إذا اعتبرنا خالدة سعيد ناقدة سورية، فإن يمني العيد ستكون الناقدة اللبنانية الأبرز، وهي جديرة بأن نعدّ خطواتها ونلاحقها، جديرة أن نركض خلف ما تكتبه، وإذا رأينا ما تكتبه أصبحنا راغبين في النظر إليه بأكثر من عينين اثنتين، بأكثر من أربع عيون، بأكثر من قلب، كنت منذ زمان أحن إلي الكتابة عن يمني، كنت أحن معها إلي كتابة تغلبها المحبة ويتخللها أقل اللوم والعتاب، لولا أن بعض اللبنانيين شغلوني بلهوهم، فوجئت بأخبار تتناثر عن جوائز وهمية يمنحها ويدبر لها رجال أعمال لبنانيون يقيمون في المهجر الخليجي، يصطنعون لجنة تشبه كل لجان التحكيم التي نعرفها، ويلتفتون لحسن الحظ إلي أعمال مثل رواية حسن داود »مئة وثمانون غروباً« والتي أتصورها الرواية الأكثر استحقاقاً للبوكر العربية الثالثة، ومثل ديوان حسن العبدالله وهو شاعر يمكن أن نغني معه قصائده ونشعر بكينونتنا ووجودنا، وإذا قرأ علينا الدردارة سننصت ولن يشغلنا غير دردارته، أو غير أن نطلب منه الاستزادة بقراءة راعي الضباب وأذكر أنني أحببت، ولكنهم لسوء الحظ يلتفتون أيضاً إلي رواية تندس بين هذه الأعمال الجميلة فتفسد المشهد. أعترف مرغماً أن للأعمال الرديئة فوائد جمة، أولها أنها تغري بالكتابة عنها، وتسهلها، وأننا نتعلم منها كيف نتفادي السقوط، وهذه الرواية الفائزة، تذكّرنا بكل روايات صاحبتها، ولكنني أريد أن أحلم، أريد أن أطأ بأقدامي ساحل بيروت، وأبحث عن ناقدات الأدب، لعلي أري إحداهن تحت المظلة، أو تحت شمس ساخنة، وأنني أريد أن أحلم، أفضل أن تكون الناقدة المستلقية علي الرمل من معارفي، فنتجالس ونتهامس ونثور ونحتد ونهدأ ونشرب ماء الحماسة مثل صديقين، فكرت في ريتا عوض، هل سأقتحمها وأتعرف عليها، هل سأسألها المغفرة والعفو، وإذا حدثتني عن أدبنا الحديث بين الرؤية والتعبير، فلن أعرف كيف سأهرب من كلمة التعبير، وإذا حدثتني عن خليل حاوي أيضا لن أعرف كيف سأهرب من أخيه إيليا، وكيف سأنظر إلي صورة جبران في عينيه، وإذا انشدتني ريتا ما أنشده حاوي: عمّق الحفرة يا حفار، عمِّقها لقاع لا قرار، فإنني سوف أنطوي علي جروحي وأصمت حتي تسأم ريتا مني، فكرت في أمينة غصن، قلت لنفسي، إنها تكتب عن جاك دريدا، وأنا لم أفهم الرجل ولم أحبه، وعندما رأيته أحسست بانقباضة خفيفة، ستكون أمينة بعيدة عني بمقدار ما يمكن أن يشغله دريدا من مساحة، قلت لنفسي، إنها تكتب عن النقد المسكوت عنه ، وعن الحداثة بلا جذور، ولها رواية لم أصل إليها، ولها اسم يناديني، ولكنني ضبطت نفسي أتلصص وأنظرفي عدسة كاميرا حديثة تخصها، ورأيت عين العدسة مصوبة علي شعر لا أحبه، تخوفت أن أظلم نفسي إذا ظلمت أمينة غصن. كان يجب أن أفكر منذ البداية في يمني العيد، إنها ضالة التائه، إنها ضالتي ، كتابها الدلالة الاجتماعية في الأدب الرومنطيقي كان الجسر الخشبي الأول بيننا، عبرت إليها مصحوباً بجبران ونعيمة وإيليا وفرحات والريحاني والآخرين، عندما رأيتها أول مرة تأكدت أنها طائر جميل ساقه حظه التعس لأن ينحشر بين قطيع من الثيران، ولكنها ستظل تلك المرأة، أقصد تلك الإنسي - الألف في الأنسي مقصورة، إنها الياء التي ننطقها ألفاً - أقول، ولكنها ستظل تلك الإنسي الجالسة فوق حقل أسرار عميقة ومعارف رائدة، اتساع الأراضي التي تملكها يمني، سيؤخر تحقيق حلمي، كتبها عن القول الشعري وعن الكتابة تحول في التحول، وعن معرفة النص، وعن تقنيات السرد الروائي، كتبها كلها ستجعل حلمي