بعد مرور أكثر من أربعين سنة علي كتابة الطيب صالح ل"موسم الهجرة إلي الشمال"، تبدو هذه الرواية _ المُنعطف شامخة، مُكتنزة لمكونات فنية ودلالية تجعل منها معْلما يُؤرّخ به لتحوّل عميق في مجري الرواية العربية المعاصرة. وهذه المُعاينة تستمدّ صدقيتها من النص ذاته، القابل لأن يتجدد من خلال القراءة النقدية، ولأنْ يُثبت ريادته عبر المقارنة مع روايات سابقة وأخري لاحقة عليه. قبل أن تنشر رواية "موسم الهجرة" العامَ 1966، كان النمط السائد في الكتابة أقرب ما يكون إلي طريقة الصنع "الواقعية" متمثلة في توفيق الحكيم ونجيب محفوظ ويحي حقي وآخرين، كانوا منشغلين باستكشاف ورصد الملامح الجديدة لمجتمع يعيش تحولات بُنيوية وقيميّة، نتيجة الاستعمار وردود الفعل التحررية المتطلعة إلي الاستقلال. من ثم، كان الخطاب الروائي العربي، في معظمه، متفاعلا مع المُتخيّل الوطني وأسئلة التطور الاجتماعي ضمن سياق تختلط فيه موروثات الماضي بمعطيات حديثة تفتقر إلي الأسس المُستوعبة والحاضنة. لكن الرواية استطاعت في أكثر من بلد عربي، أن تضطلع بدوْر المرآة العاكسة لمرحلة الانتقال، والمُحتوية علي أسئلة تحمل قلق الفرد العربي المتطلع إلي تحقيق ذاته وإسماع صوته، بعيدا من جوْقة الكورس الوطني والديني. كانت هناك بضع روايات تتميز بالصوت ذي النغمة المتفردة التي تحتضن صدي القلق الكامن في أعماق الفرد المُواجه لأسئلة التحرر والوجود، مثل "أديب" لطه حسيْن، و"عصفور من الشرق" لتوفيق الحكيم، و"قنديل أم هاشم" ليحيي حقي ؛ ثم بعد ذلك في مطلع الخمسينات من القرن الماضي: "الحيّ اللاتيني"لسهيْل إدريس، و"أنا أحيا"لليلي البعلبكي...في مثل هذه النصوص، لم يكن الاهتمام الأساس منحصرا في لملمة فسيفساء الواقع المتفجر وصوْغه في محكيات عاكسة لمظاهر التبدلات وما يرافقها من خطاب مُستجد، وإنما تخطي ذلك إلي مستوي صياغة أسئلة تمسّ مجال الخلاقة، أي القيم والدين ومقارنة الأخلاق بعضها ببعض، وهو ما مهد الطريق لبروز ثيمة "الآخر" في وصفه أفقا ونقيضا مُحركا لأسئلة جديدة. وفي مطلع ستينيات القرن العشرين، وقُبيْل نشر"موسم الهجرة"، كان السياق السياسي الاجتماعي يحبَل بأمارات الخيبة، وتحوّل الثورات الانقلابية إلي أنظمة استبدادية لا تختلف كثيرا عن الأنظمة الأوتوقراطية الموروثة، ما جعل طموحات الاتجاه القومي العربي نحو الوحدة والديمقراطية تتعثر وتدخل في مرحلة البيات الشتوي المُستدام. إلا انه في مقابل ذلك التعثر السياسي كان هناك حراك اجتماعي وثقافي يعلن عن مرحلة جديدة في المثاقفة والتفاعل مع الإبداع والفكر العالمييْن . وهو ما جعل النخب المثقفة تجنح إلي الانضواء تحت أجنحة اليسار الماركسي المتطرف بوصفه أفق خلاص من الأنظمة الرجعية والعسكرتارية ، وجعل أجيال المبدعين في الستينيات تتمرد علي الأشكال الكلاسيكية والإحيائية والواقعية، ودفعها إلي استثمار أشكال وطرائق تكشف جوانب مهمشة من حياة المجتمع وسلوكياته وردود فعله في فترة ما بعد الكولونيالية... في ظل هذا السياق الملتبس، المُحتقن،المنذر بالهزائم، صدرت رواية"موسم الهجرة". وعند القراءة الأولي، تبدو الرواية بعيدة عن الأسئلة الراهنة المطروحة آنذاك، لأنها"نزحتْ"إلي فضاء أوروبي، إلي لندن وجامعاتها ومنتدياتها ومحافل اللهو والمتعة بعد الحرب العالمية