رحل الشاعر الدكتور كمال نشأت، رحل دون أن تلتفت إليه صحف ومجلات وقنوات فضائية، رغم أنه أجدر بكثير من شعراء تصدروا هذه الواجهات الإعلامية، ولكنه آثر طوال حياته أن يبقى قابعا فى شعره، وخلق قصائده ودراساته النقدية، هذه الدراسات التى بالطبع كانت تثير وما زالت خلافات حادة مع الأجيال التى تعاقبت عليه، وكانت هذه الأجيال تتطاول عليه بالنقد الجارح مرة، وبالرجم الفادح مرات، حتى إن أحد أبناء جيلى السبعينى أهداه مرة ديوانا جديدا له، فكتب: «إلى جيل لم نعد فى حاجة إليه».. وهكذا يقرر الصديق السبعينى نهاية هذا الجيل، ويصدر حكم الإعدام عليه، وهذا لا يدخل فى باب النقد أو وجهات النظر، ولكنه يندرج تحت بند أخلاقيات الثقافة التى تردت إلى درك وضع، وهكذا قررت الأجيال الجديدة نفى ومحو وإلغاء الأجيال الجديدة، تحت مظلات مختلفة، ويافطات متعددة. وبعيدا عن سرد الحياة الثقافية والإبداعية التى عاشها الشاعر كمال نشأت، هذه الحياة التى امتدت لأكثر من ستين عاما، وقد تجاوز عمره الخامسة والثمانين عاما، إذ ولد الشاعر عام 1923، وبدأ كتابة الشعر ونشره عام 1949 وفى هذا الوقت المبكر جدا كان الشاعر يسأل أسئلة وجودية، وكان متأثرا بشعراء أبوللو، وخاصة الشاعر إبراهيم ناجى، وهناك وجه شبه بين الشاعرين، وإن كان نشأت راح يتخلص من هذا الشبه رويدا رويدا، حتى تكونت شخصيته الشعرية المستقلة، ومن قصائده الأولى قصيدة السؤال الخالد، والتى يتساءل فيها عن سر الوجود فيكتب سائلا، (1946): (إنى سألت مفازة الزمن المخلد من أنا؟ من أين جئت وما المصير للخلود أم الفنا ومن الذى ألقى بروحى فى متاهات الضنى فأجابنى صوت خفيض رن فى نفسى صداه ما أنت إلا بذرة نبتت بصحراء الحياة لو كنت تعرف سرها لعرفت أسرار الإله فسألت نفسى ما الحياة وما الممات وما الخلود فأجبنى صوت خفيض: أنت أسرار الوجود السر فى جنبيك تحجبه المطامع والقيود) هكذا راح يسأل نشأت نفسه، ويطرح عليها هذه المعضلات الفلسفية، والتى بالطبع تشغل الشعراء فى بداياتهم، حتى تستقر ذواتهم نسبيا، لينخرطوا فى أشكال أخرى من الأسئلة والشعر.. والانغماس المجتمع.. ويصدر الشاعر ديوانه الأول «رياح وشموع» عام 1951، ويقدمه بكلمة ينتصر فيها للروح الجديدة التى بدأت تدب فى القصيدة العربية، يقول فيها: (لا شك أن شعرنا العربى المعاصر فى تطور دائب وتقدم حثيث نتيجة اتصالنا بالآداب الأخرى وأخذنا عنها، فإن التقاء التيارات الثقافية للأمم المختلفة يلقى طابعه على النتاج الأدبى، وشعرنا العربى الحديث يحمل الآن طابعا جديدا تلمسه فى شعراء العالم العربى المتأثرين بالآداب الغربية.. وهنا يرصد نشأت الأثر الذى تركته الثقافة الغربية والأدب الغربى فى الشعر العربى الحديث، خاصة عند نازك الملائكة، الشاعرة العراقية، ويستشهد بها نشأت فى مقدمته، ويقتبس