لايزال فقهاؤنا المعاصرون يقصرون فقه المياه علي مسائل الطهارة والوضوء وغسل الموتي, ونري أنهم مقصرون في القيام بواجبهم الشرعي في بيان احكام المياه التي تؤثر بضراوة علي صحة الانسان, وسلامته العامة من جراء مشكلات تلوث المياه وناقلات الأمراض التي تسبح فيها وتهدد حياة الإنسان, كما تؤثر علي أمنه واستقراره الاقتصادي والاجتماعي من جراء الأعاصير والفيضانات والجفاف, أو من جراء قيام شركات متعددة الجنسيات بإنتاج واحتكار المياه الصحية وبيعها لمن يقدر علي دفع ثمن المياه الصحية ليقي نفسه وأهله من الأمراض, أو من جراء الحروب والمنازعات المسلحة التي تندلع, أو ستندلع في المستقبل القريب بسبب المياه. نقول هذا بمناسبة انتهاء اجتماع دول حوض النيل في شرم الشيخ الثلاثاء13 ابريل, والمؤكد أن هذا الاجتماع انفض دون أن يتطرق إلي المباديء الشرعية/ الفقهية الخاصة بحقوق دول الحوض في المياه, أو القواعد التي تضبط استخداماتها, أو تأثير المياه وأساليب إدارتها علي البيئة وحقوق الأجيال القادمة فيها, أو أهمية الالتزام بأخلاقيات السلوك المائي للأفراد والحكومات, وعن خطورة تحويل المياه الي سلعة للضغط علي إرادات الشعوب علي المستويات الوطنية أو الإقليمية, وللضغط أيضا علي المجموعات والأفراد علي المستويات المحلية. ولم يخطر علي بال أحد من المشاركين أن يتطرق إلي المسائل المطروحة للمناقشة المحلية. من منظور فقهي/ شرعي; ليس فقط لغياب هذا المنظور عن أذهانهم, وإنما لأن موضوعات المياه ومسائلها ومشكلاتها غائبة تماما عن اهتمامات الفقه الإسلامي الحديث والمعاصر, وتخلو منها جميع قرارات المجامع الفقهية الإسلامية علي طول العالم الإسلامي وعرضه, ولا تتناولها فتاوي دور الإفتاء الرسمية في أي بلد من بلداننا, ولا حتي بيانات وفتاوي مجالس واتحادات العلماء المسلمين, داخل الأوطان الإسلامية وخارجها في أوطان المهجر الأوروبي أو الأمريكي. حتي لو خطر علي بال أحد المشاركين في ذلك الاجتماع أن يلجأ إلي الفقه ليدعم رأيا له, أو موقفا لبلده, أو اقتراحا يقرب وجهات النظر بين المختلفين, فلن تسعفه مدونات المجامع الفقهية أو الفتاوي الرسمية وغير الرسمية, أو الموسوعات الفقهية ذات الأحكام الهائلة, وبينما تغص هذه المصادر بأحكام مياه الطهارة, وشروط صلاحية الماء للوضوء, ومتي يستعاض عنه بالتيمم, وما حكم مياه البئر التي سقط فيها فأر هل تجزيء في الوضوء أم لا؟ أو مياه الإناء الذي ولغ فيه الكلب, أو حكم التصرف في سؤر المؤمن... وغير ذلك من مسائل مياه العبادات, وشروط صحتها, ولكننا نجد تلك المصادر جافة تماما من فقه المياه في مجال المعاملات, وما يهم صحة الأبدان والبيئة والحياة من أساسها, وأحوال السلم والحرب المرتبطة بمصادر المياه. لم نسمع يوما فقهيا معاصرا يدلي برأي فقهي أصيل في قضايا تلوث المياه والمسئولية الجنائية التي يرتبها الشرع علي الذين يتسببون في هذا التلوث الذي يحصد أرواح كثيرين من الأبرياء, وأغلبهم من الفقراء والمهمشين الذين لا يستطيعون الحصول علي مياه صالحة للشرب, ولا حتي للاستعمال الآمن في الزراعة أو في المنزل. لم يجتهد فقيه واحد, ولا مجمع فقهي واحد في حدود علمنا في بيان حكم بناء السدود علي مجاري الأنهار في بلد,لحرمان بلد أو بلدان أخري من المياه أو لإرغامها علي تسديد فاتورة باهظة لقاء الحصول علي حصة عادلة من المياه تكفي احتياجاتها. ولم يجتهد أحدهم ليبين نوع العقوبات التي يرتبها الشرع علي الحكومات والمسئولين الذين يقصرون في صون مصادر المياه, وتطهيرها, وتوفيرها بالقدر الكافي لجميع المواطنين علي قدم المساواة باعتبار ان الناس شركاء في ثلاثة: الماء, والكلأ, والنار. وما الواجب فعله إذا تسببت سياسات حكومية عامة او محلية في إهلاك الأنفس, ومن ثم إهدار مقصد عام من مقاصد الشريعة, بسبب انتشار البلهارسيا, والملاريا, وحمي الضنك التي أثبتت البحوث العلمية أنها وليدة المياه الملوثة بملوثات صناعية أو طبيعية, وما التدابير الاستثنائية التي يجوز للدولة اتخاذها اذا شعرت بأن مصادر المياه باتت مهددة بخطر داخلي او خارجي؟ وما حكم احتكار الشركات الخاصة, والاجنبية لانتاج المياه وبيعها بأسعار مرتفعة لايقدر عليها إلا ذوو الثراء؟ وما حكم استهلاك آلاف الأمتار المكعبة من المياه الصالحة للشرب في ري ملاعب الجولف التي أنشأتها الطبقات المترفة في المدن الجديدة حول كثير من العواصم العربية, بينما الفقراء يموتون عطشا, او يقعون صرعي الأمراض الفتاكة بسبب المياه الملوثة التي يشربونها.. الخ. المصادر الفقهية الحديثة والمعاصرة تحديدا خالية من أي اجتهادات تتعلق بالقضايا الكبري للمياه في عالمنا المعاصر, وما تتسبب فيه المياه من منازعات وحروب تهلك الحرث والنسل, وتقضي علي أغلب مقاصد الشريعة المفترض أن تكون حاضرة بكثافة علي جدول أعمال المجامع الفقهية, والمجتهدين من العلماء: ليستخرجوا في ضوئها اجتهادات يضعونها أمام صناع القرار والمسئولين ويضغطوا عليهم كي يأخذوها في حسابهم وهم يتصرفون في مصالح الناس, أو وهم يرسمون السياسات العامة التي تؤثر في مصائر الشعوب والأجيال المقبلة. أما المصادر الفقهية القديمة, فما فيها من اجتهادات بشأن المياه قد فات أغلبه الزمن, ولم يعد صالحا لمخاطبة مشكلات الواقع المعاصر. في الفقه القديم إلي جانب باب الطهارة وأحكام المياه في العبادات نجد تفرقة بين ماء الخراج وكان يقصد به الأنهار والقنوات التي حفرها الناس, وماء العشر ويقصد به الأنهار التي أجراها الله سبحانه, مثل دجلة والفرات والنيل.. الخ. ونجد تأصيلا فقهيا رصينا لما كانوا يسمونه ماء السلطان في مصر مثلا, وقصدوا به بلوغ فيضان النيل ستة عشر ذراعا, وعندها يجب فتح بوابات الخليج المصري( حاليا منطقة أثرية بمصر القديمة) ويكون للإدارة أن تحصل الخراج علي الأرض التي ترتوي منه, وتسلمه لخزينة السلطان, ومن هنا كان سبب تسميته ماء السلطان. في الفقه القديم أيضا نجد ما يؤكد أن اجتهادات الفقهاء سايرت تطور الحالة الحضارية, وخاصة عندما زاد ارتباط الماء بالعمران المدني. وثمة مبادئ عامة يمكن تجديد الفقه المعاصر في ضوئها ومن ذلك أن الأصل في الماء أن يكون ملكية عامة بالنسبة لجميع مصادره السطحية الانهار والبحار والبحيرات وفروعها وقد ألقي الفقهاء علي الدولة المسئولية الأولي في توفير المياه والتكفل بجميع نفقاتها, أو بأغلبها, حتي تكون متاحة لمواطنيها بالقدر المناسب لاحتياجاتهم, وبالنوعية الصحية التي تحقق مصالحهم, وتحافظ علي بيئتهم وصحتهم العامة. واستقر الفقه القديم أيضا علي مبدأ أساسي هو أن حق الانتفاع من الماء أوسع من حق ملكيته ويلخص هذا المبدأ الرؤية الاسلامية بشأن تنظيم وإدارة واستغلال المياه وتوزيعها بعدالة, باعتبارها مرفقا حيويا. وبلغ حرص فقهائنا القدامي علي عدالة توزيع المياه الي إنشاء محكمة خاصة للفصل في منازعات المياه, وغير معروفة في تجارب الحضارات الأخري, سماها الفقاء محكمة المياه وهي كان أول ظهورها في مدينة بلنسية للأندلس في عهد عبدالرحمن الناصر سنة318 ه ولا تزال آثارها باقية. في دراسة قدمتها لندوة( فقه العمران/ مسقط3 2010/6) عن فقه إدارة المياه وحماية البيئة في نظام الوقف الإسلامي انتهيت إلي أن الفقه الإسلامي القديم بمختلف مذاهبه قد أدي ما عليه وزيادة في هذا الموضوع, وانتهيت أيضا الي أن الفقه الإسلامي الحديث والمعاصر لم يؤد ما عليه في موضوع المياه وقضاياها: منذ القرن الثالث عشر الهجري/ التاسع عشر الميلادي, الي اليوم ونحن في مطلع القرن الخامس عشر الهجري/ الحادي والعشرين الميلادي. فقه المياه بتطبيقاته الواسعة غائب عن اجتهادات الفقهاء المعاصرين, والمجامع الفقهية المعاصرة, وعن الدراسات الشرعية في المعاهد والكليات الجامعية, والعيب كل العيب أن يستمر هذا الغياب أكثر من ذلك. وعلي أساتذة الشريعة والفقه بالأزهر أن يبادر بعضهم بتعليم انفسهم وبعض تلامذتهم فن السباحة في بحور فقه المياه, خارج الحوض الضيق لفقه مياه العبادات.