إن نظرة تحليلية وتفكيكية لبنية العقل المصرى السياسى والدينى السائد، تشير إلى سلطويته ونقليته وازدواجيته، وإعادة إنتاجه لطرائق باتت تقليدية فى مقاربة الظواهر والمشكلات والأزمات التى يواجهها عالمنا وإقليمنا ومجتمعنا، والأخطر هو جمود هذا العقل التسلطى وعدم قدرته على مواكبة التغيرات والتحولات الكونية وما بعدها، لأنه عقل إتباعى وماضوى لاسيما فى ظل تكوين النخبة الحاكمة ومصادر تجنيدها التى يغلب عليها البيروقراطى والأمنى والتكنقراطى والعسكريتارى. وهذا ليس تشكيكا فى هذه النخب، وإنما فى اعتمادها على موروث ذاكرة هذه المؤسسات وطابعها الهرمى الذى يتوارث أساليب فى التفكير ومقاربة الواقع الموضوعى، وطرائق التعامل مع المشكلات فى الأوضاع العادية والاستثنائية. من هنا يبدو مشروعا سؤالنا هل يمكن للعقل الاتباعى والتسلطى أن يحرك الركود والجمود فى بنية الثقافة السياسية السائدة؟ هل يستطيع العقل السلطوى المهيمن أن يفتح أبواب الحرية أمام العقل والجماعة الثقافية على أن تلعب الأدوار المنوطة بها فى تغيير الوعى والاتجاهات التسلطية التى تتمركز حول استبعاد الآراء الحرة وقمعها أو التحريض عليها؟ هل يمكن للنزعة النقلية الحافظة أن تلعب أدوارها التقليدية فى عالم مختلف ومتغير وانقلابى فى اتجاهاته واكتشافاته؟ أن الثقافة السياسية وفق أريك روى Eric Row هى منظومة "القيم والمعتقدات والاتجاهات العاطفية للأفراد حيال ما هو كائن فى العالم السياسى"، ومن ثم إذا كانت القيم السائدة والمعتقدات الشائعة للجمهور إزاء العالم السياسى، ترتكز على الموروث الوضعى المهجن ببعض المعتقدات الشعبية والفقهية المحافظة حول دور الدين المهيمن فى الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية. ومحاولة غالب رجال الدين تسييد فهم ذكورى للدين والفقه والقيم وتشكيل هندسة اجتماعية وسياسية دينية صارمة، يحرسونها من خلال مجموعة من الأدوات الفقهية والرمزية تدور حول ثنائية الحلال والحرام، والمؤمن والكافر والفاسق ويعطون لأنفسهم سلطة تحديد مشروعية تفكير الأفراد والجماعات وفقا لما هو حلال وحرام من الوجهة الدينية الوضعية / البشرية، من هنا يتحالف رجال الدين، ومؤسساتهم مع السلطة السياسية الحاكمة، ويبررون لها سياساتها وقراراتها، وتسلطيتها وقمعها للآراء الأخرى المغايرة أو الناقدة لسياساتها وأفعالها فى المجال السياسى والاقتصادى والاجتماعى والثقافى. تعتمد سلطة العقل الدينى التسلطى على الموروث الفقهى والتأويلى وتعيد إنتاجه، وفى كثير من الأحيان ما تكون آراءها الماضوية بعيدة تماما عن تحولات الدنيا والعصر والمجتمع وأسئلته ومشكلاته واحتياجات إنسان هذا العصر المتحول. ويعود ذلك إلى استمرارية منطق تغليب النقل على العقل، وعدم الاجتهاد إلا من قلة قليلة فى المرحلة شبه الليبرالية وبعض فوائضها حتى الشيخ محمود شلتوت، وشيوع النزعة الاتباعية لرجال الدين ومؤسساتهم للسلطة، ودعمها فى مقابل دعم السلطة لهم واعتبارهم حراس للعقيدة والشريعة فى حدود الدور المحدد لهم، والذى تجاوزوه منذ عهد السادات وحتى الآن، وإزداد هذا الدور بعد 30 يونيو 2013، نظراً لأنهم كانوا جزءاً من التحالف السياسى الذى تم. العقل الدينى النقلى السائدة، وإنتاجه الفكرى يبدو محافظاً وسلفيا وتداخُله بعض النزعة الوهابية والإخوانية، ومن ثم يخشى العقل النقدى، وإنتاجه، ومراجعاته للمسلمات الوضعية والدينية والسياسية، ويطرح من ثم الأسئلة الحرجة، والإشكالية ما يُصَّعب على العقل النقلى بحكم تكوينه ومعارفه أن يتصدى لها بالمساءلة أو الإجابات الاجتهادية الجديدة. العقل النقلى سلسيل التقليد الماضوى يستند إلى منظومة من المسلمات التى ينهض عليها، وعلى رأسها المسلمات والثوابت، وإمعان النظر فى بعضها يشير إلى أنها ثوابت ومسلمات وضعية، أى وضعها فقهاء ومفسرون ودعاة ورجال إفتاء على مدى تطور الفقه والدعوة والأفتاء وعلم الكلام، ويعتبرون أن مفهومهم عن الثوابت والمسلمات مقدس أو تداخله القداسة، فى حين لا أحد – الا مكابر- يجادل فى المصدر الآلهى للقرآن الكريم، ولا فى التراث الثرى للفقه الإسلامى وأصول الفقه، وأن المطلوب هو تنقية هذا التراث عبر دراسات تاريخية وفقهية وسياسية متعمقة ومنهجية وموضوعية وليس عبر النزعة الانتقائية والهجائية