التوترات والإقصاءات والتوظيفات ما علاقة الثقافة بالسياسة؟ هل هى علاقة انفصال أم تمايز أم تداخل أم خصام وصراع؟ لماذا يبدو السياسى المصرى والعربى فى حالة توتر وإهمال للمثقف قد يصل لدى بعضهم إلى مستوى الكراهية والنبذ؟ لماذا تختلف العلاقة بين السياسى والمثقف فى المجتمعات الأكثر تطورا، وتتسم بالاحترام على الرغم من الدور النقدى الذى يمارسه المثقف فى مقارباته للسياسى والاجتماعى والدينى؟ الثقافة بوصفها "الكل المركب من القيم والرموز والعادات والفنون والمعارف والأخلاقيات والقوانين وقواعد الضبط الاجتماعى، والمعتقدات" تشكل المركب المؤثر الذى ينطوى تحت مظلته الثقافة السياسية بوصفها "مجموع الاتجاهات وأنماط السلوك والمعارف حول الدولة والسلطة ونظام الشرعية، والقيم السياسية والرمزية السائدة داخل وسط اجتماعى محدد، وتمثل المشتركات والتوجهات إزاء مسألة الدولة والسلطة والشرعية.. إلخ". من هنا تتأثر السياسة بالثقافة العامة، والسياسية السائدة، لأن السياسة والسياسى لا يعملان فى فراغ وإنما فى إطار ثقافى بامتياز. من هنا تؤثر الثقافة الليبرالية والديمقراطية وبيئاتهم الثقافية، على تطور هذه النظم السياسية التى تنعكس على المنظومات الثقافية وتتأثر بها فى أطر جدلية. الدول الشمولية والتسلطية، تعتمد على قيم الطاعة والخضوع والامتثال والإذعان السياسى، فى الأولى يشيع مفهوم عبادة الحاكم والقيم البطريركية وتمارس أجهزة الدولة الأمنية والاستخباراتية والإعلامية القمع المادى بكل أشكاله والقمع الرمزى، وأشكال الترويض المختلفة للإنسان. فى الثانية حيث نماذج التسلطيات السياسية، ثمة قمع مادى ورمزى مع بعض هوامش جزئية تتيح للأشخاص الحركة المنضبطة وبعض التعبير السياسى النسبى فى إطار الامتثال والطاعة. من هنا تتأثر السياسة وعملياتها وممارساتها بطبيعة الثقافة العامة والسياسية السائدة، ولا يقتصر الأمر على الجمهور، وإنما يمتد إلى من يطلق عليهم رجال ونساء السياسة، من رؤساء الوزراء والوزراء والأعضاء القياديين للحزب الحاكم، أو الأحزاب الأخرى التى تدور فى ظله وقواعد اللعبة الهامشية المحددة الأبعاد والمحاطة بالضوابط والقيود، ومن ثم تتشكل القيم والاتجاهات السياسية السائدة داخل النخبة السياسية بتقاليد عمل النظام وحدوده. فى كلا النمطين من النظم السياسية -الشمولية والتسلطية- توظف بعض الأشكال الثقافية -الفولكلور والغناء والموسيقى- كجزء من أقنعة النظام لإضفاء بعض الماكياج الثقافى التجميلى، ومعها بعض الكتابات والسرديات الموالية للنظام. من هنا يظهر شاعر النظام، وكاتب النظام، وإعلامى النظام، ومغنى النظام، وموسيقى النظام على نحو يبدو فيه هؤلاء كجزء من الحاشية الجمهورية أو الملكية ونستطيع أن نلمح بعضا من الممارسات الإقصائية لمواهب وكفاءات وأصوات وكتابات أخرى لا يتاح لها الحضور الفاعل إلا على نحو جزئى ومحدود، وغالبا ما تتشكل مراكز قوى ثقافية وفنية فى إطار المؤسسات الثقافية الرسمية، وذلك على نحو ما نشهد فى