومرى في إحلال هذه النكبة الكبرى بالأقطار الإسلامية" (ص73) . نقول إن محمد عبده لم يتصل باللورد كرومر حبًا في زرقة عينيّ اللورد كرومر ، ولا تجاوبا مع السياسة البريطانية ، ولكنه وهو أحد أبطال ثورة عرابي وجد أن الأمير الشرعي للبلاد الذي صاغ له المؤلف قلائد المدح رجل شره ، شرير ، يطمع في أموال الدولة والأوقاف ولا يجد مانعًا من ممالأة الإنجليز بمجرد أن يستجيبوا لمطالبه ، وعندئذ يتنكر للحركة الوطنية ولمصطفى كامل ، فإذا وضعنا في تقديرنا أن الرجل الحصيف هو الذي يستهدف بعمله السياسي واتصالاته مصلحة الجماهير وتحقيق العدالة دون أن تضلله التعصبات ، فإن موقف محمد عبده تبرره الأوضاع وتشفع له الغايات ، ولا يمس في شئ مكانة الرجل وعفته ودوره العظيم في الإصلاح الاجتماعي والتجديد الديني .
وتحت العنوان الفرعي "داعية الإباحية والفجور" شن المؤلف حملة شعواء على قاسم أمين لأنه قال :
"والحق أننا غالينا في اعتبار صفة العفة في النساء ، وفي الحرص عليها وفي ابتداع الوسائل لحفظ ما ظهر منها ، حتى جعلنا كل شئ فداءها وطلبنا أن يتضاءل ويضمحل كل خلق وكل حكمة دونها ، ولكن العفة لا تغني شيئًا عن بقية الصفات من كمال العقل وحسن التدبير والخبرة بتربية الأولاد وحفظ نظام المعيشة في البيت ، بل نقول : إن فقدان المرأة لخصلة من هذه الخصال ، لا ينقص في ضرره ، وفي الحط من شأنها عن فقدان العفة نفسها (ص77) .
وانتقل الكاتب إلى سعد زغلول الذي ارتكب الموبقة الكبرى ألا وهي نزع الحجاب" واستشهد بما كتبته إحدى داعيات تحرير المرأة عندما دخل إلى سرادق السيدات بعد عودته من المنفي ، فيأبي البقاء فيه إلا إذا أسفرت السيدات المجتمعات لاستقباله ، وسبقت يده لسانه فيما أراد ، فمد يده ضاحكًا ورفع الحجاب عن أقرب السيدات إليه ، فكان ضحك وكان تصفيق وكان تهليل ، وأسفرت الحاضرات بعد ذلك التحجب ، فكان ذلك اليوم عنوان تحرير المرأة (ص85) .
واستدار الكاتب على الشيخ المراغي لأنه تقدم بمشروع قانون لتقييد حق الطلاق وتعدد الزوجات سنة 29 "بعد أن أتي به اللورد لويد شيخًا للأزهر !" .
وأخيرًا ، وتحت عنوان "مخلوق يتحدى العرف العام" ، صب المؤلف جام غضبه على أحمد لطفي السيد الذي أقدم على ما لم يقدم عليه غيره من خلق الله ، أقدم على قبول الفتيات طالبات في الجامعة المصرية يجلسن بجانب الفتيان في الدروس والمحاضرات ويختلطن بهم في أفنية الجامعة ومكاتبها (ص96) !! .
وقد يجوز لي أن أضيف ملاحظة خاصة حول الفقرة السابقة إن تصور الكاتب أن مدير الجامعة قد أقدم على "ما لم يقدم عليه غيره من خلق الله" لأنه أجلس الطالبات جنب الطلبة يبدو أنه لا يزال يعيش بهذه الحرارة في أذهان كثير إن لم يكن معظم الهيئات الإسلامية الحديثة ، والغريب أن هذه الظاهرة توجد في الهيئات الإسلامية في الخارج ، وقد ألقيت محاضرات وحضرت ندوات في ألمانيا ، وأمريكا ، وبريطانيا ، وفرنسا عزلت في جميعها النساء عن الرجال ، بل وأبعدن إلى مكان قصي يصل بينهن وبين المحاضر دوائر تليفزيونية مغلقة .
ولحزب التحرير وهو أحد الأحزاب المتشددة والتي تذهب إلى الفصل بين الرجال والنساء رأى يختلف عن الرأي التقليدي للهيئات الإسلامية فهو يرى أنه : "يجوز للمرأة أن تكون عضوا في مجلس الشورى ، ويجوز لها أن تنتخب مجلس الشورى وأن تنتخب عضوا فيه ، وهذه المسألة لم يذكرها الفقهاء ، ولم تحصل بالشكل الذي عليه مجالس النواب الآن التي تشبه مجلس الشورى ، ولكن لا أعلم أنه يوجد ما يمنعها من الانتخاب ولا ما يمنعها من أن تنتخب غيرها ، وأن ينتخبها غيرها لعضوية مجلس الشورى ، لأنه ليس من قبيل الحكم ، ولا يدخل في الحديث الشريف ، لأن القاعدة الشرعية (الأصل في الأشياء الإباحة ما لم يرد دليل التحريم) ، ولم يرد أي دليل على تحريم هذا الشيء ، ولأن الثابت عن سيدنا عمر أنه كان حين تعرض له نازلة يريد أخذ رأى المسلمين بها سواء كانت هذه النازلة تتعلق بالأحكام الشرعية (أي التشريع) أو تتعلق بالحكم بتعيين الولاة أو أي عمل من أعمال الدولة ، كان إذا عرضت له نازلة دعا المسلمين إلى المسجد ، وكان يدعو الرجال والنساء ويأخذ رأيهم جميعًا ، وقد رجع عن رأيه حين ردته امرأة في أمر تحديد المهر وما هؤلاء الذين جمعهم في المسجد لأخذ رأيهم في الحكم والتشريع سوى مجلس الشورى أو ما يشبه مجلس النواب اليوم . وهذا الدليل يكاد يكون نصا في جواز انتخاب المرأة عضوًا لمجلس الشورى وأن تنتخب أعضاءه .
على أن النبي قد قدم عليه في السنة الثالثة عشرة للبيعة (أي السنة التي هاجر فيها) خمسة وسبعون مسلمًا منهم ثلاثة وسبعون رجلا وامرأتان ، وواعداهم العقبة ، فذهبوا جوف الليل ، وتسلقوا الشعب جميعًا ، وتسلقت المرأتان معهم ، وبايعوه جميعًا بيعة العقبة الثانية ، وهي بيعة حرب وقتال ، وبيعة سياسية ، وما البيعة إلا الانتخاب وهذا أيضًا يكاد يكون نصا في جواز انتخاب المرأة من يتولى الحكم ومن يكون عضوا في مجلس الشورى ، وعلاوة على ذلك فإن رسول الله قال : لوفد العقبة الثانية هذا الذي بايعه حين فرغوا من البيعة : (أخرجوا إلى منكم اثني عشر نقيبًا يكونون على قومهم بما فيهم كفلاء) ، وهذا أمر منه للجميع بأن ينتخبوا من الجميع ولم يخصص الرجال ولم يستثن النساء ، لا فيمن ينتخب بكسر الخاء ولا فيمن ينتخب بفتح الخاء ، والمطلق يجرى على إطلاقه ما لم يرد دليل التقييد ، كما أن العام يجرى على عمومه ما لم يرد دليل التخصيص ، وهنا جاء الكلام عامًا ومطلقًا ، ولم يرد أي دليل للتخصيص أو التقييد ، فكان مؤذنًا بأن أمر الرسول يشمل المرأتين أن تنتخبا في الوفد نقباء ، وأن ينتخبهما غيرهما من الوفد نقيبتين ، وعلى حسب استنباط الأحكام الشرعية وفق علم الأصول وعلى سن الفقهاء ، يكون الحكم الشرعي جواز أن تكون المرأة منتخِبة ومنتخَبة (1) .