منها بعض أقوالها. وهناك أثر أيضا نلاحظه عند شاعر آخر وهو بدر شاكر السيباب، لذلك نلاحظ أن كمال نشأت ينفتح على ثقافة الغرب، فيترجم لهم، ويكتب عنهم، رغم أنه حاول أن ينتصر للمظلومين فى ثقافتنا العربية، أيما انتصار، فكانت رسالة الدكتوراه عن الشاعر أحمد زكى أبوشادى، فهو مغبون كما يقول، ثم كتب كتابا عن مصطفى صادق الرافعى عام 1968، ويكتب فى مقدمة الكتاب: (ولعلى بكتابتى عن أبى شادى والرافعى أنبه دارسى الأدب إلى الاحتفال بالأدباء المنسيين، فلن تتكامل صورة أدبنا الحديث إلا إذا ألقينا الضوء على جميع الوجوه، الحاضر منها والغائب، الكلاسيكى منها والمجدد، وذلك فى موضوعية نزيهة، حتى تتحقق لهذه الصورة قسمات الصدق). ورغم العطاء الكبير الذى بذله الشاعر فى حياته المديدة، من شعر ونقد ودراسات أكاديمية وترجمة، إلا أننى أريد أن ألقى الضوء على واقعة جوهرية، حدثت لكمال نشأت، وشغلت الرأى العام طويلا.. وبداية القصة تنطلق عندما ذهب الشاعر فى عام 1950 إلى أستاذه الشاعر إبراهيم ناجى ليكتب له مقدمة ديوانه: «رياح وشموع»، ولكن ناجى انشغل عن المقدمة، فانصرف نشأت، ونشر ديوانه عام 1951، ثم رحل ناجى عن عالمنا عام 1953، ولم يرد قصائد نشأت له، ونشأت أيضا لم يطالب بها، لأنه كان يحتفظ بنسخة أخرى منها، وكانت القصائد مذيلة بتاريخ كتابتها فقط، دون توقيع الشاعر، وعندما شكلت وزارة الثقافة لجنة لتجمع شعر الشاعر، وتصدره فى مجلد يضم الأعمال الشعرية الكاملة لناجى، ضمت إلى هذا المجلد سبع عشرة قصيدة لكمال نشأت، وصدر المجلد بدراستين وتمهيد، كتب التمهيد بواسطة اللجنة المشكلة، وهى مكونة من الشعراء: أحمد رامى، وصالح جودت، وأحمد عبدالمقصود هيكل (أحمد هيكل)، وشقيق الشاعر محمد ناجى، وأوضحت اللجنة فى نوع من التعاظم والحنكة كيف جمعت هذا الشعر، وبيقين شديد جاء فى نهاية المقدمة: «وقد حاولنا جهدا أن نجمع كل ما نثرت النحلة من شهد فى مختلف الرياض، وما بعثرت الشمعة من ضوء فى مختلف الأجواء، فإن كنا قد وفقنا إلى شىء فالله ولى التوفيق). ثم جاءت الدراستان لقراءة حياة الشاعر، ثم قراءة لدواوينه، وعندما التفت المحيطون بهذه الواقعة.. صرخ كمال نشأت، إذ إن الشاعر كان قد نشر قصائده فى ديوانه: «رياح وشموع» منذ عشر سنوات خلت، واللجنة لا تدرى، ولا تعلم، وسدرت فى غيها، وقامت الدنيا كلها، وكتب النقاد والصحفيون، وهدد نشأت باللجوء للقضاء، وبالفعل رفع قضية أمام المحاكم وطالب بتعويض مادى قدره ثلاثة آلاف جنيه، فما كان من اللجنة إلا أنها وضعت بيانا فى مستهل المجلد تحت عنوان: «أسف واعتذار»، قالت فيه: «وقد شاء سوء الحظ أن تكون من بين القصائد التى سلمها إلى زملائه أى محمد ناجى الذى كان قد رحل أعضاء اللجنة على أنها من نظم صاحب الديوان، بضع قصائد ليست له، وكان ناظمها، وهو