أكثر من صعب، فاجتياز بلد صغير أسهل من اجتياز قارة، لابد أن أخرج من الحلم، خارج الحلم أصبحت أري فن الشعر الذي أحبه، يتقافز ويتولدن ويتخلي عن رغبته في أن يكون صانعاً للوجدان العام، يتخلي عن دوره الجماعي الذي أرهقه كثيراً، خارج الحلم أصبحت أري الرواية تسرع وتلتقط ما تخلي عنه الشعر، تلتقط الوجدان العام وبقية اللوازم، فتنتقل إليها حمّي الأغراض، وحمّي المناسبات وحمّيات المدح والفخر والهجاء، أغلبه هجاء يتربص بالشعراء، هكذا فعل الروائي العراقي نجم والي في روايته تل اللحم، وآذي الشاعر حسب الشيخ جعفر، فآذاني، وآذي سواي، وكذا فعل خيري شلبي في روايته موال البيات والنوم، وتعقب الأبنودي وزملاءه، وتعقب سيد خميس، وكذا فعل توفيق عبدالرحمن في روايته قبل وبعد، وتألفت تقاليد روائية جديدة لممارسة الهجاء، كان ديستويفسكي يرسم صورة كاريكاتورية لتورجنيف، وكان نجيب محفوظ يجعل من المرايا هجائيات متفرقة، ولكن شفافية الاثنين وقدرتهما علي التلميح، انقلبت عند آخر معاصرينا إلي تصريح ملح، تصريح لا يسدل الستار، ولا يقبل منك أن تسدل الستار، إنه يهتم بأن تعرف الشخصيات وأسماءها وخباياها إن أمكن، فأنت أمام مسرح مكشوف، تحت فضاء مكشوف، وداخل لغة مكشوفة.
لم تعد الرواية نهر ديستويفسكي ونجيب محفوظ، وإنما، وعند البعض، أصبحت موضوع خلافات ومصالح ومصالحات نمطها طموحات صغيرة تجعل الإنسان محض حشرة صغيرة في حقل مهجور، أما فن الرواية ذاته فهو مجرد خيمة منسوجة من مخطط استهلاكي، أصبحت الرواية مثل كائنات هايدجر، أصبحت - علي يد هؤلاء - هي الكائن القابل للاستبدال، ما إن يُوجد حتي يسعي نحو الزوال، وما ان ينتج حتي يسعي نحو الزوال، وما إن ينتج حتي يسعي نحو الاستهلاك، وأيضا نحو الهلاك، فيترك المكان فارغاً لما سوف يحل محله، وأصبحت بعض تقنيات الرواية مثل الموضة، قيمتها ووظيفتها في استبدال الباترونات من فصل إلي آخر ومن سنة إلي أخري، صاحب الرواية نفسه أصبح موضة، أصبح مجرد كائن وقتي يوجد غير أنه يظل في انتظار ما سيأتي، ذات يوم بعيد فاجأني يوسف الشاروني بأن كتب دراسة عن قصصه في كتاب كان عنوانه »الخوف والشجاعة في قصص يوسف الشاروني« لم أكن اعتدت ذلك، ولكن الشعر يعلمنا ان نتوقع أكثر مما فعل يوسف، فالشعراء علي مر العصور فخروا ومدحوا ما يكتبونه من شعر دون أن نسأمهم ودون أن نستغرب، وفي بعض الأحيان، كانوا يستميلوننا إلي جانبهم فنردد ما قالوه عن قصائدهم معجبين مبهورين، والمتنبي شاهد إثبات قديم، ونزار قباني شاهد إثبات معاصر، ومع ذلك فاجأني الشاروني، وبررت مجموعاته الجميلة العشاق الثلاثة والزحام وغيرها، بررت حقه في الكتابة عن نفسه، فاجأني أيضاً اللبناني سعيد تقي الدين الذي كان يكتب اهداءه هكذا: إلي سعيد تقي الدين المعجب بنفسه حتي العبادة، لولا أن كتاباته ومسرحياته ومساجلاته كانت كافية لتشفع له، إلا أنني اعترف بأنني أرتاب كثيرا عندما أقرأ رواية يختار مؤلفها أن يجعل بطلها كاتباً وروائياً بالتحديد، ويضع علي لسانه أقوالاً عن قداسة الكتابة، من هذه الروايات التي لم أتفاجأ بها كثيرا، لأنني قرأتها بقوة الفضول الذي دفعتني إليه رغبة الآخرين في فضح النميمة، وتعرية أسماء الأشخاص الذين تقصدهم الروائية، ولأنني أيضا سبق أن قرأت مصادفة ثلاث أو أربع روايات للمؤلفة ذاتها ذات الوجه البلند والشعر الذهب، كانت كلها كافية لانتظار كل شيء منها في سبيل أن تحجز مكاناً في فندق