ولكن تكون الصورة كاملة لابد وأن نلم بموقف الإخوان المسلمين وهي أكثر الهيئات الإسلامية مرونة وفهما للضرورات والتطورات وأقلها تمسكًا بالطقوسيات التي تسيطر على بقية الهيئات ويمكن التعرف على هذا الموقف من كتاب الأستاذ البهي الخولي "المرأة بين البيت والمجتمع" الذي صدر باعتباره "من رسائل الإخوان المسلمين" وقدم له الأستاذ حسن الهضيبي المرشد العام للإخوان المسلمين ، وقد صدر الكتاب في إبريل سنة 1953 وتحدث الفصل الأخير عن حقوق المرأة السياسية" ووضع تحت هذا العنوان كلمة للإمام حسن البنا "إن حقوق المرأة السياسية لا يجحدها أحد ، ولكن الوقت لم يحن بعد لاستخدامها" وذهب المؤلف أن الآية "وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمْ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ" ، تتضمن :
أولاً : مبدأ الولاية بين المؤمنين والمؤمنات بعضهم مع بعض وهي ولاية تشمل الأخوة والصداقة والتعاون على كل خير . كما تتضمن ثانيًا : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهو واجب يشمل كل ضروب الإصلاح في كل نواحي الحياة والمرأة في ذلك كالرجل كما نرى في الآية الكريمة" .. انتهى . ولابد أن نعترف أن هذا يعد أفضل تفسير للآية ويمكن لكل داعية لحرية المرأة أن يصل عبره إلى مشاركة المرأة "في كل ضروب الإصلاح ، في كل نواحي نواحي الحياة" ، بما فيها طبعًا العمل السياسي .
ولهذا فإنه يقول "وليس هناك ما يمنع المرأة أو من يمنعها من ممارسة هذا الحق ، فهو حق قرره الإسلام ومارسته المرأة المسلمة على نطاق واسع أيام الخلفاء الراشدين ، أي خلال الحقبة التي قام بها الصحابة رضوان الله عليهم بوضع تقاليد الحياة الإسلامية في الاجتماع والسياسة والآداب ونحوها" .
واستشهد على ذلك بما كان يقوم به أمهات المؤمنين وموقف عائشة وحرره بحيث انتهى إلى أن "ولا معنى لهذا كله إلا حق المرأة في الاشتغال بالسياسة وإبداء الرأي فيمن يصلح خليفة ، ومن لا يصلح" (ص 140) .
وهذا نصر كبير واعتراف للمرأة بهذا الحق ولكن الكاتب يري أن الظفر بالحق شئ وممارسة هذا الحق شئ آخر يخضع للملابسات، بل لعله حاف علي رأيه الأول عندما تقدم خطوة يمكن أن تكون بعيدة عن الملابسات لأنها تتعلق "بصلاحية المرأة نفسها لأداء هذه الأمانة والاضطلاع بأعباء هذا الحق".
بل يمكن القول إن المؤلف قد نزل من درجة المعالجة الأصولية والعامة إلي أزقة التصورات الجزئية فأشار إلي المرأة التي نراها في الشارع قد كشفت عن صدرها ورأسها أو تلك التي تقضي أمام المرآة كل يوم ساعتين، أو التي تغشي منتديات الخمر والميسر، لأن هذا انحراف عن الجادة وإذا وجدت أمثال هؤلاء فلن يكن شيئاً مذكوراً أمام الجيش الجرار من الفلاحات الكادحات في الحقول والعاملات في المصانع وربات البيوت من أمهات وزوجات .
وبناءً علي هذه الاستثناءات الجزئية قال المؤلف : "إننا قررنا ما قررنا من حقوق المرأة السياسية لبيان الحكم الشرعي فقط ، أما مزاولته والأخذ به فإن المجتمع عندنا لم يتهيأ له وحين تشيع الثقافة بين الرجال والنساء ويرتفع مستوى الخلق ويتطور العرف والوعي وتوجد المرأة الفاضلة المنشودة فلا حرج أن تباشر ما قرره الإسلام لها" .
ونعتقد أنه لا يجوز تعليق الحكم العام بحجة استثناءات جزئية ، أو في انتظار احتمالات مستقبلية لأن هذه التقريرات كلها اجتهادية يمكن أن يدخلها الخطأ ، كما يمكن أن تخضع للغرض ، فضلاً عن أن الممارسة حتى مع عدم استكمال الشروط ستكون خطوة على طريق التغيير المطلوب ، أما السكوت ، فإنه لن يحقق شيئًا وسيظل هو التكأة التي يحتج بها دعاة إيقاف الحكم .
على كل حال فمن حق الإخوان أن نعترف لهم أنهم قرروا حق المرأة في العمل السياسي ، حتى لو جاء هذا التقرير على حرف ، وأنهم فصلوا ما بين رأيهم الخاص والمبدأ الإسلامي العام . وهناك وثيقة تعد أحدث ما أصدره الإخوان تحت عنوان المرأة لمسلمة في المجتمع المسلم الشورى وتعدد الأحزاب" وقد صدرت عام 1994 ، وتضمنت كلامًا طيبًا عن رأي الإسلام في المرأة بصفة عامة وتحت عنوان "حق المرأة في الانتخاب وفي عضوية المجالس النيابية وفي تولي الوظائف العامة جاء :
أولاً : المرأة وحق المشاركة في انتخاب أعضاء المجالس النيابية وما يماثلها :
ونحن نرى أن ليس ثمة نص في الشريعة الغراء يحجب أن تشارك المرأة في هذا الأمر ، بل إن قوله تبارك وتعالى : "وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ"(1) ، "وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ" (1) ، يتضمن تكليفًا للمرأة هي تؤديه بالمشاركة في اختيار أولى الحل والعقد على وجه شرعي . وفي بعض الظروف قد تكون هذه المشاركة واجبة وضرورية فحيث تنص قوانين الانتخابات المعمول بها في كثير من الدول الإسلامية الآن على إطلاق حق المرأة في الانتخابات فإن إحجام المرأة المسلمة عن المشاركة في الانتخابات يضعف من فرصة فوز المرشحين الإسلاميين .
ثانيًا : تولي المرأة مهام عضوية المجالس النيابية وما يماثلها :
ترى الجماعة أن ليس في النصوص المعتمدة ما يمنع من ذلك أيضًا ، وما أسلفناه من نصوص تؤيد مشاركتها في الانتخابات ينطبق على انتخابها عضوا .
ومما قيل في هذا الشأن لتأييد الرأي المعارض :
1 إن المرأة جاهلة وغير متمرسة بالشئون العامة ، وبالتالي يسهل التغرير بها ، وهذه الحجة مردودة بأن المرأة الجاهلة كالرجل الجاهل وليست كل النساء جاهلات ولا كل الرجال بالمتعلمين أو المتمرسين في الشئون العامة أو لا يسهل التغرير بهم ، كما أننا نتكلم عن أصل الحق لا عن الشروط الواجب توافرها في الناخب أو الناخبة لضمان حسن أدائه المهمة ، فتلك قضية أخرى ، ونحن ندعو لتعليم وتثقيف النساء والرجال وبذل كل جهد ممكن في هذا المضمار الذي هو مقصد من مقاصد الشريعة الغراء وواجب شرعي هام .
2 إن المرأة يعتريها الحيض والنفاس والحمل مما قد يعوقها عن أداء العمل بالمجلس الذي تنتخب فيه والرد على ذلك أن الرجل أيضًا يعتريه من الأمراض وغيرها مما يؤثر عليه وعلى إمكاناته في العمل يضاف إلى ذلك أن عضوية المجالس النيابية تحدد لها شروط منها : ألا يقل سن العضو عن حد معين ، يتراوح عادة ما بين ثلاثين إلى أربعين سنة ، والأغلب أن المرأة إذا بلغت الأربعين أو جاوزت ذلك فإنها تكون قد فرغت من أعباء الحمل والولادة وبلغت طور النضوج العقلي والنفسي والاستقرار العاطفي ، كما أنه قلما يستطيع الشخص في سن الحد الأدنى المقررة أن يفوز بالمنصب النيابي لما يحتاجه ذلك لممارسة طويلة لسنوات عديدة في الأعمال العامة ، والإحصاءات تقرر أن قلة صغيرة من أعضاء المجالس النيابية هم الذين يكونون في الحد الأدنى من السن المقررة أو ما يقاربه والغالبية تكون قد جاوزت ذلك بكثير .