الأولي ؛ والبطل مهاجر من السودان يُيمّم وجهه إلي حيث منبع العلوم والحضارة الحديثة المُتصدّرة قيادة العالم، لكنه ليس مهاجرا عاديا،"تابعا" بل هو يحمل في ثنايا ذاكرته وطبقات لاوعيْه موروثا من التقاليد والطقوس والمعتقدات والأحقاد، ومن ثم فإن اللقاء مع مُستعمر الأمس لن يكون مجرد فرصة للتعلّم والترقّي، وإنما هو لقاء للمجابهة وطرح الأسئلة المسكوت عنها، ومواجهة الموروث الفاعل في الأعماق علي ضوء المُكتسَب الوافد من حضارة الآخر. لكن الخاصّة المميزة ل"موسم الهجرة"هي أن الطيب صالح طرح الأسئلة الجوهرية التي كثيرا ما طرحها فنانون ومفكرون منذ القدم، مثل العلاقة بالحب والجنس والطبيعة والموت، إلا أنه صاغها عبْر شكل روائي يوحي ولا يجزْم، يتدثر بالالتباس ويفسح القول لأكثر من صوت ورأي. من هذه الزاوية، تبوّأتْ "موسم الهجرة"مكانة تجمع بين مفصليْن: القطيعة مع شكل وموضوعات روائية سائدة، ثم التأشير علي اتجاه يستأنف الكتابة بطريقة مختلفة تنحو صوْب الشمولية وتوظيف مُكوّنات روائية حداثية، تبلورتْ منذ مطلع القرن العشرين في أوروبا والعالم. كيف نعيد قراءة"موسم الهجرة"؟ حظيت"موسم الهجرة"، كما هو معلوم، بقراءات عديدة، وأُسبغَتْ عليها صفات ترتقي بها إلي مدارج العبقرية والخروج علي المألوف... وأكثر ما انصبّ الاهتمام عند دارسيها علي شخصية مصطفي سعيد ومغامراته الجنسية أيام إقامته بأنجلترا، وكذلك تأويل العلاقة الإشكالية بين الجنوب، في وصفه فضاء تقليديا،"متخلفا"، والشمال باعتباره المنارة المتحركة علي طريق التقدم العلمي والتكنولوجي والحضاري. وإلي جانب تلك القراءات، برزتْ قراءات تمتح من التحليل النفساني ومصطلحاته لتكشف عن بواعث السلوك المعقدة، غير المألوفة ن عند مصطفي سعيد. ولا شك أن جميع هذه الزوايا القرائية والتحليلية تُلقي الضوء علي مكنونات الرواية وتلفت النظر إلي غناها وخصوبتها. إلا أنني، وأنا أعيد قراءة"موسم الهجرة"بعد مُضيّ فترة طويلة علي آخر قراءتي لها، وجدتُ أن النص بمُكوناته السردية والحكائية ودلالات شخصياته وفضاءاته ولغاته، يشتمل علي عناصر كافية في حدّ ذاتها لأنْ تُبرز عمق المسالك التي حفرتْها وطوّعتْها، فاتحة الباب أمام مُنعطف- معلَم، ستستهْدي به الرواية العربية منذ ستينات القرن الماضي لتتوغّل في مناطق وثيمات تُوسع من دائرة التخييل وتزحزح دعائم المُتخيّل الروائي العربي. من هذا المنظور، أريد أن أعيد قراءة"موسم الهجرة"مُلحا علي عنصريْن اثنيْن: طرائق السرد، وشمولية الثيمات التي يلامسها الكاتب في إهاب يجلّله الالتباس. (1)تضعيف السرد وربط الماضي بالحاضر تصلنا محكيات"موسم الهجرة"عبْر سارد أساسي هو محيمد الذي رجع إلي السودان بعد غيبة دامتْ سبعة أعوام قضاها في أوروبا للتعلم وطلب المعرفة ؛ وهو سارد مشارك في الفعل بصورة أو بأخري. لكن صوت مصطفي سعيد يظل هو المركز الذي تتموْضع من حوله بقية الأصوات الساردة: السارد المنظّم، محجوب، بنت مجذوب،ود الريس، حسنة بنت محمود، عشيقات مصطفي سعيد... باستثناء الفصل الثاني، تأتينا جميع الفصول علي لسان السارد الشاب الأستاذ الذي يعمل بالخرطوم. لكن صوت سعيد لا يحتلّ فقط الفصل الثاني، بل يعود من خلال قصاصات الأوراق والمذكرات التي تركها، ومن خلال تعليقات وملاحظات سبق أن أبداها للسارد الناظم. علي هذا النحو، لا تصلنا قصة مصطفي سعيد دفعة واحدة، بل عبر مونتاج تكتمل عناصره تدريجا. وما يسترعي الانتباه في طريقة السرد، هو أن تضعيف الأصوات الساردة وتجزيء المحكيات والأحداث، قد ساعدا علي تحيين أسئلة تمتدّ في تاريخ سابق، وأتاحا ربط الماضي بالحاضر حتي يظل هناك استمرار وتفاعل بين عناصر مؤثرة في مصائر الشخوص، وفي صوغ إشكاليات تتخطي الظرفي العابر لتلامس المكونات التاريخية علي المدي البعيد.
