تعليم الجيزة تحصد المراكز الأولى في مسابقة الملتقى الفكري للطلاب المتفوقين والموهوبين    عمال الجيزة: أنشأنا فندقًا بالاتحاد لتعظيم استثمارات الأصول | خاص    التعليم العالي تعلن فتح برامج المبادرة المصرية اليابانية للتعليم EJEP    الكويت ترحب بقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة لإعادة النظر بعضوية دولة فلسطين    تقرير إدارة بايدن يبرئ إسرائيل من تهمة انتهاك القانون الدولى فى حرب غزة    القاهرة الإخبارية: الإمارات تستنكر دعوة نتنياهو لإدارة قطاع غزة    في أقل من 24 ساعة.. «حزب الله» ينفذ 7 عمليات ضد إسرائيل    كرم جبر: على حماس أن تستغل الفرصة الراهنة لإحياء حلم «حل الدولتين»    محمود ناصف حكم مباراة الأهلى وبلدية المحلة.. وأمين عمر لمواجهة المصرى وبيراميدز    جوميز يركز على الجوانب الفنية فى ختام ثانى تدريبات الزمالك بالمغرب    إبراهيم سعيد ل محمد الشناوي:" مش عيب أنك تكون على دكة الاحتياطي"    فوزى لقجع ورضا سليم يتوسطان للصلح بين حسين الشحات والشيبى    إصابة 13 عاملا إثر حادث سيارة في الغربية    طقس معتدل في محافظة بورسعيد بعد العاصفة الترابية.. فيديو وصور    مصرع شخص صدمته سيارة طائشة في بني سويف    المهم يعرفوا قيمتي، شرط يسرا لوجود عمل يجمعها مع محمد رمضان (فيديو)    إحالة جميع المسؤولين بمديرية الصحة بسوهاج للتحقيق    عيار 21 الآن بعد الارتفاع الكبير.. سعر الذهب والسبائك اليوم السبت 11 مايو 2024 بالصاغة    " من دون تأخير".. فرنسا تدعو إسرائيل إلى وقف عمليتها العسكرية في رفح    قرار عاجل من ريال مدريد بشأن مبابي    مباريات اليوم السبت 10-05-2024 حول العالم والقنوات الناقلة    دعاء في جوف الليل: اللهم إنا نسألك يوماً يتجلّى فيه لطفك ويتسع فيه رزقك    مواعيد مباريات اليوم.. الأهلي ضد بلدية المحلة.. ونهائي أبطال آسيا وتتويج مرتقب ل الهلال    موازنة النواب عن جدل الحساب الختامي: المستحقات الحكومية عند الأفراد والجهات 570 مليار جنيه    عز ينخفض لأقل سعر.. أسعار الحديد والأسمنت اليوم السبت 11 مايو بالمصانع والأسواق    الزراعة: زيادة الطاقة الاستيعابية للصوامع لأكثر من 5 ملايين طن    مأمورية من قسم الطالبية لإلقاء القبض على عصام صاصا    آبل تخطط لاستخدام شرائح M2 Ultra فى السحابة للذكاء الاصطناعى    خبير دستوري: اتحاد القبائل من حقه إنشاء فروع في كل ربوع الدولة    السياحة عن قطع الكهرباء عن المعابد الأثرية ضمن خطة تخفيف الأحمال: منتهى السخافة    حظك اليوم وتوقعات الأبراج السبت 11 مايو على الصعيد المهنى والعاطفى والصحى    برج الجدى.. حظك اليوم السبت 11 مايو: تجنب المشاكل    عمرو دياب يحيى حفلا غنائيا فى بيروت 15 يونيو    طائرات الاحتلال الإسرائيلي تقصف منزلًا في شارع القصاصيب بجباليا شمال قطاع غزة    أبناء السيدة خديجة.. من هم أولاد أم المؤمنين وكم عددهم؟    الشعبة تكشف تفاصيل تراجع أسعار الدواجن والبيض مؤخرًا    تناول أدوية دون إشراف طبي النسبة الأعلى، إحصائية صادمة عن حالات استقبلها قسم سموم بنها خلال أبريل    زيادات متدرجة في الإيجار.. تحرك جديد بشأن أزمة الإيجارات القديمة    النائب شمس الدين: تجربة واعظات مصر تاريخية وتدرس عالميًّا وإقليميًّا    الحكومة اليابانية تقدم منح دراسية للطلاب الذين يرغبون في استكمال دراستهم    «أنصفه على حساب الأجهزة».. الأنبا بولا يكشف علاقة الرئيس الراحل مبارك ب البابا شنودة    رسائل تهنئة عيد الأضحى مكتوبة 2024 للحبيب والصديق والمدير    النجم شاروخان يجهز لتصوير فيلمه الجديد في مصر    القانون يحمى الحجاج.. بوابة مصرية لشئون الحج تختص بتنظيم شئونه.. كود تعريفى لكل حاج لحمايته.. وبعثه رسمية لتقييم أداء الجهات المنظمة ورفع توصياتها للرئيس.. وغرفه عمليات بالداخل والخارج للأحداث الطارئة    المواطنون في مصر يبحثون عن عطلة عيد الأضحى 2024.. هي فعلًا 9 أيام؟    