وعلى أي حال فنحن نتكلم عن الحق في الترشيح للعضوية وفي توليها إذا ما تم الانتخاب ولسنا بصدد البحث فيما ينبغي أن تتضمنه شروط العضوية من مؤهلات يجب أن تتوافر في الرجل أو المرأة كما أن الأمر متروك للناخبين فإن رأوا أن المرشحة ليست في حالة أو ظروف وأوضاع تمكنها من أداء مهامها ، فالمفروض أنهم لن يؤيدوا انتخابها ، كما أن الجهة التي سوف تزكيها سوف تحجم عن تزكيتها وترشيحها .
3 التبرج والاختلاط ونحن لا ندعو للتبرج ولا للاختلاط ولا نقول بالتسامح فيه ، والمرأة مأمورة بأن تلتزم بزيها الشرعي سواء خرجت للمشاركة في الانتخابات ، أو لحضور جلسات المجلس التي هي عضو فيه أو لغير ذلك . كما أنه من الواجب أن تخصص مراكز انتخاب للنساء وهو أمر معمول به في معظم الدول الإسلامية ، كما أنه يجب أن تخصص للنساء في المجالس النيابية أماكن حتى لا يكون ثمة مجال لتزاحم أو اختلاط .
4 سفر المرأة العضو للخارج بغير محرم ، وهذا أمر مردود بأنه ليس بالضرورة أن تسافر ما لم تكن مع محرم أو في حال يؤمن عليها فيه حسبما تقرر الأوضاع الشرعية .
ثالثًا : تولي المرأة الوظائف العامة :
الولاية العامة المتفق على عدم جواز أن تليها المرأة هي الإمامة الكبرى ، ويقاس على ذلك رئاسة الدولة في أوضاعنا الحالية .
أما القضاء فقد اختلف الفقهاء بشأن تولى النساء له ، فمنهم من أجازه على إطلاق (الطبري وابن حزم) ، ومنهم من منعه على الإطلاق (جمهور الفقهاء) ومنهم من توسط فأجازه في أنواع من القضايا ومنعه في أخرى (الإمام أبو حنيفة) ، وما دام الأمر موضوع اجتهاد فالترجيح طبقًا للأصول الشرعية أمر وارد ، ثم ابتغاء مصلحة المسلمين طبق ضوابطها الشرعية وطبقًا لظروف المجتمع وأحواله أمر وارد أيضًا .
أما ما عدا ذلك من الوظائف فما دام أن للمرأة شرعًا أن تعمل فيما هو حلال لم يرد نص بتحريمه وما دام أن الوظيفة العامة هي نوع من العمل فليس ثمة ما يمنع أن تليها .
وكذا قيام المرأة بالأعمال المهنية : (طبيبة ، مدرسة ، ممرضة ، إلى غير ذلك مما قد تحتاجه هي أو يحتاجه المجتمع) .
ملاحظة هامة :
نرى ضرورة التنويه إلى لزوم التفرقة بين أن يكون للإنسان حق ، وبين كيفية استعمال هذا الحق وشروط ذلك والظروف المناسبة لاستعمال هذا الحق ، وبالتالي فإذا كانت المجتمعات تتباين ظروفها الاجتماعية ، وتختلف تقاليدها ، فإنه يكون من المقبول أن يتدرج استعمال الحقوق طبقًا لأحوال المجتمع وظروفه وأن يحاط استعمال الحق بما يناسب تلك الأحوال ، وأهم من ذلك بما لا يؤدي إلى الخروج أو الإخلال بقواعد أخلاقية وردت بها النصوص ويجب الالتزام بها .
ومما يجب أيضًا الإشارة إليه وبإلحاح أن المثال الغربي لمعاملة المرأة ووضعها الاجتماعي ، والاستهانة بحيائها وعرضها ، هذا المثال من هذه النواحي مرفوض جملةً وتفصيلاً ، وهو يقوم على فلسفة إباحية تناقض مبادئ الشريعة الغراء وأخلاقها وقيمتها ، ونحن في مجتمعنا الإسلامي يجب أن تكون المبادئ والأخلاق والقيم الإسلامية هي المهيمنة والمعتبرة بكل حرص وبكل إعزاز وبكل تقدير ومع خشية كاملة لله تبارك وتعالى .
والحمد لله أولاً وآخرًا وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين .
شوال 1414ه مارس 1994م الإخوان المسلمون
إن هذه الوثيقة تبرز إحدى الأزمات الفكرية في إيمان الإخوان فهم يسلمون من ناحية المبدأ بحق المرأة ، ولكنهم يرون أن الملابسات غير مهيئة لتطبيق هذا الحق ، كما يطوقون الممارسة بقيود واشتراطات تنم عن ارتباطهم الوثيق بعالم المرويات الذي أحل قيود الفقه محل تحرير القرآن ، مما لا يؤدي إلى التغيير المطلوب .
واستعراض الرأي الفقهي عن اشتغال المرأة بالنشاط السياسي في الخمسينات عندما صدرت فتوى الأزهر بتحريم ذلك واجتمع مؤتمر الهيئات الإسلامية لتأييدها وللتنديد بفكرة تولي المناصب العامة واشتغالها بالعمل السياسي حتى رأي الإخوان المسلمين في آخر وثائقهم ، يوضح مدى التطور وأن الأسس التي قام عليها التحريم القديم ليست إلا اجتهادات فقهاء يتأثرون بعصرهم وبالمناخ العام دون أن يكون لهم عصمة أو حصانة من القصور البشري ، وأنهم طوعوا القرآن لكي يتفق مع هذه الاجتهادات رغم مجافاتها لروحه ونصه دون أن يستشعروا حرجًا لاستنادهم إلى مرويات وأخذاً بسد الذريعة .
الفقهاء وقضية الحجاب :
كما ذكرنا في مستهل الفصل ، فإن القضية الثانية التي شُغل بها الفقهاء المعاصرون ، بعد قضية العمل السياسي للمرأة كانت هي قضية الحجاب والنقاب ، ولأسباب عديدة لا يتسع المجال لشرحها ، اكتسبت هذه المسألة أهمية كبرى ، وأصبحت بمثابة الظاهرة في السبعينات والثمانينات لدى الفقهاء المعاصرين .
وينقسم الفقهاء المعاصرون بالنسبة للحجاب إلى أربع فئات :
الفئة الأولى : التي ترى أن الحجاب الشرعي هو ستر الجسم ما عدا الوجه والكفين ، وقد كانت هذه الفئة هي أكثر الفئات شيوعًا منذ الأربعينات ، وارتؤي أنها مذهب الجمهور ولكنها فقدت هذه المنزلة مع "سعْوَّدة" الفقه الإسلامي في السبعينات ، وإن كانت لا تزال تتمتع بثقة المعتدلين .
وتتجاهل هذه الفئة عادة قضية "النقاب" الذي يغطي الوجه باستثناء العينين وربما عينا واحدة وهي تضيق به ، وفي بعض الحالات كما في حالة الشيخ الغزالي في أيامه الأخيرة ترفضه .
الفئة الثانية : تقف مثل الفئة الأولى ، ولكنها ترى أن النقاب ، وإن لم يكن مفروضا ، فقد يكون أفضل خاصة لمن تؤمن به .
ويمثل هذه الفئة الشيخ القرضاوي والمحدث الألباني ، فقد ذكر الأول في رسالة "النقاب بين القول ببدعيته والقول بوجوبه" .
"الحق أني لم أجد للقائلين بوجوب لبس النقاب ووجوب تغطية الوجه واليدين دليلاً شرعيًا صحيح الثبوت صريح الدلالة سالمًا من المعارضة بحيث ينشرح له الصدر ويطمئن به القلب وكل ما معهم متشابهات من النصوص المحكمات وتعارضها الأدلة الواضحات" .
ولكنه استدرك "إن القول بعدم وجوب النقاب لا يعني عدم جوازه ، فمن أرادت أن تتنقب فلا حرج عليها بل قد يستحب ذلك إذا كانت جميلة يخشى الافتتان بها وخصوصًا إذا كان النقاب لا يعوقها ، ولا يجلب عليها القيل والقال ، بل ذهب كثير من العلماء إلى وجوب ذلك عليها ، ولكني لا أجد من الأدلة ما يوجب عليها تغطية الوجه عند خوف الفتنة ، لأن هذا أمر لا ينضبط ، والجمال نفسه أمر ذاتي ، ورب امرأة يعدها إنسان جميلة ، وآخر يراها عادية ، أو دون العادية (1) .