خيالي لا يؤمه إلا الكتاب ،تحجزه بهاجس الاستحقاق مادامت تعلم الفلسفة لطلاب الجامعة في لبنان، ومادامت تملك قدرة أن تصل إلي المصطلح التائه، الذي لم يستطع أحد أن يعثر عليه قبلها، فاللغة العربية هي الوحيدة بين لغات تعرفها التي تُسمِّي الكائن البشري بلفظ يحمل صيغة المثني وهو إنسان، أي الجمع بين إنسين، وهو اعتراف واع أو غير واع بأن هذا الكائن البشري هو اثنان مختلفان وليس واحداً، وبالتالي هو ذكر وأنثي، وهذا يعني أن اللغة العربية تقر بكيانية المرأة كذات، من هنا يكون اشتقاق مصطلح إنسي، ألف مقصورة تكتب ياء، بدل امرأة للتدليل علي أنثي الكائن البشري، فمصطلح امرأة هو تأنيت مصطلح المرء، والمرء هو النكرة الذي ليس له هوية محددة، وكلنا يعرف - الكاتبة تقول - أهمية دور الاسم في كيفية انوجاد المسمي، لهذا السبب فإن إلهام منصور تقترح وتطالب انطلاقا من قناعتها ان نعتمد مصطلح إنسي بدل مصطلح امرأة، وهذا ما بدأت تعتمده في رواياتها.
والدكتورة إلهام لها كتب نظرية هي لبنان الحضارة والوحدة، وأمين الريحاني رائد نهضوي من لبنان، ونحو تحرير المرأة في لبنان ولها سبع روايات، ثامنتها رواية تركت الهاتف يرن، وهي الجملة الأخيرة في الرواية التي اختارتها لتكون عنواناً. السيدة إلهام ليست ماكرة بالقدر الذي يحول المكر الشرير إلي مكر فني، ولا بالقدر الذي يسمح بالتجاوز عن المكر غير الفني وبقبوله، إنها ماكرة هكذا، ماكرة بفجاجة، روايتها تتأسس علي صوتين لامرأتين صديقتين عدوتين، تتبادلان كتابة الفصول، الناقدة منهما ستكون صاحبة الفصل الأول، والروائية - وهي الكاتبة نفسها - ستكون صاحبة كلمة الختام »تركت الهاتف يرن«، إنهاعدالة تشبه عدالة المقصلة الفظة، سطح الرواية يشي بأنها رواية هجاء، وأن الروائية في الرواية هي إلهام، وأن الناقدة المهجوة هي امرأة نعرفها، ولا غرابة في الأمر، الهجاء في رواية إلهام يتأسس علي افتراضات أنثوية لا أنسوية، أي أنها تضل بعيداً عن المصطلح الذي اخترعته، فهناك رجل مرموق كأنه مهدي عامل، كأنه سواه، كان علي علاقة عشق بالناقدة، وعندما يقابل الروائية ينذهل ويعلن معشوقته بإنهاء علاقتهما، آملا في علاقة عشق جديدة، الروائية طاهرة مستحيلة مشغولة برجل آخر يعطيها احتياجاتها من الجنس، الروائية تعتذر ولا تستجيب، لكن جرح الناقدة سينزف قيحاً يملأ كل فتحات الرواية، والروائية الطيبة ستظل طوال صفحات الرواية تمسح القيح وتزعم لنفسها انه دمٌ رائق صاف، أنه دم الغزالة، الروائية هي الصواب المقيم، بينما الناقدة هي الخطأ المقيم، وباستاتيكية حذرنا منها البعيد عن إدراك إلهام، حذّرنا منها يحيي حقي، ستظل الكاتبة تعيد وتزيد في شرح طرق نزف القيح وطرق إزالته مما يسمح للرواية أن تصل صفحاتها قرب الأربعمائة صفحة، وللناقدة ابنة شابة من زوجها الذي تعاشره وتخونه، وكما خطفت الروائية إعجاب العشيق، خطفت أيضا إعجاب الابنة، هذا هو السطح الخشن لرواية ساذجة، لكن ما تحت السطح هو الأكثر إزعاجاً، فالحقيقة أن الكتاب كله مكتوب من أجل إشادة بإنجازات الكاتبة وفي ميادينها جميعاً، مؤتمراتها وأبحاثها وصداقاتها وإخلاصها ورواياتها وأدائها الجنسي، حتي أنها لا تترك بحثاً أو رواية من رواياتها التي كتبتها من قبل أن تتخذ قرارها بقطع علاقتها نهائياً بالناقدة لأن الكيل قد طفح، لم تترك إلهام عملاً من أعمالها دون أن تمدحه علي ألسنة الجميع، علي ألسنة الطير، لسان المعصوم حنا