هل يجوز للمرأة وضع المكياج عند خروجها من المنزل؟ أمين الفتوى بجيب    الإفتاء تكشف فضل عظيم لقراءة سورة الملك قبل النوم: أوصى بها النبي    مصرع شاب غرقًا في بحيرة وادي الريان بالفيوم    نتائج اليوم الثاني من بطولة «CIB» العالمية للإسكواش المقامة بنادي بالم هيلز    5 علامات تدل على إصابتك بتكيسات المبيض    لأول مرة.. المغرب يعوض سيدة ماليا بعد تضررها من لقاح فيروس كورونا    حكومة لم تشكل وبرلمان لم ينعقد.. القصة الكاملة لحل البرلمان الكويتي    هشام إبراهيم لبرنامج الشاهد: تعداد سكان مصر زاد 8 ملايين نسمة أخر 5 سنوات فقط    الجرعة الأخيرة.. دفن جثة شاب عُثر عليه داخل شقته بمنشأة القناطر    حلمي طولان: «حسام حسن لا يصلح لقيادة منتخب مصر.. في مدربين معندهمش مؤهلات» (فيديو)    هل يشترط وقوع لفظ الطلاق في الزواج العرفي؟.. محام يوضح    رؤساء الكنائس الأرثوذكسية الشرقية: العدالة الكاملة القادرة على ضمان استعادة السلام الشامل    جلطة المخ.. صعوبات النطق أهم الأعراض وهذه طرق العلاج    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مشروعات فكرية حاولت تجديد الخطاب الدينى فى العصر الحديث.. الاجتهاد المفتوح والفقه المغلق
نشر في الأهرام العربي يوم 26 - 12 - 2015


مطصفى عبادة

الفقه المغلق..أعشاب ضارة وبيزنس

تراث واحد أم عدة تراثات، تراث السلوك أم تراث الفكرة والعقل؟ وهل كل ما ترك العرب القدامي يعتبر من التراث الذي لا ينبغي الاقتراب منه؟ تراث الجزيرة العربية أم تراث الدول المفتوحة؟
تراث السلوك هو المتعلق بجانب الفقه في التاريخ الإسلامي، وهو ما اجتهد فيه الفقهاء علي مر الزمان! وصار اجتهادهم تراثاً متراكماً يناقض بعضه بعضاً، وتعدد فيه المذاهب، بما يعني أن كل رجل من الفقهاء أبدي فيه رأيه، وكما قال الإمام الصايغي: "هم رجال ونحن رجال، "لهم عقول ولنا عقول"، فهل يلزمنا اجتهاد كل هؤلاء، هم اجتهدوا لزمنهم ولزمننا اجتهادات أخري مسكوت عنها، ولا يقترب منها أحد، لعصرنا مقتضيات ومستجدات لم تكن موجودة قبل غلق باب الاجتهاد، فهل نطبق عليها اجتهادات قرون مضت، في فقه الطهارة مثلاً هناك ثوابت لا يمكن الاختلاف عليها، وفي فقه الصلاة، وفي فقه النساء، فما القول في فقه تراث الحروب التي كانت عدتها الناقة والجمل والسيف.
المعركة كلها تدور، والمعارك التي دارت قبل ذلك،كلها تعلقت بفقه السلوك، السلوك القديم وأهملنا تراث العقل العربي، وقفنا عند المذاهب الأربعة الفقهية المالكي والشافعي والحنفي والحنبلي، وشروحها وفنونها، وشرح وشروحها وآراء الرجال فيها علي مدي 1400 سنة، ولم نتحدث عن الفارابي، والحسن بن الهيثم، وابن رشد، وأبي حيان التوحيدي، وأبي بكر الرازي، وابن النفيس، والحسن البصري، مكتشف حدقة العين، وأبي جعفر المنصور، مكتشف الصفر والأرقام، ويعقوب بن إسحاق الكندي ابن الكوفة العراقي، الذي اهتم بالعديد من المجالات مثل الرياضيات والفلك والكيمياء والفيزياء والطب والموسيقي، والذي كان له دور كبير في نشر النظام الهندي للترقيم في منطقة الشرق الأوسط وأوروبا، كما كان مبدعاً في مجال التشفير، وله الفضل في تطوير طرق فك الشفرات، وأول من وضع قواعد للموسيقي في العالم العربي، وقام بإضافة الوتر الخامس إلي العود، وأول من أدخل كلمة موسيقي إلي اللغة العربية.