كثير من البلدان، ومن بينها مصر تحت حكم السادات ومبارك وحتى 25 يناير 2011 وما بعد، وفى كثير من البلدان العربية تمثيلا لا حصرا. فى هذا الإطار غالبا ما يتم منح عضوية اللجان الثقافية الرسمية للموالين من المثقفين والفنانين والأدباء والشعراء والرسامين.. إلخ، ويتم توزيع جوائز الدولة الرسمية -أيًّا كانت- لبعض هؤلاء الذين يلتزمون الصمت إزاء ممارسات النظام وقمعه للحريات العامة، وانتهاكاته للحق فى الخصوصية، أو هؤلاء الذين يماشون ويراءون ويمنعون عن الناس الحقائق أو يشرحونها ويشاركون فى قمع الروح وتشويه الاتجاهات. إذن علاقة الثقافة العامة والسياسية بالسياسة والسياسى هى علاقة جدلية، وتداخلية عموما. الثقافة العليا -إنتاج المعرفة والأفكار والرؤى- التى ينتجها ويبدعها المفكرون وكبار المثقفين، والتى تتداول بين دوائر النخبة الثقافية الرفيعة تبدو علاقاتها بالسياسى مختلفة نسبيا عن الثقافة بالمعنى العام للكلمة. هذا النمط من الإنتاج المعرفى والفنى غالبا ما يستهلك فى دوائر محدودة نسبيا، وتبدو مسألة الحرية والشرط الإنسانى والوجودى فى بعض الأحيان علاقة نزاعية أو صراعية مع ما هو سائد من أبنية وتقاليد وعادات ومرموزات وأساطير سياسية، أو معتقدات أو أخلاقيات أو سلوكيات أو اتجاهات شائعة فى إطار السلطات السائدة -سلطة الأخلاق والمعتقدات- والقيم، وذلك لأن دور المفكر والمثقف والكاتب ومنتج الفنون الرفيعة، هو نقدى بامتياز ويلعب دور الهادم لليقينيات السائدة، والمعارف والقيم والأنظمة المهيمنة ويسائلها، ويفككها، ويسعى إلى بناء رؤى مغايرة ومسارات جديدة للتطور الإنسانى، ولأسئلة الوجود، والمطلقات، ويبحث عن النسبى بوصف نسبى. من ثم لا توجد مصالحات بين هذه الفئة المحدودة من المفكرين والمثقفين والفنانين، وبين مجتمعهم وعالمهم، هم فى حالة سؤال دائم. هذه العلاقة القلقة والمتوترة والنزاعية والصراعية هى التى تحكم علاقة المثقف بالمجتمع والسياسة والسياسى. فى المجتمعات الأكثر تطورًا -فى ظل الحداثة الفائقة بتعبير هابرماس أو ما بعد الحداثة وما بعدها- إلا أن هذا النمط من الثقافة العليا يمثل أيقونة هذه المجتمعات ورمزا على تطورها الكبير فى التقنية والعلوم الطبيعية والإنسانية، وهو الذى يشكل معنى هذا التطور المتراكم والمستمر وعلامة عليه، ومن ثم يكون موضعا للاحترام الكبير، والتقدير من الطبقة السياسية، لأن المثقف يضفى بأسئلته ومقارباته ورؤاه النقدية والتفكيكية حيوية للعقل والفكر والمعنى الكبير للحياة والوجود الإنسانى وشرطه. المثقف العام منذ ميلاد المثقف الحديث بعد قضية داريفوس -مصطلحا ودورا- اعتمد على تلك المساحة من الاستقلالية عن الدولة والسلطة والمجتمع على نحو يسمح له بقول خطاب الحقيقة النسبى، وهو ما أتاح له توسيع هذا الدور وفرض احترامه على الدولة والسلطة والمجتمع. كرس هذا الدور البيئة السياسية الليبرالية والحريات العامة وعلى رأسها الحرية الأم حرية الرأى والتعبير والإبداع بكل أشكاله وفنونه