الأستاذ كمال نشأت، قد تركها عند صاحب الديوان فى حياته، يكتب لها مقدمة، وفات صاحب هذه القصائد أن يذيلها بتوقيعه، أو يترك عليها أثرا يشير إلى أنها له، كما فاته أن يطالب بها صاحب الديوان فى حياته، ولا ورثته بعد مماته، فاختلطت هذه القصائد بشعر ناجى.. ويتضح طبعا من هذه الفقرة المقتبسة من البيان أن اللجنة تحاول أن تنفى عن نفسها أى تهمة، وتكاد تكيل الاتهام الأساسى على رأس الشاعر كمال نشأت الذى ترك شعره دون أن يطالب به، وتركه دون توقيعه. والمذنب الآخر هو الأستاذ محمد ناجى، والذى كان قد رحل، وهكذا تكون اللجنة المشكلة من جهة وزارة الثقافة قد تخلصت بكل يسر من أى تهمة، وهذا شأن اللجان الرسمية، والجدير بالذكر أن الأستاذ أحمد هيكل أصبح وزيرا للثقافة فيما بعد.. ولكن الذى أهاجته حملة النقاد والصحفيين وكثير من أعضاء اللجنة، كان الشاعر صالح جودت، وكتب يرد بعنف ورعونة على الذين أثاروا المعركة، ليرفع عن اللجنة أى حرج، وكتب مقالا فى المصور يرد به على الجميع، حتى على مسئولى وزارة الثقافة ذاتها الذين وجهوا لوما وعتابا خفيفين إلى اللجنة لعدم تحريها الدقة فى جمع شعر ناجى وتمييزه عن غيره، وبلغ بصالح جودت فى رده على الجميع حدا كما يقول د. محمد مندور من العنف وصل به إلى حد السخرية البذيئة وصف د. مندور عندما كتب يقول إنه (اطلع على مقال للمدعو أو المدعوة رجاء مع علمه الذى لا يتطرق إليه شك بوجود كاتب شاب يبشر بالخير اسمه رجاء النقاش وهو كاتب لم يعد مجهولا من عامة القراء فضلا عن الكتاب والصحفيين من زملائه).. هذا ما نوع به وكتبه د. محمد مندور فى الكتب الصادرة فى يناير 1962، فى مقال عنوانه: «شعر ناجى وكمال نشأت وقدرة النقد على التمييز بينهما».. وأبان فيه بنقد تطبيقى بارع الفرق بين الشاعرين، وطريقة ومنهج كل منهما الإبداعى، والمسافة المعجمية بين الشاعرين، وضمن ما كتب د. مندور: «ولقد استمر النقاش بل الصراع بين النقاد وكمال نشأت من جهة ولجنة نشر ديوان ناجى أو على وجه التحديد صالح جودت فترة طويلة ولكننى لاحظت أن هذه المناقشة ظلت مقتصرة على الأدلة والشواهد الخارجية مثل سبق نشر كمال نشأت لقصائده فى ديوان: «رياح وشموع». الذى كان من المفروض أن تعلم لجنة النشر على الأقل بوجوده، وأن ترتاب ولو فى قصيدة رياح وشموع.. الذى أطلق عنوانها على ديوان كمال نشأت كله، وكان قبل ذلك كتب الكاتب الصحفى محمود السعدنى فى مجلة صباح الخير 23 نوفمبر 1961، مقالا تحت عنوان: «روح هذا الرجل»، وعلى طريقة محمود السعدنى الساخرة كتب منتصرا للجنة ولوزارة الثقافة، ولم يتوقف مقاله على الانتصار للجنة وللوزارة، بل أهان الشاعر ذاته.. فكتب: «فى القاهرة شاعر اسمه كمال نشأت، يقول الشعر أحيانا، ويصدر دواوين أحيانا، وشعره متوسط ولو أنه لقط حكاية أحيانا هذه