أما الألباني فرأيه العام هو أنه لا يرى أن الوجه عورة يجب تغطيتها ، واستشهد بحديث الفضل بن العباس المشهور وقال : "فهذا رسول الله يرى الفضل بن العباس يلتفت إلى المرأة الخثعمية وكانت امرأة حسناء ينظر إليه وهي غير محرمة ثم لا يكون منه عليه الصلاة والسلام أكثر من أنم يصرف وجه الفضل عنها ، ولا يأمرها أن تستر وجهها عنه (ص 5 من كتاب حجاب المرأة المسلمة في الكتاب والسنة طبعة المكتب الإسلامي دمشق) ولكنه يقرر أيضا أن الستر هو الأفضل ورد على من زعم أن الستر ، أي النقاب بدعة وتنطع في الدين بأحاديث وآثار كثيرة أوردها ثم ختمها "فيستفاد مما ذكرنا أن ستر المرأة وجهها ببرقع أو نحوه مما هو معروف اليوم عند النساء المحصنات أمر مشروع محمود وإن كان لا يجب ذلك عليها بل من فعل فقد أحسن ، ومن لا فلا حرج" (ص 7) .
ولكن مما يلفت النظر أن الشيخ الألباني كان أكثر مرونة من الشيخ القرضاوي عندما استشهد بحديث الفضل بن عباس قال "فهذا حديث صحيح يقرر أن كشف المرأة عن وجهها ولو كانت جميلة ، حق لها ، إن شاءت أن تأخذ به فعلت وليس لأحد أن يمنعها من ذلك بزعم خشية الافتتان بها" .
وقال الشيخ سعيد حوى "القمة في موضوع الحجاب الإسلامي أن تستر المرأة المسلمة جسمها كله بما في ذلك الوجه ، وهناك أقوال أخرى تبيح كشف شئ مما دون ذلك (1) .
الفئة الثالثة : ترى أن الحجاب الحقيقي هو النقاب ، وأن المرأة التي تكشف عن وجهها وكفها ليست محجبة ، ولكنها سافرة وهى تستدل بالمئات من أقوال الفقهاء ، وتحمل حملة شعواء على من ينكر النقاب ، ولما كانت القضية لديهم قضية إيمان لا يتزعزع ، فلم يتردد مؤلف "فصل الخطاب في مسألة الحجاب والنقاب" (2) ، في نقد الألباني والشيخ الغزالي ، فقال :
"وهؤلاء هم الذين يرون أنه لا داعي للنقاب إلا لمن أرادت الفضل على وجه الاستحباب كما في حجاب المرأة المسلمة الألباني ، ولنا وقفة طويلة مع هؤلاء في القسم الثاني من هذا البحث ، بل تجاوز بعضهم الحد فلم ير النقاب سنة ولا واجبًا وقرروا بأن لا داعي له ولا دليل عليه من الكتاب ولا من السنة وهو محض هوى شخصي للشيخ الغزالي لن يناله منه سوى الحرج وأشد الحرج كما سترى ذلك في الدلائل على وجوب النقاب لا على استحبابه فقط !
قال الشيخ الغزالي في كتاب "السنة النبوية بين أهل الفقه ، وأهل الحديث" وما أعجب ما قال (أي الشيخ الغزالي) "ولا شك أن بعض النساء في الجاهلية ، وعلى عهد الإسلام كن يغطين أحيانًا وجوههن مع بقاء العيون دون غطاء ، وهذا العمل كان من العادات لا من العبادات ، فلا عبادة إلا بنص ويدل على ما ذكرنا : أن امرأة جاءت إلى النبي  يقال لها "أم خلاد" ، وهي منتقبة تسأل عن ابنها الذي قتل في إحدى الغزوات ، فقال لها بعض أصحاب النبي  : "جئت تسألين عن ابنك وأنت منقبة ؟ فقالت المرأة الصالحة : إن أرزأ ابني فلن أرزا حيائي ، واستغراب الأصحاب لتنقب المرأة دليل على أن النقاب لم يكن عبادة" .
وقال "وقد رأى النبي  الوجوه سافرة في المواسم والمساجد والأسواق فما روى عنه قط أنه أمر بتغطيتها ، فهل أنتم أغير على الدين والشرف من الله ورسوله" ؟ ، وقال أيضًا "فهل ما قلته رأى انفردت به ؟ كلا كلا إنه رأي الفقهاء الأربعة الكبار ، ورأي أئمة التفسير البارزين" انتهى كلام الشيخ الغزالي . قلت : نعم ، فهذا رأي انفردت به ، وسيبطل ما ذكرتموه من مزاعم أمام تلك الأحاديث المحققة ، والنقول المؤثقة كما سنراها سويًا ، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون ! وكأن الشيخ لم يدرك أن الإسلام إذا أقر عادة صارت عبادة ! وأن حديث أم خلاد لا يصح به الاحتجاج لما في سنده من ضعف سنبينه حالاً ! وأن سؤال الأصحاب ليس تعجبًا من ارتدائها النقاب ! ، وإنما كان تعجبا من شدة حرصها في مثل ظروفها عليه بدليل قولها (إن ارزأ ابني فلن أرزأ حيائي ) ، وإلا كانت هذه العادة أجل عند هذه المرأة من العبادة !
قال الألباني في الحجاب ص53 : "فهذا نص صريح في فضيلة النقاب لأنها عدته من الحياء وأقرها عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لكن ما كان لنا أن نحتج بمثل هذا الإسناد ، فقد قال البخاري (عبد الخبير) أحد رواة الحديث : روى عنه فرج بن فضالة ، حديثه ليس بالقائم ، منكر الحديث كما في مختصر المنذري ، فأين الشيخ الغزالى إذن من أهل الحديث ؟ وأي فرق بينه وبين قاسم أمين في مسألة النقاب غير أنه زاد عليه الاستخفاف بالدعاة إلى النقاب ! ولم يخفق الشيخ الغزالى في هذه المسألة وحدها ، فهو الذي قال في كتابه المذكور بأن الإسلام لم يحظر على المرأة توليها أى منصب رئاسي كان .. وأن ما قاله النبي في حديث البخارى : "ألا خاب قوم ولوا أمورهم امرأة" ، إنما كان وصفا للأوضاع القائمة في بلاد فارس آنذاك ، ثم قال : ولو أن الأمر في فارس شورى وكانت المرأة الحاكمة تشبه (جولدا مائير)
اليهودية التي حكمت إسرائيل ، واستبقت الشئون العسكرية في أيدي قادتها .. لكان هناك تعليق آخر على الأوضاع القائمة ، ثم قال : (وكل ما أبغى .. هو منع التناقض بين الحديث والواقع التاريخي ، إن إنجلترا بلغت عصرها الذهبي أيام الملكة (فيكتوريا) ، وهي الآن بقيادة ملكة ورئيسة وزراء وتعد في قمة الازدهار الاقتصادي والاستقرار السياسي ، فأين الخيبة المتوقعة لمن أختار هؤلاء النسوة ، ثم قال : "إن القصة ليست قصة أنوثة وذكورة إنما هي قصة أخلاق ومواهب نفسية) ثم قال : ( وما دخل الأنوثة والذكورة هنا .. امرأة ذات دين خير من ذي لحية كفور ؟ ( يجب علينا أن نختار للناس أقرب الأحكام إلى تقاليدهم ) .. فإذا ارتضوا أن تكون المرأة حاكمة أو قاضية أو وزيرة أو سفيرة فلهم ما شاءوا ولدينا وجهات نظر فقهية بنحو ذلك كله فلم الإكراه على رأى ما ؟ ! ( وكأن الشيخ لم يدرك مناط الخيبة في حديث الولاية وأن الشرع الذي جعل شهادتها بنصف شهادة الرجل لا يسوغ أن تكون لها ولاية تامة عليه !!! وأين الشيخ الغزالي من فقه السلف الصالح ! وهو لا يقول إلا ما يحزن القلب ويغضب الرب سبحانه وتعالي ، أليس هو القائل : "واليوم توجد طفولة إسلامية تريد الانفراد بزمام الأمة ، وعندما يسمع أولو الألباب حديثها يطرقون محزونين ، والمخيف أنها طفولة عقلية تجمع في غمارها أرباب لحي ، وأصحاب هامات وقامات ، يقعون على أحاديث لا يفهمونها ثم يقدمون صورة للإسلام تثير الانقباض والخوف" ، أيليق أن يقال مثل ذلك على شباب طاهر نقي لا يسعى إلا لإحقاق الحق وفق آراء السلف الصالح من غير ابتداع ولا شطط ! ، إنا لله ، وأنا إليه راجعون ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي ، وحسبنا الله ونعم الوكيل ) .