مينه، ولسان المعصوم مطاع صفدي، ولسان ليلي، لعلها ليلي العثمان، ولسان أمينة العبد عندما تعترف لنفسها، ولسان سهام، ولسان عيسي لعله موسي وهبة أو وهبي، ولسان هادي، وهادي هو العشيق الذي سيموت غيلة في وسط الرواية، تقول إلهام إن نموذج أمينة العبد زودني ببعض الحكمة، مضيفاً إلي مكتسباتي تجربة جديرة بنقلها إلي الكتابة لأشكّلها علي هواي، مازجة بين الواقع والخيال في رواية قفز عنوانها مباشرة إلي ذهني، الرواية كلها حيلة في الترويج لأعمال صاحبتها، حيلة في عشق الذات، والترويج لا ينتج فناً، أما عشق الذات فهو هاجس يمكن أن ينتج فناً عند فنان مقتدر، مكر إلهام كما قلنا كان فجاً، لأنها لم تترك لنا سبيلاً كي نتصور أن شخصياتها متخيلة، لقد حاصرتنا، فالكاتبة في الرواية والتي اسمها ليال، هي نفسها إلهام، السيرتان تتطابقان، ليال تعد بحثاً عن أمين الريحاني وروايتها الأولي سيرة أولي، والثانية عن رحلة الجسد، والثالثة سيرة مكان، والرابعة عن السحاق، ثم الخامسة خروج علي موضوع السحاق، وإلهام فعلت الأشياء ذاتها، وبالترتيب ذاته، والناقدة في الرواية والتي اسمها أمينة العبد هي نفسها الناقدة المعروفة والتي اسمها يشبه ذلك الاسم، ووقائع حياتيهما واحدة، وجائزة العويس هي جائزة العويس، والمناصفة مع ناقد مصري تتواقح وتقول عنه إنه تافه وكلنا نعرفه إنه فاروق عبدالقادر وهادي يدل اسمه وشواغله وطريقة موته علي شخص نعرفه جميعا ونقدره، وكأن محمد في الرواية هو محمد دكروب، لذا ستتردد الأسماء علي الألسنة، حتي شبكة علاقات الناقدة أمينة العبد التي تتجاوز حدود لبنان إلي جابر عصفور، ستبدو كأنها إصرار علي التسمية والكشف.
الرواية كلها هجاء هكذا، ومدح هكذا، معلقة في سقف الرواية مثل المصابيح الكبيرة، معلقة أنشوطات الجوائز والأسفار والأوسمة والتكريمات والأحاديث الصحفية باعتبارها مبعث القيمة مما يجعل سقف الرواية واطئا جداً لحد أنك لا تملك أن تقف تحته، لا تملك أن تجلس، فقط يمكنك أن تنبطح علي وجهك أو ظهرك كأنك عبد، كأنك حياة تافهة، عندما خرجت من كابوس الرواية، كنت أريد أن أحلم، أريد أن اطأ بأقدامي ساحل بيروت، وأبحث عن ناقدات الأدب، أريد أن استرد طمأنينتي، أكثر ما أراحني، أن ريتا عوض لم تكتب عن عمل واحد لإلهام منصور، كذا فعلت أمينة غصن فيما أعلم، أما يمني العيد فلا أظنها ببصيرتها النقدية يمكن أن تسمح لقدميها بالانزلاق إلي مثل هذه الكتابات، طمأنني أن يمني العيد بعيدة جدا عن هذا المستنقع، وفي حركة غير محسوبة نبشت مكتبتي، وأخرجت روايات ليلي بعلبكي وحنان الشيخ وهدي بركات ونجوي بركات ورجاء نعمة ويوم الدين ومريم الحكايا ورينيه حايك وايمان حميدان وصففتها أمامي فصنعت برجاً عاليا ، حوله رصصت كتب الناقدات ، وعلي رأسها الدلالة الاجتماعية في الأدب الرومنطيقي ثم جمعت كتب إلهام، الباقي منها ثلاثة كتب، ولم أشأ أن أضعها خارج بيتي ليلتقطها عابر سبيل، فعلت معها ما يجب أن نفعله مع كتب إفساد الذوق، وضعتها في كيس من القماش التيل، كأنها جثة صغيرة، فكرت أن ألقيها في النيل، ولم أفعل، ومازلت لا أعرف طريقة الخلاص، كل القديسات أدخلن علي قلبي السعادة، ماعدا القديسة الطاهرة إلهام منصور فقد أتعستني، وجعلتني أعرق من الخجل، ولما شممت رائحة عرقي، وجدتها زنخة مثل رائحة الجثة في كيس القماش التيل، استحممت ولا فائدة، الكيس أصبح ثقيلاً، أشك أن بعضاً من اللحم قد أضيف إليه، نجنّي يارب.