لاستعملها فى قصيدة حديثة بعنوان أحيانا، وربما قال فيها، ما بال هذا الفرا الفر اللى هو أنا، يشتمنا أحيانا، ألم يعلم بأن الله أحياه وأحيانا).. وهكذا يستطرد السعدنى فى سخريته من الشاعر وحملته، ويقرر إذا كان هناك متضرر فهو ورثة إبراهيم ناجى، ولو هناك أمر يستحق التعويض، فهم ورثة ناجى، لأن شعر ناجى قد يتلوث بشعر نشأت، ويسخر السعدنى من فكرة الثلاثة آلاف جنيه فيكتب: (تصوروا ثلاثة آلاف جنيه! ولو أنك بعت شعر الشاعر نشأت كله لما قدروه فى سوق الشعر بثلاثة مليمات)!! ويعود ليبرئ وزارة الثقافة، ويلغى تبعات هذه الواقعة على صالح جودت: (ولكن الذنب ليس ذنب الشاعر نشأت، وليس ذنب الوزارة، ولكنه ذنب صالح جودت، الرجل الذى يحترف كتابة الشعر، ولم يستطع أن يفرق بين شعر ناجى وشعر الشاعر أبوسريع).. وعندما لمز د. مندور فى مقاله السعدنى قائلا: (وشجع هذا الزعم المغلوط بعض الصحفيين الذين يظنون أن من حقه التهجم على أخبار الناس مثل محمود السعدنى الذى كتب فى إحدى المجلات أن ورثة الدكتور ناجى هم الذين يحق لهم الشكوى من اقحام قصائد كمال نشأت على ديوان ناجى، وكأن قصائد كمال نشأت فى رأى هذا الكاتب المستظرف فى غير ظرف سبة أو وصمة عار لحقت بشعر ناجى، واستطرد د. مندور فى مقاله ليعطى درسا نقديا حادا، كعادة د.مندور فى ايضاحاته الساطعة دوما، ولكن السعدنى لم يترك الأمر، فكتب مقالا آخر تحت عنوان: (هجوم هذا الرجل).. وكاد يفتك بمندور فى مقاله سخرية، فاستهل مقاله. هكذا: (الدكتور محمد مندور ناقد عظيم وكاتب كبير ومحاضر مشهور ومتحدث إذاعى ونجم تليفزيونى ونائب سابق وأستاذ سابق بالجامعة ورئيس تحرير لمجلة الشرق وكبير كتاب مجلة الكاتب ومحرر فى الجمهورية وأديب ذائع الصيت، وهو فوق الخمسين).. وأخذ السعدنى يعدد مناصب ومهمات د. مندور، والمقال كله تقريبا لم يقترب من القضية، وكان هدفه الأساسى هو النيل من د. مندور. وبالتالى من الشاعر كمال نشأت، ولم نغلق الملف بمقال السعدنى، بل تعددت المقالات فيما بعد، وتعد هذه المعركة من المعارك البارزة فى ذلك الوقت، التى كان بطلها الأساسى هو الشاعر الراحل الكبير كمال نشأت، الذى لم يهن ذاته وشعره، ورغم أنه سافر إلى بلاد عربية ليعمل أستاذا فى جامعة الكويت، وجامعة المستنصرية بالعراق، لكنه كان مرفوع الرأس دوما، وظل يكتب ويبدع ويجود فى إطاره الشعرى، مع الالتزام الصارم لآرائه النقدية القديمة، والتى نراها نحن أن الزمن قد تجاوزها، وكتب كتابا يهاجم فيه شعراء الحداثة الجدد، ورغم أنه كان حادا وعنيفا، وربما أخطأه الصواب فى كثير من النتائج، فإنه كان نفسه، وكان مدفوعا بهواجس تخصه، لا يطلب من خلالها شهرة ولا مجدا، ورحم الله الجميع، ويا ليت تتذكره لجنة الشعر أو بيت الشعر لا يوجد فرق وتعيد نشر ما تناثر من شعره، ودراسات نقدية.