المأساة الحقيقية أن هذه الثقافة الراسخة التى خلقت كتلة حرجة مثلها مثل أطفال الشوارع أفرزت أجيالا كاملة فى مناصب حساسة وقيادية وفى الإدارات التنفيذية ليس لديهم أى كفاءة لتقلد هذه المناصب وتقدمت الدنيا من حولنا وظللنا ثابتين فى هذه الحقوق المقدسة التى ما زالت تتبنى لوائح وأعرافا أكل عليها الدهر وشرب مثل «الأقدمية»، أى أن الترقيات والعلاوات والمزايا تزيد بزيادة عدد السنين التى يقضيها إخواننا المقدسون فى المؤسسات فينال كل منهم ترقيته حسب دوره فى الطابور وتاريخ التعيين (حتى وإن كان فى إجازة دون مرتب لأعوام) أما الكفاءة الحقيقية والقدرة على القيادة وجميع عوامل إنجاح أى مؤسسة التى يجب أن تتوفر فى الأشخاص المنتمين إليها فهى أساطير مثل أسطورة «المصلحة العامة» أو «صالح العمل»، مما يعنى بالضرورة أنه من النادر أن تجد شابا فى مركز قيادى مهما كانت درجة تعليمه أو كفاءته، والعجيب أن المناصب القيادية تبعا لهذه اللوائح البائدة لا يتقلدها إلا من لا يوجد لديهم طموح وأقصى أمانيهم هو قضاء الأيام المتبقية لهم حتى المعاش فى سلام حاملين معهم المسمى الوظيفى الأخير ليفتخروا به أمام ذريتهم، فهم يشعرون أنه نوع من التكريم أو التشريف، ومن المضحك أن هؤلاء هم أصحاب القرارات التى تتعلق بالمستقبل. إن الروتين والبيروقراطية التى تنخر أرواحا شابّة فى هذه المؤسسات تقتل فى نفس الوقت فرصا هائلة فى الاستثمار والتطور والتقدم فقد تشعّبت المشكلة حتى أصبح يتم استحداث إدارات لمجاملة أشخاص بعينهم والوقوف أمام أى محاولات للميكنة أو التطوير لأنك فى هذه الحالة ستضطر للاستغناء عن أعداد هائلة من الموظفين الذين لم يعد لديهم مكان فى سوق العمل الحقيقى الذى أصبح يلهث لكى يتمكن من ملاحقة النظريات الحديثة فى عالم المال والأعمال فى حين أن خبراتهم لا يحتاج إليها أحد بل إنه من الأفضل لها أن تندثر مع لوائحها القديمة البالية، وفى نفس الوقت لا تستطيع الدولة التخلى عنهم للبعد الإنسانى والاجتماعى، وليت كان لهم نفس الالتزام تجاه الدولة فيحاولون تطوير أنفسهم أو حتى الاستجابة له عندما يقع! الحق أننى أمضيت سنوات طوال أسيرة فكرة أن هؤلاء الموظفين أصحاب مرتبات ضئيلة وبالكاد يستطيعون العيش -وهذا حال كثير منهم بالتأكيد، إلا أنهم بطبيعة الحال أفضل ممن ليس لديهم دخل على الإطلاق- حتى أتت ثورة يناير وقام العديد منهم بمظاهرات لمطالب فئوية مما يعكس أولوياتهم الحقيقية وهى مصلحتهم الشخصية وليست المصلحة العامة بحال، وما زال الحال على ما هو عليه بعد قيام ثورتين وعدد فلكى من المظاهرات والاحتجاجات. لم ينل التغيير شيئا من هذه المؤسسات وقد تكون هذه هى الدولة العميقة التى يتشدق بها محدَثو السياسة فى بلدنا، فالدولة العميقة ليست دولة مبارك كما يروِّج البعض ولكنها دولة «عبد المأمور» كما قال إبراهيم عيسى، فما