من هذا المنظور، يصبح التماهي بين مصطفي سعيد والسارد الشابّ مُبرّرا وذلك لوجود تشابه في السياق المعرفي والعلاقة بالآخر ؛ إلا أن هناك اختلافا في ما يتصل بالمرحلة التاريخية وتفاصيل التجربة الجنسية. وهو اختلاف لا يمحو الالتقاء بينهما في صفة البطل الإشكالي، لأن كلا منهما واجَه أسئلة الانتماء إلي المتخيّل الوطني ومُعضلة التعاطي مع الآخر، وإشكالية الاستئناف في سياق ما بعد الكولونيالية. لأجل ذلك فإن صوت السارديْن الأساسيين: سعيد والشاب محيمد كثيرا ما يتخذ طابع الحوار السجالي والمجابهة، لأن السارد يجد نفسه في موقع المقارنة والمنافسة،خاصة وأن عاطفته مالتْ إلي زوجة سعيد السودانية، ووجد أن سعيد لم يلتزم بموقف أخلاقي، لا مع زوجته ولا مع عشيقاته الأجنبيات. وقد يكون أقرب إلي الدقة القول بان التشابُك بين مصطفي سعيد والسارد يعود بالأساس إلي أن كلا منهما ينتمي إلي فئة البطل الإشكالي الذي لا يقبل بقيَم التبادل المنطوية علي التشييء والابتذال، ويتطلّع إلي قيم التعامل داخل مجتمع"مُنحط"أو في طريقه إلي الانحطاط. وهذا ما يُشخصه سعيد في مساره الحياتي منذ وعَي قيمة َ التعليم والمعرفة، ثم حين يئس من الغرب وعاد إلي موطنه باحثا عن القيم المفقودة. وفي المقابل، يواجه السارد، بعد ثلاثة عقود علي تجربة سعيد نفس الإشكالية ضمن سياق تختلف تفاصيله، لأنه سياق ما بعد استقلال السودان المطبوع باستمرار موروثات المجتمع القبلي، وتفتُّح شهوات المُرتشين والساسة المغرمين بتصريحات النوايا اللفظية! هذه الخلفية الإشكالية تتضافر مع نسيج السرد حيث نجد أحد مرتكزاته تنحو إلي تبريز مسار المثقف خلال مرحلتيْن تاريخيتيْن وضمن نفس الثنائية المُستعصية: الانفتاح والحوار والصراع مع الآخر؛ ومن جهة ثانية،استيعاب الموروث الاجتماعي والديني والثقافي ومُجاوزته باتجاه بلورة أطروحة تركيبية تجعل الاستئناف ممكنا في عالم سريع التبدُّل. من هنا، نجد أن طريقة السرد المُضعّفة، المُتنقّلة بين أزمنة ماضية وأخري متصلة بالحاضر، تزعزع مركزية قصة مصطفي سعيد وهيْمنتها علي نص الرواية ؛ وفي الآن نفسه تُوسع نطاق الفضاء والثيمات، فلا تظل منحصرة في تمثيل عالم المثقف العربي خلال مرحلة الاستعمار وتجربته مع حضارة الآخر، بل تمتدّ لتستحضر عبر الكلام والأصوات المتلفّظة به، خلفيات وحواشي المجتمع الذي تحدّر منه كل من سعيد والسارد عبْر مشاهد وأحداث يومية تؤكد عتاقة التاريخ وتأثيره المستمر في الحاضر. إن هذه الصيغة السردية تخدم وتتلاءم مع مكونات النص المنبنية علي ما يشبه روايتيْن متوازيتين ومتداخلتيْن: واحدة عن تجربة مصطفي سعيد المعقدة، وأخري عن المجتمع السوداني من خلال بلْدة صغيرة علي نهر النيل، تنتصب فيها التقاليد الراسخة الموروثة، إلي جانب التبدلات التي حملها العصر، حيث يمتزج