صدر أول كتابين لكيريل ميدفيديف فى السنوات الأولى من حكم فلاديمير بوتين لروسيا، ولقيا ثناء كبيرا فى الوسط الأدبى الروسى، كما أنهما أثارا جدلا واسعا فى الوقت نفسه بوصفهما كتابين غريبين قيل فى حقهما إنهما نتاج تأثر مباشر بتشارلز بوكوفوسكى، وهو الشاعر الأمريكى الكبير والمارق على السواء، والذى ترجم ميدفيديف بعض أعماله إلى الروسية. على كل حال، اعتبر ميدفيديف فتحا شعريا فى روسيا، واعتبر أهم شعراء جيله، ويا لها من مسؤولية، سرعان ما ضاق بها الشاعر ذرعا، فلم يمض وقت طويل على تحقيقه هذا النجاح حتى ضجر من الأدب والفن كله، وأطلق لنفسه مدونة إلكترونية، وبدأ نشاطا سياسيا، يعارض فيه النظام مثلما يعارض تسليع الكتابة، ويعترض على فكرة حقوق الملكية الفكرية، وبات لا ينشر أعماله إلا من خلال هذه المدونة. وحدث أن جاءت دار نشر روسية كبيرة فانتقت مما نشره ميدفيديف على مدونته بعض الأعمال وأصدرتها تحت عنوان «أعمال تصدر دون إذن مؤلفها». مؤخرا، صدرت لميدفيديف باللغة الإنجليزية مختارات من كتاباته تحت عنوان «ما ليس بحسن: قصائد ومقالات ومنشورات» بترجمة وتحرير كيث جيسين. ومن هذا الكتاب هذه القصيدة: صاحبى ميشا نشر مقالة فى مجلة أفيشا ولكن باسم شخص آخر أقصد أنهم دمجوا مقالته مع مقالة شخص آخر (وإن يكن بعد استئذانه) حينما أرسل ميشا إليهم رسالة إلكترونية يسأل فيها إن كان سيحصل على أية مكافأة ردت المجلة برسالة من كلمة واحدة «لا»، حكى لى ميشا هذا فغضبت غضبا شديدا وقلت لميشا لو كانت أفيشا فعلت هذا معى لأحرقت كل جسورى وفى الواقع كنت لأتصل بهم على الهاتف وأقول لهم بوضوح رأيى فيهم وفى أُمَّهاتهم ولو لم أجنِ من المسألة برمّتها إلا قليلا من الرضا عن نفسى لكن ميشا صبور وذكى ولعله توصل إلى طريقة يحول بها الواقعة كلها لصالحه ميشا سيفعل كل شىء فى حياته على النحو الصحيح بينما سأبقى أنا جالسا هنا فى أعماق الخراء جنب مبادئى. ■ ■ ■ وتبقى الحياة بحاجة إلى ميشا، وصاحب ميشا، كما أنه لا يمكن تخيل الحياة دون مجلة «أفيشا» أيضا. بل إن الحياة ولو فى قراءتنا لهذه القصيدة هى مجلة «أفيشا» نفسها، هى صفحاتها وأبوابها ومحرروها، ورئيس تحريرها من قبل ومن بعد. هى هذه السلطة مهما يكن اسمها التى تتحكم فى أسباب حياتنا، بل التى تسهم فى صنع أسمائنا، أى أنفسنا تقريبا. فكيف يتعامل المرء مع هذه الحياة، مع السلطة الحاكمة للحياة مهما تكن؟ هناك اقتراحان يمثل ميشا واحدا منهما، ولنسمِّه الاقتراح الإصلاحى. هذا الاقتراح يتسم بالبراجماتية، يقبل أصحابه بما يلقى إليهم، لا يهتمون كثيرا بحجم الانتصار الذى يحققونه، لا يعنيهم فى شىء أن يكون ضئيلا، المهم أن تكون المقالة نُشرت، نُشرت من دون اسمنا هذه المرة؟ لا مشكلة. نُسبت إلى غيرنا؟ نحتمل. المهم أن مجلة تعرف الآن شخصا اسمه ميشا، تعرف أنه يجيد الكتابة، صحيح أنها لم تدفع له الآن، ولكنها سوف تدفع بعد حين. هؤلاء الإصلاحيون يتسللون بهذا الصبر إلى المؤسسات، يحاولون التغيير من الداخل، وفى بعض الأحيان ينجحون، فيفاجئنا نحن القراء مثلا أن فى مجلة «أفيشا» قسما جيدا بحق، وكأنه ليس جزءا من مجلة «أفيشا» الوضيعة التافهة. وهناك صاحبنا، صاحب «أفيشا»، وهو الذى يمثل الاقتراح الثانى. الاقتراح الراديكالى. الذى يأبى إلا أن يرفع سماعة الهاتف ويتصل بالقائمين على مجلة «أفيشا» ليسمعهم ما لن يسرهم، وما لن يؤثر فيهم ربما، وما قد يُلحِق بالمتصل ضررا أكبر من أى ضرر يمكن أن يوقعه فى الجهة التى يتصل بها. ولكن الراديكالى هذا على رعونته الظاهرة بالغُ الأهمية. صحيح أنه قد يبقى جالسا جنب مبادئه لا يحقق من مكاسب الدنيا أى شىء. لكنه مهم للغاية، مهم لأنه يذكّرنا بأن هناك بدائل للإذعان، بأن الأصل فى البشر هو الثبات على المبادئ لا الالتفاف عليها. مهمّون أمثال هؤلاء المبدئيين لأنهم بمجرد رفضهم للفتات يكشفون أنه فتات. بمجرد بقائهم فى بيوتهم يكشفون عورة «أفيشا»، والمتواطئين مع «أفيشا»، والمنتفعين من «أفيشا»، والقابلين بالذل طمعا فى مكافأة النشر فى «أفيشا».