هذا ، ومما لا شك فيه أن تلك الدعوة إلى السفور ، والاكتفاء بستر ما عدا الوجه والكفين هي التي أدت إلى شيوع الاعتقاد خطأ كما سنرى بأن ذلك هو الحجاب الشرعي في دين الله بين الناس ، وهي التي أدت أيضا إلى شيوع التبرج باسم الحجاب المزعوم الذي أقبلت عليه النساء باسم الدين دون التزام بشرط واحد من شروطه : فترى الواحدة منهن قد وضعت حزاما في الوسط ، ووردة على الصدر ، وتوكة في مقدمة الرأس ، وحفت حاجبيها بكل دقة ورقة ، فالأعين تنجذب لها ، والقلوب تتمغنط إليها من شدة ولعها وروعة بهائها ، كأن الرجل لم يخلق إلا لها ، والناس يظنون أنهن متدينات ، وهن يحسبن أنهن خير البنات والزوجات ، كما أسفرت هذه الدعوى عن "تخصيص أماكن مستقلة لهؤلاء المحجبات كما زعموا في صالونات الكوافير التي تهتز الأرض من تحتها في بلاد المسلمين" ! .
ومن الذين أوجبوا النقاب المودودي والتويجري وأبو ذر القلموني والصابوني ، والشنقيطي ، وابن باز وابن عثيمين ، ومحمد بن اسماعيل ، والسندي وأبو بكر الجزائري) ، انتهي تعليق مؤلف فصل الخطاب هامش ص 7 و8 . يضاف إليهم جماعات (الرافضة الجديدة) التي تملكها هوس وسعار النقاب كالذي تملك الخوارج من قبل بالنسبة للحاكمية وكما دمغ هذا الهوس الخوارج بأنهم (كلاب النار) فإن هوس الرافضة الجديدة يلحقها بأسلافها ...
ومن فلسفة هذه الفئة أن الحاكم يجب أن يقوم بدور فقال مؤلف (فصل الخطاب في مسالة الحجاب والنقاب) .
"إن المسئولية عن الحجاب مسئولية مشتركة بين ثلاثة : المرأة المسلمة ، وولي أمرها العائل لها ، وولي أمرنا وهو الحاكم ، فهو مسئول عن الحجاب ، وتوفير الأمان الغريزى بين الرجل والمرأة ، وهو ما أسميناه بالحق الوقائي في صيانة العرض ، باعتباره واحدًا من أهم حقوق الإنسان داخل المجتمع الإسلامي دون غيره من المجتمعات ، وسيكون هذا الموضوع برمته محلا لدراسة خاصة فيما بعد إن شاء الله تعالي ، حيث نستعرض الأدلة على مسئولية الحاكم المسلم عن هذا الحق الذي ضاع واندثر في بلاد المسلمين ، وكما يكون الحاكم مسئولاً عن الحجاب ، فهو مسئول أيضًا عن الأمر بغض البصر ، ففي كلا الأمرين يأتي خطاب الله تعالي إلى نبيه ، وإلى من تولي أمر المسلمين من بعده في قوله تعالي : (.. قل ..) ففي الحجاب : قال الله تعالي : "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ" ، وفي غض البصر : قال الله تعالى : "قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ " ، "وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ" ، ليتبين لنا من ذلك أن كلا من هذين الأمرين الحجاب وغض البصر ليس شيئا هينا يكفي لامتثاله إيمان المؤمن أو المؤمنة فحسب بحيث ينفرد كل منهما بتحقيق هذا الأدب أو ذلك ، أو ذاك ، بل لا بد أن تكون هناك قوة حاكمة ، وسلطة رائدة كسلطة النبي  ، وإمام المسلمين وحاكمهم في كل عصر تقوم على تحقيق هذه الآداب بما منحها الله من قوة السلطان وحراسة شرع الله في الأرض ، فتذكر المؤمنين به ، وتراقب تطبيقه ، وتتخذ ما تراه من إجراءات وقائية ، تؤمن الأفراد على غرائزهم وأغراضهم ، وتدابير احترازية تحفظ للناس إنسانيتهم وكرامتهم ، حتى يتميز المجتمع الإسلامي عن غيره من المجتمعات ، فهو في مقابل تقيده الشهوات ، لا بد أن يمنع الإثارات ، ويقي الغرائز الصراعات ليتحقق العفاف ، ويسود المجتمع الحياء (هامش ص1) .
وتصور لنا هذه القطعة من الكتابة كيف أن التعصب قد أعمى بصيرتهم تمامًا عن إدراك البدائة وكيف دفعهم إلى ليَّ النص القرآني وتطويعه ليتفق مع فكرهم السقيم ، تعني أي شرع أو تصور يكون للحاكم دور في غض البصر ، علمًا أن الشرع وجه الإشارة عنه إلى الرجال والنساء ، فهل يؤسس الحاكم بوليسًا اسمه بوليس غض البصر يتولى "البحلقة" في كل السائرين رجالاً ونساءً ، وهل هم لا يغضون أبصارهم ، وقد عقب على ذلك بالآيات "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ" ، وقال "وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ" ، فهل هذه الصيغة تقتضي أن يقوم الرسول  بالمراقبة ، وما رأيه إذا قال له أحد الفقهاء "إن الأمر بالقول لا يقتضي الوجوب كما ذهب إلى ذلك علماء الأصول كما لاحظ ذلك الشيخ عبد المتعال الصعيدي في كتابه "في ميدان الاجتهاد" (ص 45) تعليقاً على الآية "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً" ، إذ قال وإني أرى أن لا دلالة في هذه الآية على وجوب ذلك ، لأن الصيغة "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ" لا تدل على الوجوب ، لأن الأمر بالأمر بشيء لا يدل على وجوب هذا الشيء ، كما هو مذهب جمهور علماء الأصول ، ولأن قوله ذلك "أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ" ، مما يدل على أن ذلك لا يدفع الفساد حتمًا ، وإنما هو أدنى إلى دفعه ومثل هذا يكون مندوبًا لا واجبًا .
وأورد الشيخ محمد أحمد إسماعيل وهو شيخ هذه الفئة في الإسكندرية في كتابه (معركة السفور والحجاب) (ص91) ، ما جاء عن ابن القيم خاصًا بمسئولية الحاكم المسلم عن منع اختلاط الرجال بالنساء في الأسواق الخ .. بما في ذلك "وإن رأى ولي الأمر أن يفسد على المرأة إذا تجملت وتزينت وخرجت ثيابها بحبر ونحوه ، فقد رخص في ذلك بعض الفقهاء وأصاب ، وهذا من أدني عقوبتهن المالية ، وله أن يحبس المرأة إذا أكثرت الخروج من منزلها ولا سيما إذا خرجت متجملة بل إقرار النساء على ذلك إعانة لهن على الإثم والمعصية ، والله سائل ولي الأمر عن ذلك" .