وسردياته. هذا الدور أخذ شكلا وظيفيا وأيديولوجيا فى ظل النظم الشيوعية فى إطار الإمبراطورية الفلسفية الماركسية، بحيث أصبح بعض المثقفين أو غالبهم -بحسب كل حالة- أقرب إلى منظرى الأيديولوجيا الرسمية، على نحوٍ أدى إلى انحسار معنى المثقف عن هؤلاء لصالح دور منتج الأيديولوجيا أو الدور التبريرى والتعبوى. مع تنظيرات جرامشى حول المثقف الجماعى، والمثقف التاريخى والمثقف العضوى انتشرت فى بعض أوساط المثقفين اليساريين فى دول جنوب العالم، وبعض الدوائر الأوروبية. شاع دور المثقف ذي الأدوار السياسية والتحريرية فى إطار دول ما بعد الاستعمار، وما بعد الكولونيالية، وهذا المعنى للمثقف وأدواره لا يزال شائعا فى مصر والعالم العربى، فى حين أن دور المثقف الغربى أساسا تحول إلى دور منتج المعرفة النقدية والسلع الثقافية -أيا كانت- إلا أن هذا التغير النوعى لا يزال بعيد نسبيا عن المثقف المصرى والعربى الذى لا يزال يدور فى حوارات مثقف ما بعد الاستقلال حيث التداخل بين الأيديولوجى والتبريرى والنقدى والتعبوى، وهو ما يعود إلى وضعية الشمولية والتسلطية السياسية المهيمنة، وقد أكدت الانتفاضات الثورية فى مصر وتونس على استمرارية هذه الأدوار، بل إن مصطلح المثقف ذاته، لا يزال غائما ومشوشا فى معناه ودلالته وتجسيداته ونماذجه. هذه الوظائف الأيديولوجية والتعبوية تمثل أحد مصادر التوتر والاضطراب فى علاقة السلطة الشمولية والتسلطية إزاء المثقف خارج أطرها ومؤسساتها، حيث يدرك المثقف لدى السلطة بأنه مثير للنقد والغليان والأسئلة حول شرعية النظام والسلطة والحقوق والحريات العامة والخاصة وهموم الفقراء. من هنا يبدو موقف رجال السياسة الشموليين والتسلطين من المثقف النقدى يتسم بالنبذ والإقصاء والاستبعاد، والاعتماد على خبراء السلطة والمثقف الموالى المؤيد لها ولهم. ويكرس هذا الموقف الإقصائى للمثقف أن غالب رجال السياسة السلطويين يعتمدون على بعض الخبرات السلطوية أو القبائلية أو العشائرية لا سيما فى العالم العربى، وفى مصر تعتمد السلطة على مصادر محددة لتجنيد النخبة السياسية من رجال البيروقراطية والفنيين - التكنوقراط، ومن الأجهزة الأمنية والعسكرية، والقضاء فى اختياراتها للتشكيلات الوزارية، أو المحافظين أو قيادات مؤسسات الدولة.. إلخ. غالب هؤلاء بعيدون عن دوائر الثقافة والمثقفين، و من ثم غالبا علاقاتهم متوترة بالمثقفين، ومن ثم تبدو الثقافة وشئونها مهمشة فى سياسات الدولة والحكومة، وميزانيتها محدودة يذهب غالبها إلى الأجور والمكافآت، ويتضاءل الإنفاق على الإنتاج الثقافى. من هنا يبدو أن الانفصال بين الثقافى والسياسى أدى ولا يزال إلى عدم الارتقاء بالحس والخيال السياسى لدى غالب النخبة السياسية فى الحكم والمعارضة معًا، ويحتاج الأمر إلى الاهتمام الجدى بالثقافة ومؤسساتها من أجل خلق حيوية سياسية جديدة فى البلاد فى أعقاب حراك ذو نفس ثورى، ومخاضات تتطلب رؤية جديدة ومختلفة للعلاقة بين النخبة الحاكمة والثقافة فى مصر والعالم العربى.