زال الموظف يتعامل مع رئيسه مثلما وصف الأديب العظيم نجيب محفوظ بطل رائعته «حضرة المحترم» «عثمان بيومى» وما زال يحلم بالترقية باعتبارها الهدف الأسمى والأعظم وللأسف ما زال نظام العمل كما هو منذ الثلاثينيات، زمن الرواية، تقريبا. أتخيل لو أن الدولة هى صاحب عمل حقيقى وأنها تقيِّم موظفيها بالمعايير العالمية القياسية للتقييم، وأشفق عليها وأشفق على مَن ستقوم بتقييمهم، وأشفق على ما آل إليه الحال حين أرى مؤسسات عملاقة عجزت عن إخفاء هذا الفساد والعبث الإدارى مثل الإعلام أو التليفزيون المصرى الذى يئن كغيره من العمالة الزائدة والبطالة المقنَّعة ولكنه لسوء حظه تعرَّى أمام الكاميرات التى لم تتمكن من إخفاء فشل المذيعين والمخرجين والقدرة على جلب إعلانات وتغطية الأخبار.. إلخ، عن المشاهد الذى انصرف عنه غير عابئ بأن هذا المذيع أو ذاك «قريب المدير» بل إنه كما قالت الإعلامية القديرة سناء منصور «الأفضل للدولة أن يتم إغلاقه توفيرا للكهرباء»! ومثال آخر ظهر جليًّا بعد ثورة يونيو، هو الأداء المتردى لوزارة الخارجية المصرية فى توصيل الصورة الحقيقية لما يحدث فى البلاد، وانتصرت علينا قناة دولة حديثة تعداد سكانها قد يكون أقل من تعداد موظفى الوزارة، وكما قال د.مأمون فندى مدير المعهد الدولى للدراسات الاستراتيجية بلندن، إن السبب فى ذلك أن موظفى الخارجية بالخارج لا ينشغلون إلا بإرضاء رؤسائهم، كما أن وجودهم بالخارج هو بمثابة مكافأة نهاية الخدمة وليس اعتمادا على كفاءاتهم! أذكر أننى سمعت مقولة منسوبة إلى السيد/ عمرو موسى عندما كان أمينا لجامعة الدولة العربية أنه لا يستطيع العمل لأن جميع مرؤوسيه أقارب لوزراء ومسؤولين كبار فلا يملك أن يصدِر إليهم أوامر أو توجيهات! قِسْ على ذلك وزارة التربية والتعليم ووزارة البحث العلمى وكل المؤسسات التى يُفترض بها أن تنهض بالدولة وتوفر لها القاعدة الأساسية لبناء دولة حديثة قادرة على مواجهة التحديات الشرسة التى لا تعترف بالوساطة ولوائح الستينيات. كان رهانى الدائم على منطق السفينة الغارقة أو لحظة الحقيقة، حيث كان لدىَّ قناعة بأنه دائما فى لحظات الغرق التى تواجه فيها الموت وتراه بعينيك تلجأ دائما إلى من تتيقن أنه سينقذك، أى الشخص القادر على الإنقاذ فعليًّا وليس الشخص المسؤول وظيفيًّا، لذا اعتقدت بسذاجتى أنه فى ظل كل هذه المتغيرات والاقتصاد البائس للدولة أن القائمين على الأمر سيلجؤون إلى أصحاب الكفاءات الحقيقية إلا أنه من الواضح أن هذه البيئة الفاسدة لم تثمر كثيرا من هؤلاء... أتمنى أن يظهر عاقل راشد جرىء يواجه هذه الكارثة المتوارَثة قبل توريثها مرة أخرى لجيل يفترض أنه جيل الثورة والتغيير، أم أن الأمر أصبح كما قال خبير أجنبى تمت الاستعانة به لتطوير إحدى المؤسسات فرحل بعد أقل من عامين مقرًّا بأن «هذه البيئة غير قابلة للإصلاح»!