ولسنا في حاجة للقول بأن هذه المجموعة تواصل الحملة المسعورة التي بدأتها جماعة شباب محمد في الخمسينات على كل الكتاب والمفكرينالذين يخالفونهم الرأي ، وهم كأسلافهم يجعلون موقف هؤلاء الكتاب من قضية المرأة معيارًا وحكمًا ، فإذا خالفهم اعتبروهم خونة وعملاء وصبوا عليهم جام غضبهم ، أما أن يكون هؤلاء الكتاب قد قاموا بدور في معارضة الاستبداد أو الدعوة للعدالة أو حمل لواء الكرامة الإنسانية .. الخ ، فهذا لا يعنيهم في شيء ، وقد تضمن كتاب الشيخ محمد أحمد إسماعيل الذي أصدره سنة 1411 "معركة السفور والحجاب" حديثا عن نجيب محفوظ كله قذف وتحريض مثل : "ولا نبالغ إذا قلنا في ضوء هذه الرواية (أي أولاد حارتنا) التي رقعت بوثنيات اليونان ، وإباحيات الرومان ، وخبث الماسون ، وإلحاد الماركسيين ، لا نبالغ إذا قلنا إن انتساب (نجيب محفوظ) إلى البشرية عار على الجنس البشرى ، وأولي به أن يرجم كرجم العرب قبر أبي رغال ، وإن الكفر البواح ، والشرك الأكبر الذين بهما ليجعلانه عدوا لدودا لكل ذي دين ولو كان يهوديًا أو نصرانيا ، بله المسلم الموحد" (هامش ص80) .
الفئة الرابعة : وهي التي تستنكر النقاب وترى أنه صورة من صور التشدد والمغالاة تسئ إلى الإسلام قدر ما تسئ إلى واضيعه ، وقد تذهب إلى تحريمه كما أعلن ذلك مؤلف (تذكير الأصحاب بتحريم النقاب) الدكتور إسماعيل منصور الذي كان في شبابه من دعاة الجمعية الشرعية ثم تعرض لانقلاب فكري بحيث أصبح الموضوع الذي كان أثيرًا لديه كخطيب الجمعية الشرعية وهو (عذاب القبر) الذي طالما حرك نفوس المستمعين بالمرويات عنه ، موضوعًا لكتاب من مجلدين نَفَى نفيًا باتًا عذاب القبر ، كما أصدر كتابا عن السُنة "تبصير الأمة بحقيقة السُنة" نفي ، أو كاد مصداقية السنة القولية ، اكتفاء بالسُنة العملية .
وهو في كتابه "تذكير الأصحاب بتحريم النقاب" يركز على القواعد المستمدة من علمي الأصول والحديث لأنه رأى أن أنصار النقاب بينونة على أساس سد الذريعة أو الفتنة أو غير ذلك من التعلات الفقهية .
ولكن هذا الاتجاه لا يجد نصيرًا بين الفقهاء لأنهم يعتبرونه نشازا ، وإن كان يظفر بتأييد المفكرين الذين يحكمون بالمقاصد وما يتوخاه الدين ، وليس بحرفية النصوص وما يعتورها من انحراف في التأويل وما يحيط بها من مؤثرات كالتقاليد المرعية "إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ" أو مصالح مكتسبة .. الخ .
المصافحة و (اللامساس) :
بعد الحجاب تأتي قضية المصافحة ، فإذا أمكن بعد كل الاشتراطات والاحتياطات والتحفظات ، للمرأة أن تخرج فهل يمكن لها أن تختلط بالرجال ، وأن تصافح زميلاً في الدراسة أو عمل .
من الغريب أن هذه القضية كانت امتحانا عسيرًا لم يستطيع أن يخلص منه أئمة الفقهاء مثل المودودي والقرضاوي وكذلك آية الله العظمي السيد محمد حسين فضل الله .
أما المودودي فهناك قدر من الاضطراب في أحكامه . ففي كتابه (الحجاب) رأى "أن جسم المرأة إلا وجهها ويديها عورة لا يحل لها كشفها حتى لأبيها أو عمها أو أخيها أو ابنها ولا يجوز للمرأة أن تكشف عورتها حتى للمرأة مثلها" ص 253(1) .
ولكنه بعد ذلك مباشرة أباح للمرأة أن تبدى زينتها للاثنى عشر فئة التي أوردتها سورة النور ، وذهب إلى أن الزينة التي يجوز للمرأة إبدائها لهذه الفئات هي ما سوى عورة المرأة والمراد بها لبس الحلي والتجمل باللباس والتكحل ، والتحنؤ [من الحناء] ، وتحسين الشعر وما إليها من أنواع الزينة الأخرى التي تتخذها النساء عادة في البيوت لاقتضاء أنوثتهن (الحجاب ص357) .
وتحت عنوان "حكم الوجه" أورد المودودي ما ذكره المفسرون للآية "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ" (الأحزاب 59) ، بأنها تقضي بستر الوجه سواء كان بضرب الخمار أو بلبس النقاب أو بطريقة أخرى ، ورأى أن "جميع المفسرين ذهبوا هذا المذهب ص 336" ، وأورد أقوالهم وقال "ويتضح من هذه الأقوال جميعًا أنه من مدى عصر الصحابة الميمون إلى القرن الثامن للهجرة حمل جميع أهل العلم هذه الآية على مفهوم واحد هو الذي فهمناه من كلماتها ، وإذا راجعنا بعد ذلك الأحاديث النبوية والآثار علمنا منها أيضًا أن النساء قد شرعن يلبسن النقاب على العموم وبعد نزول هذه الآية على العهد النبوي وكن لا يخرجن سافرات" ص369 .
وعاد مرة ثالثة فكتب تحت عنوان (النقاب) : "وكل من تأمل كلمات الآية وما فسرها به أهل التفسير في جميع الأزمان بالاتفاق ، وما تعامل عليه الناس على عهد النبي ، لم ير في الأمر مجالا للجحود بأن المرأة قد أمرها الشرع الإسلامي بستر وجهها عن الأجانب ، ومازال العمل جاريًا عليه منذ عهد النبي إلى هذا اليوم ، وأن النقاب مما قد اقترحه القرآن نفسه من حيث حقيقته ومعناه ، وإن لم يصطلح عليه لفظاً ، وكانت نساء المسلمين قد اتخذن جزاءًا من لباسهن لخارج البيت ، بمرأى من الذات النبوية التي نزل عليها القرآن ، وكان يسمي نقابا في ذلك العهد أيضًا" (1) .
وتحت عنوان "منع الخلوة واللمس" قال المودودي "والحد الثالث الذي وضعه الإسلام هو أنه لا يجوز لرجل أن يخلو بامرأة إلا أن يكون زوجها ، ولا أن يمس جسمها وإن كان من أدني أقاربها" (338) ، واستشهد بحديث "من مس كف امرأة ليس منها بسبيل وضع على كفه جمرة يوم القيامة" ، وأورد الراويات من أن الرسول ما كان يبايع النساء ويفهم من هذا طبعا أنه يحرم المصافحة .
أما الشيخ القرضاوي فإنه في كتيب "فتاوى المرأة المسلمة" رد على سؤال سائل عن حكم مصافحة المرأة للرجل باليد "وخصوصًا للقريبات منهن ، ممن لسن محرمات على ، أي مثل ابنة خالي ، أو ابنة خالتي ، أو ابنة عمي ، أو ابنة عمتي ، أو امرأة العم ، أو امرأة الخال ، أو أخت زوجتي ، أو غيرهن ممن تصلني بهم روابط قرابة أو مصاهرة ، ولا سيما في مناسبات معينة كالقدوم من سفر ، أو الشفاء من مرض ، أو العودة من حج أو عمرة ، أو نحو ذلك من المناسبات التي اعتاد الأقارب والأصهار ومثلهم الجيران والزملاء ، أن يصل بعضهم بعضا ، يهنيء بعضهم بعضًا ، ويصافح بعضهم بعضًا .
والذي أسأل عنه هو : هل ثبت في الكتاب أو السُنة تحريم هذه المصافحة مع توفر ما ذكرت لكم من الدواعي الاجتماعية ، والروابط العائلية ، ومع التأكد من توفر جو الثقة ، وأمن الفتنة ، والبعد عن مثيرات الشهوة ، ومع ما يثيره ترك المصافحة من النظر إلينا معشر المتدينين على أننا متزمتون متشددون ، نحتقر المرأة ، ونسئ الظن بها .. إلخ إلخ (1) .
مع هذه الضمانات والملابسات التي في سؤال السائل أجاب الشيخ القرضاوي .
