تعدد مناهج فهم الإسلام وتطبيقه كان هو سر عظمة الحضارة الإسلامية، وانتشارها في كل ربوع الأرض، وكان هو سبب استمرارها رغم تقلبات الزمان والدول وتعرجات التاريخ، هذا التعدد في الفهم والتطبيق هو الذي أدى إلى ظهور ثقافات إسلامية متنوعة ومتعددة؛ لكل منها خصائصه الذاتية التي تعكس التجربة البشرية لمجتمعه قبل الإسلام، وذلك على العكس من جميع الحضارات الأخرى القديمة والحديثة، التي قامت على ثقافة واحدة، وفرضت ثقافتها على كل المجتمعات التي دخلتها، أو سيطرت عليها، فالحضارة الرومانية أو الغربية الحديثة؛ كلتاهما فرضت ثقافة واحدة على العالم الذي سيطرت عليه، أما الحضارة الإسلامية فكانت من السماحة والتعدد والتنوع أن قادت إلى ظهور ثقافات متنوعة من شرق آسيا إلى إفريقيا مرورًا بالهند ووسط آسيا والعالم العربي. يعود جوهر التعدد والانفتاح في الدين الإسلامي إلى ثلاثة مرتكزات أساسية: أولها، أن الدين الإسلامي هو رسالة عالمية عامة لجميع البشر في جميع العصور والأزمان منذ نزوله وحتى نهاية العالم، وليس دينًا خاصًّا بأمة أو قوم؛ وثانيها، أنه الرسالة الخاتمة التي لن تأتي بعدها رسالات أخرى، وثالثها، أن الله سبحانه تعهد في كتابه الكريم أنه لن يعذب أي جماعة بشرية إلا بعد أن يرسل لها رسالة تقيم الحجة عليها، هذه الخصائص أو المرتكزات الثلاثة هي التي استلزمت أن يقدم الإسلام نسقًا معرفيًّا مفتوحًا Open Paradigm؛ محددة مسلماته وقيمه، ومفتوحة نهاياته، بحيث يكون كل فكر أو فقه أو قوانين أو نظم مشتقة من الإسلام، ومنسوبة إليه هي نتيجة لتفاعل ثلاثة عناصر هي: الوحي (قرآن وسنة) + الواقع (بكل مكوناته)+ العقل الإنساني = الفقه والفكر والنظم والقوانين. ومن هنا تتعدد الآراء الفقهية وتتنوع وتختلف رغم وحدة المصدر الذي هو الوحي (القرآن والسنة)، وذلك لتعدد وتنوع واختلاف طرفي المعادلة الآخرين وهما الواقع والعقل الإنساني، لذلك نشأت في الإسلام مذاهب ومدارس واتجاهات فكرية متنوعة، وكل منها كانت استجابة لواقعها، ولظروف زمانها، ومكانها. وقد تطور هذا التراث من إنتاج العقل البشري سواء أكان فقهًا، أو فكرًا، أو نظمًا ومؤسساتٍ، أو قوانينَ وممارساتٍ، وتراكم وأصبح من الثراء والتعدد أن وصل إلى درجة أن هناك في كل موضوع أو مسألة الحجة ونقيضها، والرأي والرأي المعاكس له تمامًا، وأصبحت هناك حصيلة فكرية وفقهية من عصور وأزمنة متناقضة تصيب العقل البشري بالارتباك والإرباك، فهناك فقه يتعلق مثلًا بالدولة تم إنتاجه في عصور القوة والمنعة والهيمنة، وهناك فقه في نفس الموضوع تم إنتاجه في عصور الضعف والوهن والانحطاط والخضوع للآخرين، وكلاهما ألقى إلى عصرنا وفي عقولنا ولا نعرف كيف نميز؟ أو ماذا نستخدم؟ لذلك حدثت حالة خطيرة من الفوضى الفقهية والفكرية، وهنا أصبح للإسلام ثلاثة وجوه، أو ثلاث طبقات متنوعة يؤدي الخلط بينها إلى كوارث في الفهم، وفي السلوك الفردي، وفي الحركة الاجتماعية والتاريخية. هذه الوجوه الثلاثة هي: أولا، الدين السماوي الذي نزل على الرسول محمد صلى الله عليه وسلم؛ محصورًا في القرآن والسنة، وثانيها، الثقافة الإسلامية التي خلقتها المدارس الفقهية، والنظم والقوانين المستمدة من الشريعة، والأعراف التي توارثها المسلمون في مجتمعاتهم المختلفة، وثالثها، الأيديولوجيا السياسية التي صاغتها وسوقتها الحركات المجتمعية والسياسية التي ظهرت في القرن العشرين، والتي بدأت توظف الإسلام الدين، والإسلام الثقافة في مشروعها السياسي، سواء ضد الخصوم والأعداء الخارجيين، أو ضد الدول التي يعيشون فيها، ويطمحون في تغييرها أو أسلمتها. هذه الوجوه الثلاثة تتعايش معًا كأنها ثلاث طبقات بعضها فوق بعض، لا يستطيع الإنسان العادي، أو حتى المتعلم بسيط الفكر أن يدركها، ويحرص المنتسبون إلى الجماعات والأحزاب السياسية التي توظف الإسلام لتحقيق أهدافها على أن يخلطوا بين هذه الطبقات أو هذه الوجوه لتمرير أيديولوجيتهم السياسية، وتسويقها، وتقديمها على أنها هي الإسلام، وأن ما عداها خروج عن الإسلام، أو نقصان في التدين، أو أحيانًا كفر بواح، وإنكار لما هو معلوم من الدين بالضرورة. وهذا الحال أدى إلى درجة من الإرباك والتشوه في الثقافة الإسلامية المعاصرة التي أصبحت تخلط بين الدين والثقافة والأيديولوجيا خلطًا يجعل من الجميع دينًا لا يحيد عنه إلا كافر به، وهنا أضفيت قداسة الدين على أفكار البشر، وعلى ممارسات المجتمع، وعلى طموحات السياسيين والانتهازيين، وأصبح على المجتمع المسلم، الذي تنتشر فيه الأمية، أن يتبع هذه الخلطة الفكرية والفقهية والثقافية، وأن يطبقها في حياته، وأن يقدم حياته فداءً لها، وجهادًا في سبيل الله. وفي هذا السياق تسربت العديد من الأفكار والفتاوى والممارسات الميتة؛ التي تم نبشها من بطون قبور التاريخ، ظنًّا من النبَّاشين أنهم يعيدون إحياء الإسلام الذي هو في نظرهم ممارسات بشر يسمونهم السلف، وليس وحيًا خالدًا يعطي كل عصر، وكل زمان، وكل مكان ما يحقق مقاصد الخالق من الخلق، هذه الأفكار والفتاوى والممارسات الميتة تحولت إلى وسائل مميتة أدت إلى شل حركة المجتمع، وإرباكه وإدخاله في صراعات تعيق حركته التاريخية، وتشتت قواه، وتحرفه عن مساره الصحيح، وتفقده البوصلة والوجهة التي أرادها الله له. وقد تزامن مع ذلك انحراف خطير في منهجية التعامل مع الوحي الذي هو المصدر الأساسي لكل ما منسوب إلى الإسلام الدين الذي نتعبد الله به، هذا الانحراف تمثل في مظهرين: أولها، تحول الإسلام من غاية عليا إلى وسيلة للأهداف المجتمعية والقومية والوطنية، وقد ظهرت هذه المنهجية في فترة مقاومة الاستعمار، واستمرت مع كل الحركات والجماعات التي تواجه قوى الظلم والاستعباد والقهر، وهنا تم توظيف الإسلام باعتباره تراثًا قوميًّا، وملكية مجتمعية لجماعة بشرية معينة ضد جماعة بشرية أخرى، تم توظيفه لحث الشعوب على المقاومة والجهاد، وفي سبيل هذا التوظيف تم تبرير أعمال تحول الإسلام من دين للعالم إلى عقيدة لشعوب بعينها، وجماعات بشرية بعينها. فالإسلام الدين الذي هو