تعقيبا على الرسالة التي نشرتها في الأسبوع الماضي للأستاذ محمد حمدي الوكيل بعنوان فقه الإمارة وفقه الطهارة، كتب الأستاذ أبو سليمان الشافعي ما يلي: دفعني لكتابة هذا التعقيب ما وقفت عليه فى المقال مما قد يبدو للمهتمين شيئا من عدم الدقة التاريخية فى تناول جانب هام من جوانب تاريخ الأمة الإسلامية ، وأيضا دفعنى لكتابة هذا الرد موقف الكاتب من التيار السلفى وموقف هذا التيار من العمل السياسى فى الإجمال وفى دولة الكويت بشكل خاص. وأرجو منك - تفضلا - أن تقبل توقيعى بكنيتى ونسبتى ، وذلك لأسباب لا يتسع المقام لذكرها، وأرجو أيضاً أن لا يؤثر هذا الطلب فى قراركم بنشر ردى هذا على نفس الصفحة من جريدتكم الموقرة، إن شاء الله، وأيضاً أرجو ألا يحول بينكم وبين نشر رسالتى هذه ما قد تحتويه الرسالة من تناول لبعض الأمور الفقهية التى قد تعتبر حساسة من قبل الكثيرين، وتقاطع تلك الأمور مع السياسة العامة، فقد اعتدت دائماً أن أقرأ على صفحات جريدتكم آراءً وكتابات من المنتمين لكافة التيارات الإسلامية فى العالم العربى مما يعكس روح الإخلاص والحياد وحسن النية من القائمين عليها، نسأل الله أن يكتب لنا جميعا الإخلاص فى القول والعمل. أما قول الأستاذ الوكيل: "علماؤنا (رحمهم الله و غفر لهم ) علي القدر الذي أثروا فيه المكتبة الاسلامية بأمهات الكتب في فقه الطهارة والوضوء والصلاة وبدرجة أقل الزكاة وبدرجة اقل الجهاد ثم بأقل ما يمكن أن نطلق عليه الفكر السياسي الاسلامي".. فهو قول يفتقر إلى الصحة جملة وموضوعاً، إذ أن منهج التأليف عند علماء السلف – وهم ممن قد عاش حتى نهاية عصر الحفاظ فى المائة التاسعة للهجرة النبوية المشرفة – كان يختلف جذريا عن منهج التأليف المعاصر، فإن هؤلاء السادة لم يكونوا يؤلفون كتبا مستقلة تعالج مواضيع بعينها كما هو الحال الآن وإنما كان تأليفهم معنيا بعلوم الإسلام ككل، فكان أحدهم يؤلف كتاباً مثلا فى الفقه على أحد المذاهب الأربعة، وتجد هذا الكتاب مثلاً يقع فى العديد من المجلدات الضخمة من مجلداتنا المعاصرة المنظمة المفهرسة ( ككتاب العزيز للإمام الرافعى أو المهذب للإمام الشرازى أو الحاوى الكبير للإمام الماوردى)، وتجد مثل هذه الموسوعات - إن جاز التعبير - تضم كل فروع الفقه الإسلامى بدءأ من الطهارة إلى أحكام الجهاد والرق والبيوع والزكاة وكل ما تحتاجه الأمة التى حكمت فى هذه الأزمنة العالم بلا منازع وبسطت العدل والتوحيد على كل أرجاء المعمورة، فالحكم بأن أكثر ما تم تأليفه كان موضوعه الطهارة، هو حكم يفتقر إلى الدقة على الحقيقة إذ أنه يتطلب منا أن نقوم بعد صفحات باب الطهارة فى كل كتب الفقه ومقارنتها بعدد صفحات ما كتب فى الزكاة مثلا أو فى الجهاد، وهو أمر كما يبدو غير عملى وقد يصعب تحقيقه، هذا إن تحققت مصلحة ما من وراءه أصلاَ. إذاً أحكام الجهاد والسياسة، العامة والخاصة ، الدقيق منها وغيره، موجودة فى كتب الفقه التى ألفها علماء السلف المنتسبون إلى المذاهب الأربعة الرئيسة فى الإسلام، أضف إلى هذا كله شروح الحديث، فالنبى صلوات الله وسلامه عليه بين للأمة ما يحتاجه المسلمون فى كل مجال من مجالات الحياة، وقد جمعت هذه الأحاديث ومحّصت فى صدر الإسلام، فلما بدأ علماء الإسلام فى العناية بهذه الأحاديث النبوية بالشرح والتفسير قاموا بشرح الأحاديث التى تتناول أمور الجهاد والإمارة والخلافة، ودونك شروح الكتب التسعة التى عليها مدار التعويل عند أهل الإسلام. وأذكر للقارئ مثالاُ من كتاب فتح البارى للحافظ بن حجر رحمه الله، ففى هذا الكتاب الذى يعد من أعمق الشروح لصحيح البخارى عدة أبواب تتناول بالشرح أحاديث نبوية تبين مواقف الرسول صلى الله عليه وسلم فى الجهاد والسياسة وغير ذلك وهى: 1- كتاب