لا أكتم الأخ السائل أن قضية مصافحة الرجل للمرأة التي يسأل عنها قضية شائكة ، الحكم فيها بعيدًا عن التزمت والترخص يحتاج إلى جهد نفسي وفكري وعلمي ، حتى يتحرر المفتي من ضغط الأفكار المستوردة ، والأفكار المتوارثة جميعا ، إذا لم يكن يسندها كتاب ولا سنة ، وحتى يستطيع مناقشة الأدلة وموازنة الحجج ، بعضها ببعض ، لاستخلاص الرأي الأرجح والأدنى إلى الحق في نظر الفقيه الذي يتوخى في بحثه إرضاء الله ، لا موافقة أهواء الناس .
وقبل الدخول في البحث والمناقشة أود أن أخرج صورتين من مجال النزاع أعتقد أن حكمهما لا خلاف عليه بين متقدمي الفقهاء فيما أعلم :
الأولي : تحريم المصافحة للمرأة إذا اقترنت بها الشهوة والتلذذ الجنسي من أحد الطرفين : الرجل أو المرأة ، أو خيفت فتنة من وراء ذلك في غالب الظن ، وذلك أن سد الذريعة إلى الفساد واجب ، ولا سيما إذا لاحت علاماته ، وتهيأت أسبابه . ومما يؤكد هذا ما ذكره العلماء أن لمس الرجل لإحدى محارمه ، أو خلوته بها وهى من قسم المباح في الأصل تنتقل إلى دائرة الحرمة إذا تحركت الشهوة ،أو خيفت الفتنة ، وخاصة مع مثل بنت الزوجة أو الحماة أو امرأة الأب ، أو أخت الرضاع ، اللائى ليس لهن في النفوس ما للام أو البنت أو الأخت أو العمة أو الخالة أو نحوها .
الثانية : الترخيص في مصافحة المرأة العجوز التي لا تشتهى ، ومثلها البنت الصغيرة التي لا تشتهي ، للأمن من أسباب الفتنه ، وكذلك إذا كان المصافح شيخا كبيرا لا يشتهي .
وذلك لما روى عن أبي بكر أنه كان يصافح العجائز ، وعبد الله بن الزبير استأجر عجوزا تمرضه ، فكانت تغمزه وتفلي رأسه (1) .
أما بالنسبة لغير هاتين الحالتين فقال : (إن الذين يوجبون على المرأة أن تغطي جميع جسمها حتى الوجه والعينين تكون المصافحة عندهم حرامًا لأن الكفين إذا وجبت تغطيتها كان النظر إليها محرمًا ، وإذا كان النظر إليها محرمًا كان اللمس كذلك من باب أولى لأن اللمس أغلظ من النظر لأنه أقوى إثارة للشهوة ولا مصافحة دون أن تمس البشرة البشرة . ولكن من المعروف أن أصحاب هذا القول هم الأقلون وجمهور الفقهاء والتابعين ومن بعدهم يجعلون المستثني في قوله "إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا" الوجه والكفين )(1) .
ولكنه مع هذا حاول البحث عن دليل مقنع منصوص عليه لتحريم المصافحة "فلم اعثر على ما أنشده" ، واستطرد :
( وأقوى ما يستدل به هنا ، هو سد الذريعة إلى الفتنة ، وهذا مقبول من غير شك عند تحرك الشهوة ، أو خوف الفتنة بوجود إماراتها ، ولكن عند الأمن من ذلك وهذا يتحقق في أحياء كثيرة ما وجه التحريم )؟
من العلماء من أستدل بترك النبي مصافحة النساء عندما بايعهن يوم الفتح بيعه النساء المشهورة ، على ما جاء في سورة الممتحنة .
ولكن من المقرر أن ترك النبي لأمر من الأمور لا يدل بالضرورة على تحريمه ، فقد يتركه لأنه حرام ، وقد يتركه لأنه مكروه ، وقد يتركه لأنه خلاف الأوْلى ، وقد يتركه لمجرد أنه لا يميل إليه ، كتركه أكل الضب مع أنه مباح .
وإذن يكون مجرد ترك النبي للمصافحة ، لا يحمل دليلاً على حرمتها ، ولابد من دليل آخر لمن يقول بها . على أن ترك مصافحته  للنساء في المبايعة ليست موضع اتفاق (2) .
وقد استدل بعض العلماء المعاصرين على تحريم مصافحة المرأة بما أخرجه الطبراني والبيهقي عن معقل بن يسار عن النبي  قال : "لأن يُطعن في رأس أحدكم بمخْيَط(1) من حديد خير من أن يمس امرأة لا تحل له" ، قال المنذري في الترغيب : ورجال الطبراني ثقات رجال الصحيح .
ويلاحظ على الاستدلال بهذا الحديث ما يلي :
(1)أن أئمة الحديث لم يصرحوا بصحته ، واكتفي مثل المنذري أو الهيثمي أن يقول : رجاله ثقات أو رجال الصحيح ، وهذه الكلمة وحدها لا تكفي لإثبات صحة الحديث لاحتمال أن يكون فيه انقطاع ، أو علة خفية ، ولهذا لم يخرجه أحد من أصحاب الدواوين المشهورة ، كما لم يستدل به أحد من الفقهاء في الأزمنة الأولى على تحريم المصافحة ونحوه .
(2)أن فقهاء الحنفية ، وبعض فقهاء المالكية قالوا : إن التحريم لا يثبت إلا بدليل قطعي لا شبهة فيه ، مثل القرآن الكريم والأحاديث المتواترة ومثلها المشهورة ، فأما ما كان في ثبوته شبهة ، فلا يفيد أكثر من الكراهة مثل أحاديث الآحاد الصحيحة ، فكيف بما يشك في صحته ؟ !
(3)على فرض تسليمنا بصحة الحديث ، وإمكان أخذ التحريم من مثله ، أجد أن دلالة الحديث على الحكم المستدل عليه غير واضحة ، فكلمة "يمس امرأة لا تحل له" لا تعني مجرد لمس البشرة للبشرة ، بدون شهوة ، كما يحدث في المصافحة العادية ، بل كلمة "المس" حسب استعمالها في النصوص الشرعية من القرآن والسنة تعني أحد أمرين :
(1)أنها كناية عن الصلة الجنسية "الجماع" ، كما جاء ذلك عن ابن عباس في تفسير قوله تعالي : "أَوْ لامَسْتُمْ النِّسَاءَ" (2) ، أنه قال : اللمس والملامسة والمس في القرآن كناية عن الجماع ، واستقراء الآيات التي جاء فيها يدل على ذلك بجلاء ، كقولة تعالي على لسان مريم : "أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ" " وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ " .
(2)أنها تعني ما دون الجماع من القبلة والعناق والمباشرة ونحو ذلك مما هو مقدمات الجماع .
ولم يكتف الشيخ القرضاوي بهذا التحقيق ، بل أورد العديد من الروايات التي تؤيد ما ذهب إليه بما في ذلك أقوال ابن تيمية في تضعيف قول من فسروا الملامسة أو اللمسة بمجرد مس البشرة البشرة ولو بلا شهوة . كما أورد الأحاديث العديدة التي رويت عن الرسول  عن لمس اليد لليد بلا شهوة كالحديث المعروف "إن كانت الأمة من إماء أهل المدينة لتأخذ بيد رسول الله  فتنطلق به حيث شاءت" .
وختم الشيخ القرضاوي :
والذي أحب أن أؤكده في ختام هذا البحث أمران :
الأول : أن المصافحة إنما تجوز عند عدم الشهوة ، وأمن الفتنه ، فإذا خيفت الفتنة على أحد الطرفين ، أو وُجدت الشهوة والتلذذ من أحدهما حرمت المصافحة بلا شك .
بل لو فقد هذان الشرطان عدم الشهوة وأمن الفتنة بين الرجل ومحارمه مثل خالته ، أو عمته ، أو أخته من الرضاع ، أو بنت امرأته ، أو زوجة أبيه ، أو أم امرأته ، أو غير ذلك ، لكانت المصافحة حينئذ حرامًا .
بل لو فُقِد الشرطان بين الرجل وبين صبي أمرد ، حرمت مصافحته أيضًا ، وربما كان في بعض البيئات ، ولدى بعض الناس ، أشد خطرًا من الأنثى .