يخاطب البريطاني والفرنسي والأمريكي والياباني؛ تم توظيفه في عملية سياسية اسمها الاستعمار، أو استغلال الموارد، أو فرض الهيمنة والنفوذ، وتم تبرير استهداف المدنيين، والمصالح الاقتصادية، والقيام بعمليات انتحارية، أو إرهابية…إلخ في ظل هذا الصراع السياسي أو الحضاري العام، وكان الأولى أن تقتصر المواجهة على الجيوش كما كان في حالة الحروب الصليبية التي استمرت لقرنين من الزمان بين جيوش نظامية، ولم يكن المدنيون موضوعًا لها على الإطلاق، ففي اللحظة التي كانت فيها الحملة الفرنسية في المنصورة شمال القاهرة أمر السلطان المملوكي بحراسة التجار الفرنجة في الموسكي، وحمايتهم من جهل العوام، واحتمال تعرضهم للأذى، وليس أخذهم رهائن وذبحهم كما يحدث اليوم في عهد خليفة داعش. هذه العقلية التي تؤمن بملكية الإسلام هذه جعلت إمكانية توظيف الإسلام لتحقيق المصالح والأهداف الضيقة للجماعات والأحزاب السياسية أمرًا منطقيًّا، وشرعيًّا في نفس الوقت، ومن هنا تحول التعدد والتنوع في الفقه والفكر والثقافة الإسلامية من حالة إيجابية بناءة إلى حالة سلبية هدامة ومدمرة، إذ حولتها الجماعات المنتسبة للإسلام إلى برجماتية انتهازية ينطبق عليها المثل العامي المصري “اللي تغلب به… إلعب به”. وثاني مظاهر الانحراف المنهجي في تعامل المعاصرين مع الإسلام يأتي من خلل منهجي خطير أصاب العقل المسلم منذ قرون في تعامله مع القرآن الكريم، تنبه إلى هذا الخلل ونبهنا إليه الفقيه الأشهر أبو إسحق الشاطبي صاحب كتاب “الموافقات في أصول الشريعة” والمتوفى في ١٣٨٨م؛ حين فرق بين منهجين في الرجوع إلى القرآن: المنهج الأول وهو رجوع الافتقار، أي رجوع المفتقر إلى حكمة القرآن وحكمه، وهو خالي الذهن من أي انحيازات مسبقة، وليس لديه أية تفضيلات، وينتظر من القرآن أن يقدم له المعرفة التي يحتاج إليها في الموضوع الذي ينشغل به، ويبحث فيه وعنه، وهذا هو منهج العلماء الموضوعيين، والمسلمين الخاضعين لحكم الله، الذي يبتغون رضاه. أما المنهج الثاني في الرجوع إلى القرآن فقد سماه الشاطبي “رجوع الاستظهار”، أي الرجوع إلى القرآن، لركوب ظهره، واتخاذه وسيلة لتحقيق غاية في ذهن وعقل وقلب ذلك الذي يريد توظيف القرآن لتحقيق أهدافه هو، سواء أكان فردًا أم جماعةً، وذلك الذي يستشهد يرجع إلى القرآن ليستشهد به قد كون رأيًا وقناعة خاصة به، ويريد أن يوجد لها تبريرًا، فيعود إلى القرآن باحثًا عن أدلة وشواهد ومبررات ومسوغات تجعل فكره ورأيه مقبولاً عند الناس، وهذه الحالة هي الحالة السائدة في هذا العصر عند الجميع. من خلال هذا التوصيف يمكن أن نفهم السبب وراء ذلك التعدد الفوضوي في فهم الإسلام وتوظيفه لتحقيق أهداف تتناقض مع قيم الإسلام ومقاصده وغاياته، فقد تحولت كل المزايا التي قدمها الإسلام كنسق معرفي مفتوح، وكدين يحافظ على التنوع والتعدد البشري، تحولت كل الإيجابيات إلى وسائل يوظفها الانتهازيون باسم الإسلام لتحقيق مصالحهم، أو أيديولوجياتهم، وتسويغها، وإضفاء طابع شرعي عليها.