الجهاد والسير 2- فرض الخمس 3- كتاب الجزية 4- كتاب المغازى 5- كتاب إستتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم. فهذه هى خمسة كتب تقابل بابين يشرحان أحكام الطهارة وهما كتاب الوضوء وكتاب الغسل، مع التحفظ بالطبع على هذا التقييم الكمى للأبواب، إذ أن كل مسألة ولها عمق مختلف عن الأخرى، ومناقشة الطهارة على الرغم من بساطة أحكامها قد يحتاج إلى تفصيل دقيق لاختلاف المفاهيم الخاصة بالنجاسة والمياه مثلا من بلد إلى آخر، بالإضافة إلى ذلك، فإن الطهارة شرط فى صحة كل العبادات الفردية، وتلك العبادات تشكل الأركان الخمسة للإسلام، فهى ولا شك موضوع هام يجب تفصيله بما لا يدع مجالاً للشك فى صحة هذه العبادات لكل إنسان مكلف، وأيضاً فإنه فى العصور التى كتبت فيها هذه الكتب لم يكن عند المسلمين فيها مصدر للماء الجارى كما هو الآن، فكان يجب على العلماء أن يفردوا باباً أو فصلا فى كل كتاب يناقشون فيه أحكام المياه الصالحة للطهارة، فهذا مما ساهم بغير ريب فى إطالة الحديث على الطهارة فى كتب الفقه السالفة. بجانب ما كتب فى المؤلفات الفقهية الموسوعية التى ألفت فى عصور الخلافة الإسلامية وما كتب فى شروح الحديث النبوى الشريف، فإن ما دونه علماء الإسلام فى كتب التاريخ يمثل ثروة ضخمة للباحثين عن أحكام الجهاد والسياسة الشرعية، لأن منهج التأليف التاريخى عند علماء الإسلام فى هذه القرون كان يتناول ذكر الحوادث التاريخية التى مرت بالأمة وذكر حكمها فى وقتها من كبار علماء الأمة مما يشكل مصدراً ثرياً لمعرفة كيفية تعاطى علماء الإسلام فى شتى العصور مع النوازل التى قد ألّمت بالأمة الإسلامية، فهذا مصدر آخر لمعرفة أحكام الجهاد والسياسة والإمارة، وبطبيعة الحال فإن هذه الكتب التاريخية لا يمكن أن تثتثنى منها كتب الطبقات، والتى يمكن من خلالها معرفة أحوال العلماء ومدى علاقتهم بالسلاطين والملوك فى تلك العصور، وتقييم حال علمائنا اليوم ومعرفة مدى صدقهم فى التبليغ عن ربهم. وعلى الرغم من كل ذلك ، فإن المؤلفات المختصة والمفردة بتناول أحكام السياسة والجهاد قد تواترت وانتشرت فى العصور التى قد حدث فيها نكبات للأمة الإسلامية، مثل حروب الصليبيين والتتار لعنهم الله، فأذكر من هذه الكتب المتخصصة عشرة عناوين على سبيل المثال لا الحصر: 1- السياسة الشرعية فى إصلاح الراعى والرعية لابن تيمية الحنبلى 2- الأحكام السلطانية لأبى يعلى الحنبلى 3- الطرق الحكمية فى السياسة الشرعية لابن قيم الجوزيه 4- نصيحة الملوك للماوردى الشافعى 5- الإستخراج لأحكام الخراج لابن رجب الحنبلى 6- الخلافة والملك لابن تيمية الحنبلى 7- غياث الأمم فى التياث الظلم لشيخ الحرمين أبى المعالى الجوينى الشافعى 8- الإجتهاد فى طلب الجهاد لأبى الفداء بن كثير الحنبلى 9- الأربعون فى الحث على الجهاد لابن عساكر الشافعى 10- الحكم الجديرة بالإذاعة من قول النبى بعثت بالسيف بين يدى الساعة لابن رجب الحنبلى. بينما يصعب، بل قد يستحيل، أن يذكر الباحث فى علوم الإسلام وتاريخه عشرة كتب أفردت فقط لأمر الطهارة ، بعكس ما قرره الأستاذ الوكيل!! يتضح من كل هذا أن الأمة الإسلامية، التى بسطت العدل على العالم لمئات السنين وأسست حضارة روحية ومادية لم يسبق لها مثيل، ألف علماؤها فى كل المواضيع والمواقف والنوازل التى ألمت بها، والتى بطبيعة الحال من أهمها الجهاد والسياسة والخلافة، أما فى المواضيع التعبدية اللازمة أو الفردية، والتى لا تقل أهميتها فى الإسلام عن العبادات المتعدية، فإن علماء السلف من أهل السنة والجماعة رضوان الله عليهم أجمعين قد اكتفوا بما أوردوه عنها فى كتب الفقه والقواعد والأصول. أما بالنسبة لما ذكره الكاتب على لسان الشيخ الغزالى – رحمه الله – فى هذا الموضوع فأظن والله أعلم أنه كان يقصد الإشتغال بأمور الطهارة بالقدر الذى يشغل الإنسان عن العبادات المتعدية الأخرى مثل الجهاد فى سبيل الله أو عمارة بلاد المسلمين وإثرائها وسد حاجاتها، وأعتقد أن الشيخ الذى يعتبر علما من أعلام الأزهر الشريف لم يكن يجهل تاريخ الإسلام ولا مؤلفات علمائه، بل إن القول بأن هذا الشيخ الفاضل وغيره من العلماء الصادقين ثمرة من ثمرات علوم السلف التى ازدهرت فى الأزهر الشريف فى القرون الستة الماضية إنما هو قول لا يجانب الحقيقة على الإطلاق. وبالنسبة لقضية التغيير فى مصر وقاعدة (مالا يدرك كله لا يترك جله) فأنا أتفق مع الكاتب ولا شك، بل والواجب المتعين على علماء مصر أن يقوموا بالوقوف بجانب العدل ونصح أهله، فالقيام بنصح من يطلب الإمارة لسد حاجة المسلمين ونشر العدل بينهم هو بلا ريب أفضل وأجدى من محاربته وصد الناس عنه، هذا بالطبع مع الوضع فى الإعتبار الحدود الفاصلة بين النصح والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وتحذير الناس من الفسق والضلال، إذ أن كل من ذلك واجب دينى متعين على كل المكلفين. وأخيراً ، فإن العمل السياسى فى هذا الزمان – كالمشاركة فى الأنظمة التشريعية والتنفيذية – يعرض المرء إلى محاذير ليست بالهينة إذ أنها تمس صحة العقيدة والتى هى بمثابة العقد الذى عقده الإنسان مع الخالق جل وعلا، وكما تنتقد عقود الخلق بينهم وبين البعض فإن العقد بين العبد وبين الله قد ينتقض أيضاً، فعلى سبيل المثال، يجب على المسلمين العاملين فى السياسة، بالمعطيات التى تلت إنهيار الخلافة العثمانية وإقامة الأممالمتحدة والنظام الدولى الجديد، أن يجدوا حلولاً شرعية لتجاوز مسائل تعتبر من المسلمات فى الإسلام، كما نصت على ذلك كل كتب الفقه والعقيدة على مر تاريخ الإسلام، كمسألة الولاء والبراء فى ظل الحدود التى رسمت بموجب إتفاقية سايكس-بيكو، على سبيل المثال، ومسألة قبول الجزية من الوثنيين وإقرارهم على أصنامهم كما فى بلاد شرق آسيا الآن، ومسألة المشاركة فى الأنظمة الديمقراطية التى تساوى بين المسلم والكافر والفاسق والعدل من حيث الشهادة والأهلية، كل هذه المسائل التى قد ذكرتها على سبيل المثال لا الحصر تحتاج من المسلمين العاملين فى السياسة المعاصرة أن يجدوا لها حلولاً شرعية لأنها تصطدم مع ثوابت الإسلام، فإذا وجدت هذه الحلول بمعرفة المتخصصين فى علوم الشريعة الإسلامية من الذين تتحقق فيهم شروط الإفتاء من العلم والعدالة والإستقلال، واستقر عليها جمهور علماء الإسلام بغير معارضة أصولية ولا عوار بيّن ، فإن العمل فى السياسة حينئذ يكون مباحاً على الراجح. أما أن تنطلق جماعة ما فى الخوض فى السياسة بغير اعتبار لهذه المسائل الحادثة بسبب إنعدام دولة الخلافة، فإن هذا الإنطلاق وإن حقق بعض المكاسب الظاهرة للمجتمعات الإسلامية، يستحيل القول بأنه يستند إلى سند شرعى يحمى القائمين به من الزلل فى هذه المحاذير الخطيرة، ويستحيل القول أيضاً بأن مثل هذا الإنطلاق يمثل إقتداءً بعلماء السلف وإنتساباً لعلومهم، فهؤلاء السادة لم يعرف عنهم المروق عن الشريعة وأحكامها ولا التحرك أو العمل بغير سند فقهى منضبط، ولهذا ارتفع شأن الإسلام فى عصرهم وقمع الله لهم الكفار من كل لون وجنس حتى دانت لهم أغلب أرض أوروبا وأفريقيا وبسطت دولة الإسلام التوحيد من الصين إلى إسبانيا ومن جنوة ورومانيا والقسطنطينية إلى أقاصى أفريقيا. ختاماً فإنى أشكركم وأشكر الأستاذ الوكيل على غيرته على الإسلام وأهله، وأدعو الله العلى القدير أن يجعل خير أعمالنا خواتيمها وأن يجعل خير أيامنا يوم نلقاه إنه ولى ذلك والقادر عليه. أبو سليمان الشافعىّ السادس عشر من جمادى الثانية 1431 ه [email protected]