اليوميُّ بالأسطوري. وعلي رغم الحيّز الكبير، نسبيا، الذي يحظي به شخوص البلدة ومجري الحياة فيها، فإن قراءات عديدة جنحتْ إلي اختزال"موسم الهجرة"في شخصية مصطفي سعيد ومحكياته وقلّما انتبهتْ إلي هذا العنصر الستراتيجي في السرد والذي يُغرق سعيد في دفْق الزمن والطبيعة اللاينقطع عن الجريان: "هنا تبدأ أشياء وتنتهي أشياء، ومنطقة صغيرة من هواء بارد، رطب، يأتي من ناحية النهر، وسط هجير الصحراء، كأنه نصف حقيقة وسط عالم مليء بالأكاذيب. أصوات الناس والطيور والحيوانات تتناهي ضعيفة إلي الأذ ُن كأنها وساوس، وطقطقة مكنة الماء المنتظم تُقوّي الإحساس بالمستحيل. والنهر، النهر الذي لولاه لم تكن بداية ولا نهاية، يجري نحو الشمال لا يلوي علي شيء". هذه الفقرات ذات اللغة المكتنزة، هو ما يجعلني أميل إلي اعتبار"موسم الهجرة"أقرب ما تكون إلي"المحكي الشعري"الذي يوظف كثافة الوصف والتعبير، ويستبدل الإيجاز والتلميح بالإطناب والتفصيل ؛ كما يضفر تمثيل الواقع واليومي بعناصر مجنحة تُؤسطر الفضاء والشخوص. وضمن هذه التركيبة من السرد وتداخُل الأزمنة، يستثمر الطيب صالح تقنية الحوار الداخلي كلما تعلق الموقف بالبوح أواستعادة لحظات انفعالية بارزة. غير أن هذا الحوار الداخلي المجسّد للاوعي لا يكتسي المدلول الفرويْدي الذي يعتبر اللاوعي مسرحا أو موضعا للْوهْم، وإنما هو أقرب إلي التحديد الذي يُعطيه له دولوز عندما يري أن اللاوعيَ مصنع لإنتاج الرغائب، وأن الإنسان آلة مُشتهية، راغبة. ومن ثم فإن الرغبة تدفع إلي تشكيل وإنتاج الواقع لجعله مطابقا لرغبات واشتهاءات المرء، علي نحو ما كان مصطفي سعيد يفعل في مغامراته النسائية... (2)"موسم الهجرة" وشمولية النص نقصد بشمولية النص، ما يتعدي السياق المحلي الذي تنبثق عنه كتابة النص ليُلامس الكوني المشترك علي صعيد التجربة الجمالية والدلالية في تلقّي النص. بتعبير آخر، الرواية الشاملة يتجاور داخلها اليوميُّ والواقعي مع الأبعاد الوجودية والأسئلة المصيرية، وتكون مُتوفّرة علي خلفية معرفية تُجاوز السياق المباشر إلي أفق"ترانساندانتال"(استعلائي ). مع التدقيق بأن الرواية الشاملة لا تنطلق من أسئلة فلسفية جاهزة، وإنما من تجارب المعيش وتفاصيله لتصوغ من خلالها أسئلة تحمل خصوصية الصيرورة التي هي قيْد التشكُّل. في"موسم الهجرة"، نجد أنها تؤشر علي البُعد الشمولي لموضوعها انطلاقا من البنية السردية والحبكة الواصلة بين محكيات النص: فالسرد يتمّ أساسا من خلال مصطفي سعيد والأستاذ محيمد، والحبكة تنبني، في جزء منها، علي اختفاء سعيد أو موته أثناء فيضان النيل، مخلفا وراءه أسئلة ومواقف تحاصر السارد المُؤتَمَن علي أسراره. وهذا الأخير يجد نفسه مطالبا بالاختيار، فيختار استئناف الحياة علّه يعثر علي حلول للمعضلات التي واجهها سعيد وحمّله أعباءها. ويحيلنا نص الرواية علي بعض تلك المعضلات الجوهرية مثل: العلاقة بالآخر، استيعاب الموروث في سياق تاريخي مغاير، تحقيق الذات من خلال الحب والجنس... وتندرج جميع هذه الثيمات في سجلّ أوسع وأشمل يتصل بالثقافة والتاريخ والحضارة. وإذا كان مصطفي سعيد قد اختار القطيعة مع حضارة الآخر لاكتشافه أنها وهْمٌ خلقتْ منه أكذوبة، وافقَدتْه الطمأنينة والانتماء إلي القيم الغربية التي تزعم أنها قيم كونية، فإن السارد