الثاني : ينبغي الاقتصار في المصافحة على موضع الحاجة ، مثل ما جاء في السؤال كالأقارب والأصهار الذين بينهم خلطة وصلة قوية ، ولا يحسن التوسع في ذلك ، سدًا للذريعة ، وبُعدًا عن الشبهة ، وأخذًا بالأحوط ، واقتداء بالنبي  الذي لم يثبت عنه أنه صافح امرأة أجنبية قط ، وأفضل للمسلم المتدين ، والمسلمة المتدينة ألا يبدأ أحدهما بالمصافحة ، ولكن إذا صوفح صافح .
وإنما قررنا الحكم ليعمل به من يحتاج إليه دون أن يشعر أنه فرّط في دينه ، ولا ينكر عليه من رآه يفعل ذلك مادام أمرًا قابلا للاجتهاد .
"وبالله التوفيق"(1) .
أما آية الله العظمي السيد محمد حسين فضل الله الذي جاءت آراؤه عن المرأة في كتاب "دنيا المرأة" في شكل حوار ما بينه وبين المحررة سهام حمية والذي تضمن عددًا كبيرًا من الآراء المتحررة من الانغلاقات المذهبية والموروثات التقليدية ودافع بشجاعة نادرة وصراحة يستحق عليها التقدير عن الزواج المؤقت ، وهو أشد الموضوعات حساسية ، نقول إن هذا الإمام الكبير توقف في المصافحة ، فلم يجزها لورود نص عن الإمام جعفر الصادق .
فعندما سألته الكاتبة :
لماذا حرم الإسلام المصافحة بين الرجل والمرأة ؟
قال : إن الخط الشرعي يحرم مصافحة الرجل للمرأة الأجنبية ، ويحرم على المرأة مصافحة الرجل الأجنبي ، وقد ورد في ذلك أن الإمام جعفر الصادق (ع) سئل : "هل يصافح الرجل المرأة ليست بذي محرم؟ قال : لا ، إلا من وراء الثوب" ، "ولا يغمز كفها" ، فالمسألة من الناحية الشرعية محسومة ، لذلك فإن النبي  عندما أرادت النساء أن يبايعه ، وكانت المبايعة تتم آنذاك بأسلوب المصافحة ، قال : "إني لا أصافح النساء" ، فكان أن تمت البيعة بطريقة أخرى .
إن الإسلام كان واقعيًا في دراسة أحاسيس الرجل والمرأة ، ولما كان طبيعيا أن تعيش المرأة في حالات معينه شيئًا من الإحساس الجنسي عند ملامسة الرجل ، كما يعيش الرجل هذا الشعور عند ملامسة المرأة ، وهو أمر تعكسه الكثير من الروايات والقصص والمشاكل الاجتماعية التي توحي بأن المصافحة كانت الرسالة الأولى التي بعثها الرجل إلى المرأة أو العكس ، فإن الإسلام ، ومن باب معالجة مقدمات الحرام لا الحرام نفسه فقط ، حرم المصافحة ، وإن قيل إن المصافحة قد لا تحمل بالضرورة هذا الشعور ، فإننا نجيب بأنه عند وجود الاستعداد النفسي لاجتذاب الجنس الآخر أو الانفتاح الغريزي عليه ، تكون المصافحة المبادرة الأولى التي تمهد لما بعدها .
فالإسلام يحرّم المصافحة لأنه يحاول إبعاد الإنسان عن التجارب الصعبة ولو بهذا المستوى ، بمعني أنه يسعى إلى تجنيب الإنسان الاقتراب من الانحراف ولو بنسبة عشرة بالمائة ، ليكمل ذلك بالتشريعات الأخرى في علم النظر بشهوة أو بلذة أو في علم النظر إلى ما يحرم النظر إليه ، أو ما يشبه ذلك من الأمور التي تهيئ الجو للانحراف ، لأنه أي الإسلام ، يعتبر أن خلق القيمة الأخلاقية لا بد من أن يتم عبر تهيئه الأجواء المناسبة ، بحيث تصبح القيمة الأخلاقية ممكنة التحقق في الجو الملائم ولا يصبح معها الإنسان كما يقول الشاعر :
ألقاه في اليم مكتوفًا وقال له إياك إياك أن تبتل بالماء
لذلك ، فإن الإسلام يسعى إلى الحفاظ على نظافة الإحساس والشعور ، من خلال تجنيب الإنسان كل ما يسئ إلى هذه الطهارة الروحية والنفسية ، ولا تعود مسالة التحريم هنا إلى عدم الثقة بالدوافع الطاهرة لكثير من الناس ، ولكن الإسلام يريد أن لا يعرّض هذه الدوافع الطاهرة إلى تجربة يمكن أن تسئ إليها ولو بنسبة عشرة بالمائة (1) .
واستعراض الآراء الثلاثة توضح هيمنة فكرة "الفتنة" على أصحابها ، وإنه مادامت هذه الفكرة ليست فحسب موجودة ، بل مهيمنة ، فلا معدي عن الوقوف مثل هذه المواقف ، واتخاذ كل الوسائل "لسد الذريعة" وحماية الإنسان المسلم من هذا الخطر المدلهم والشر المستطير الذي ينبعث من المرأة !!!
إن الأمور إذا زادت عن حدها ، انقلبت إلى ضدها وهذا ما يحدث هنا ، لأنه يجعل الخوف من الفتنة والشهوة ، وهو احتمال محدود ، أمرًا واقعًا ويمكن أن يتضخم في الذهن نتيجة للتحريم فنقع فيما أردنا الفرار منه . الخوف من احتمالات وهناك لا يبرر وضع قاعدة عامة .
ويمكن للفقه الإسلامي أن يأخذ بما أخذ به الإتيكيت الغربي من أن الرجل لا يمد يده إلى السيدة ما لم تمد هي يدها أولاً ، وهو ما انتهي إليه الشيخ القرضاوي .
◄السبت الفصل السادس "معالجة قضية المرأة في ضوء فقه جديد"
◄أساسيات الفقه الجديد .
◄تطبيق هذه الأساسيات على قضايا المرأة
************************************************************************************
(1)الأديب : ذو الشعر الكثير .
(1)كما جاء في الكتاب الأبيض الذي نشرته "بنت النيل" ، ص 61:59 .
(1)صحح العلامة الألباني للشيخ المودودي هذه النقطة واستعرض الأحاديث التي استند عليها حديثا حديثا وختم قوله (إن الأحاديث التي استدل بها الأستاذ المودودي على أن النساء أمرن أن يخفين كل جسمهن غير الوجه واليدين عن كل الناس وفيهم آباؤهن وأخوتهن ، هذه الأحاديث غير صحيحة ولو صحت لم تدل على الدعوى ، بل أنها مخالفة لنصوص الآيات والأحاديث والآثار الصحيحة المصرحة بجواز نظر الرجال إلى محارمهن إلى ما سمح به الشارع كالرأس والقدمين وغيرهما من مواضع الزينة ، وهذا هو اللائق بسماحة الإسلام ويسره القائم على أساس ( وما جعل عليكم في الدين من حرج) انتهي الحجاب لأبي الأعلي المودودى طبعة دار الفكر دمشق ص428 ، ومن الغريب أن الأستاذ المودودي كان قد ترجم في شبابه كتاب قاسم أمين (المرأة الجديدة) ، وهو أشد وأصرح من (تحرير المرأة) (فأعجب لما تأتي به الأيام!!) .
(1)من كتاب (الحجاب) للمودودي ، ص 370 .
(1)من كتاب فتاوى المرأة المسلمة للدكتور يوسف القرضاوي ، ص 77 ، ص 78 .
(1)من كتاب فتاوى المرأة المسلمة للدكتور يوسف القرضاوي ص 79 ، ص 80 .
(1)من كتاب فتاوى المرأة المسلمة للدكتور يوسف القرضاوي ، ص 82 .
(2)المرجع السابق ، ص 83.
(1)والمخيط : آلة الخياطة كالإبرة والمسلة ونحوها .
(2)من كتاب فتاوى المرأة المسلمة للدكتور يوسف القرضاوي ، ص 87 ، 88 ، 89 .
(1)من كتاب فتاوى المرأة المسلمة للدكتور يوسف القرضاوي ص 99 ، ص 100 .
(1)من كتاب من كتاب (دنيا المرأة) لآية الله العظمي السيد محمد حسين فضل الله ، ص162 ، 163 ، دار الملاك بيروت .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.