الإيديولوجية التى تسود بعض أوساط النخبة المصرية والعربية. من هنا نستطيع القول أن غالبية رجال الدين النقليين لا يمتلكون الأدوات المعرفية والمنهجية والتحليلية لأداء هذا الدور المطلوب الذى يمكن أن ينهض به بعض الباحثين والمثقفين والمفكرين من خارج المؤسسة الدينية، من ثم يقوم بعض رجال الدين الغلاة والمتشددين بدور مطاردة العقل الحر والفكر الحداثى وما بعده فى مقارباتهم للدين الوضعى البشرى ومقولاته، أو فى ممارساتهم البحثية أو التحليلية للظواهر والمشكلات من خلال المناهج العلمية الجديدة فى العلوم الاجتماعية. هذا النمط من المطاردات يتسم بالنزعة الدفاعية عن مكانتهم ودورهم ومحاولة سيطرتهم على إيمان ومعتقدات العوام، ودعم السلطة السياسية لدورهم، من هنا يستسهلون اللجوء إلى منطق ومعايير التكفير الدينى لخصومهم، والأخطر أن بعضهم يمارسون التفتيش فى الضمائر وفى النصوص الأدبية، وسردياتها بحثاً عن بعض التجاوزات الأخلاقية بوصفهم حراس للآداب العامة، ويخلطون بين الآدب والفن والأخلاق، وبين السرديات التخيلية، وبين الواقع الموضوعى. ولا يزال بعضهم يفتى بعدم جواز إبداع النحت والتماثيل، ويخلطون بين النص الدينى وبين السرد الآدبى فى مختلف أجناسه الأدبية والفنون على تعددها. من هنا يقف هؤلاء مع السلطة السياسية التسلطية داعمين لها فى سياساتها، وتقف معهم فى مواجهة المثقفين والمفكرين والباحثين والمبدعين الذين يطرحون الأسئلة، ونقد المحرمات الوضعية السياسية والدينية، ويفتحون الأبواب أمام العقل الناقد ليمارس مهامه فى نقد ما هو قائم من اختلالات وعوار وفساد وجهل فى السلطة والمجتمع. من هنا يبدو بعض رجال الدين والسلطة عقبة حقيقية فى مواجهة العقل الناقد والفكر الحر والإبداع الجديد، ومن ثم تطوير الثقافة المصرية نحو آفاق جديدة. وما يساعد على استمرارية دور السلطة ورجال الدين والتحالف التاريخى بينهما أن النظم والمناهج والمواد التعليمية وأساليب التدريس تحت سطوة العقل النقلى التكرارى الذى ينزع إلى الحفظ والتلاوة للمقولات الدينية الوضعية ومحاولة إضفاء التقديس والاحترام عليها بوصفها هى الدين، وهو الأمر الذى يمارسه بعض المعلمين والمعلمات –الغلاة ومحدودى المعرفة الاجتماعية الحديثة والدينية أيضا وأيضاً- على التلاميذ والتلميذات، ومن ثم تؤدى هذه الذهنية النقلية الحافظة إلى تسييد معايير الحلال والحرام على المعارف والأفكار الحديثة والجديدة، ومن ثم يقف هؤلاء جميعاً قبل وبعد التخرج فى صف السلطة الدينية النقلية، ويعتبرون آراء رجالها هى التعبير عن صحيح الدين، و من ثم يقف بعض المتعلمين من خريجى المدارس والجامعات المدنية والدينية عقبة أمام العقل النقدى والحر. من هنا يبدو العقل النقدى المصرى فى محنة كبرى إزاء سطوة بعض رجال الدين، والسلطة وتحالفهم للسيطرة على الدولة والمجتمع، ويذهب المفكر الحر، والمثقف النقدى ضحية هذا التحالف. أن أى محاولة جادة لكى يلعب المفكر والمثقف الحر والثقافة دورهم المأمول فى التصدى لاتجاهات الفكر التقليدى المحافظ، وإيديولوجيات الإرهاب باسم الدين، وقيم التخلف الاجتماعى، تتطلب أعمال سلطان العقل الناقد، ودولة القانون التى يجب تحريرها من القوانين المقيدة للحريات والقيود المفروضة على حريات الرأى والتعبير، ودعم الاجتهادات الجديدة الدينية والوضعية، وسياسة ثقافية جديدة تنشر الثقافة فى التعليم والإعلام، ومدّ جسور الخدمات والسلع الثقافية إلى كافة الفئات الاجتماعية ولاسيما الشعبية فى الأرياف والأحياء الشعبية فى كل محافظات مصر، وعدم قصر الثقافة ومنتجاتها وتظاهراتها واستعراضاتها على العاصمة، وفى إطار دوائر نخبوية ضيقة. لا شك أن تحرير العقل الناقد تتطلب تحرير الثقافة من البيروقراطية والنزعة الاستعراضية فى أداءها، والأخطر تحرير النظام التعليمى ومراحله ومناهجه المختلفة من النقلية إلى النزعة النقدية، ودمج الثقافة فى التعليم، وإصلاح النظام القانونى وتحريره من القوانين المقيدة للحريات وعلى رأسها الحرية الأم، حرية الرأى والتعبير على تعدد أشكالها. الحرية هى مدخل وأداة تحرير العقل المصرى من قيوده وأصفاده. ومعه دور المثقف والثقافة فى التغيير الاجتماعى، وفى دعم عمليات التطور السياسى الديمقراطى والتقنى والعلمى. الحرية هى الحل!