الشابّ يقرر استئناف الحياة ؛ وهو استئناف يعني _ من بيْن ما يعنيه _ ممارسة الحرية وابتداعَ مواقف ووسائل لمتابعة الرحلة الحياتية في سياق ما بعد الاستعمار ( ما بعد الكولونيالية )، أي في سياق مختلف عن تجربة مصطفي سعيد. علي هذا النحو، ومن خلال هذه الثيمات ذات الأبعاد الفكرية والوجودية، يبرز الطابع الشمولي ل"موسم الهجرة"، ليجعل منها محفلا روائيا يمتزج فيه الحياتي بالتأملي، ويغدو التفكير بالقلب مُجاورا للحدسية المُتعقلة. علي سبيل التأويل من المسائل التي تستوقفنا بعد إنهاء قراءة"موسم الهجرة"، أن السارد الشابّ يقرر أن يستأنف الحياة، فيما اختار مصطفي سعيد الانتحار أو الانسحاب والتواري عن الأنظار. من هنا يتخذ قرار الاستئناف أهمية كبيرة لأنه يرتبط بضرورة ابتداع الحرية ن والتجرؤ علي الاختيار في سياق مغاير هو سياق ما بعد الاستعمار. والحرية، كما هو معلوم، محفوفة باحتمالات الخطأ وثقل المسؤولية، كما أن الاختيار مراهنة علي الفعل من أجل تغيير ما يعوق نُمو الحرية وتطورها: أليستْ هذه المعادلة هي علي رأس أولويات الأسئلة التي تواجه الفرد العربي؟ وما تزال مطروحة بقوة باعتبارها نقطة البدء لمَنْ يريد زحزحة"الليفياتان"(= الغول الشرير ) الكاتم للأنفاس، المحطم لسيرورة التحرر وانطلاقة الفعل المثمر؟ ألا تعود قيمة"موسم الهجرة"إلي كونها ألقت ضوء قويا علي قيمة الفرد وخصوصيته علي رغم غلبة الغيْرية وسطوة الرقابة الجماعية؟ من هذا المنظور، أري أن"موسم الهجرة"استطاعت أن توصل الرواية العربية المعاصرة إلي مفْصل أصبح معلما يؤشر علي قطيعة مع طريقة السرد وتناول موضوعات الحياة، كما يقترح استئنافا للكتابة الروائية في اتجاه التجديد واقتحام الأسئلة المحرمة والمسكوت عنها. وهو طريق أسهم في التحضير له روائيون عرب آخرون بنسب متفاوتة، ثم جاءت رواية"موسم الهجرة"لتُشرّع الأبواب وتلفت النظر إلي سلطة التخييل والمحكيات في مجتمعات عربية متعطشة إلي تحرير الذاكرة ومساءلة التاريخ، وتشييد خطاب منفتح علي الحاضر والمستقبل يجدد المتخيّل ويوسع فضاء الحوار. غير أن ما يجب أن نسجله للطيب صالح هو ريادته علي صعيد استيعاب الشكل الروائي الحداثي، وتطويعه للتعبير عن تجربة لها خصوصيتها. وهذا راجع إلي كون الطيب قرأ نصوصا عالمية وتمثلها قبل أن يبدع كتابته الخاصة. نجد في كتاب د. محمد شاهين"تحولات الشوق في موسم الهجرة إلي الشمال"(1993)، ما يؤكد هذه المعاينة، خاصة في الفصل الثالث الذي يعقد فيه مقارنة بين "موسم الهجرة"و"قلب الظلام"لجوزيف كونراد (1857- 1924 )؛ فقد حلل بتفصيل تقارُب طرائق السرد في الروايتين، واعتمادهما علي شخصية أساس وسارد مرتبط بهذه الشخصية ( مصطفي سعيد والراوي محيمد مقابل كورتز والسارد مارلو في قلب الظلام ). ولا يتعلق الأمر باقتباس الطيب صالح من كونراد، وإنما حقيقة الأمر أن الطيب كان قارئا واعيا لروائع الرواية العالمية فاستطاع أن يوظف تقنيتها في صوغ تجربته الخاصة. نتيجة لكل ذلك، استطاعت رواية"موسم الهجرة إلي الشمال"أن تدشن نموذجا للرواية"الشاملة"التي تُعطي للشكل والسرد أهمية جوهرية، وتلتقط من خصوصية تجربة الأفراد والمجتمع مشاهد وأحداثا تجعلها موصولة الأسباب بالأفق الإنساني الذي يتجلي عبْر التخييل والأسطورة وصراع العواطف والأهواء والأفكار.