وهناك أيضاً غير فقهاء الطهارة والنفاس والحيض، محمد الغازاوي عالم الرياضيات والفلك الذي ترجم التراث الهندي في الفلك والرياضيات ومخترع أول اسطرلاب في العالم الإسلامي، وكذلك حنين بن إسحاق الذي ترجم أعمال جالنيوس وأبقراط وأرسطو والعهد القديم من اليونانية إلي العربية، وله كتاب "المقالات العشر في العين"، وهو أقدم كتاب مؤلف في طب العيون بطريقة علمية، وهناك ابن البناء المراكشي عالم الرياضيات والطب، وهو صاحب توضيح النظريات العميقة والقواعد المستعصية في الحساب، وقام بالعديد من الأبحاث عن الكسور، كما وضع قواعد لجمع مربعات ومكعبات الأعداد، صاحب كتاب "تلخيص أعمال الحساب" هل نضيف أيضاً أبو إسحاق البطروجي الذي طور نظرية عن حركة الكواكب، وهو صاحب كتاب "الهيئة" الذي وضع فيه نظرياته الفلكية، وابن ما سفريه الطبيب، أول من أنشأ كلية لدراسة الطب في العالم الإسلامي، وأول من شخص مرصد الجذام، وأول إسهام لعالم عربي في الطب النفسي كان له، وأخيراً العالم المصري أبوكامل شجاع، أول من شرح المعادلات الجبرية بشكل واضح، ووضع كل كلمة في كتاب "الوصايا في الجبر والمقابلة".
أليس كل هؤلاء وغيرهم من التراث العربي الذي يطالب البعض بمحوه، وإلقائه في القمامة، فقط لأن أعينهم لم تر سوي سلوك الناس في العصور القدامي، وهم بشر يخطئون، وأولوا الدين وفق مقتضيات زمانهم، الذي هو سبب تخلفنا، نعم التمسك بهذا التراث، بهذا الفرع من التراث هو سبب جهلنا بعقلنا العربي، وسبب تخلفنا، فلماذا الوقوف عنده وحده، وليس مد البصر إلي عقولنا وتطوير منتجها، الذين إذا أضفت إلي عقولهم، عقول الأدباء والنقاد والشعراء في العصور القديمة، لأصبح لك ماض مشرف، لو عرفته، لدينا في التراث القديم الأدبي محمد بن قتبة الدينوري، صاحب الشعر والشعراء، وابن فنيبة المؤرخ، ومحمد بن سلام الحجمحي، الذي وضع أول تصنيف للشعراء، حسب طبقتهم في الإجادة لفن الشعر، والجاحظ العالم الموسوعي، وعلماء الكلام والفلسفة واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد، وأبو الهذيل العلاف، والنظام، والقاضي عبدالجبار، وصولاً إلي رفاعة الطهطاوي، وجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، ومحمد مصطفي المراغي، ومحمد فريد وجدي وعلي عبدالرازق وغيرهم.
مشكلة التعامل مع التراث، وتجديد الخطاب الفقهي، ربما هي الحلقة الأضعف التي يدخل منها العدو لهزيمة المسلمين أنفسهم، ووضعهم في خانة المتخلف والجاهل، فماذا يقول المسلم الحديث عندما يري السلفيين مشغولين بجواز وطء المرأة من دبرها، وطبخ رأس العدو في قدر وأكلها، وجواز زواج الفتاة الصغيرة "إذا كانت ممتلئة الجسم تطبق الفحل" وغيرها وغيرها من الضلالات التي مارسها رجال مضي زمنهم، وكان ظرفهم الاجتماعي يسمح بها، وكانت عاداتهم وتقاليدهم تقرها، تثار هذه المسائل ليظهر الغرب في صورة المتحضر النظيف، صاحب حرية الاختيار والمخترع ومالك التكنولوجيا، ويظهر هذا الجزء من العالم علي أنه يغط في وحل الضلال وصغائر الأمور، بما يجوز معه احتلاله وغزوه وتقسيمه، ولا تتصور أن هذه المسائل تثار الآن وفقط، أو أنها بنت دعوي تجديد الخطاب الديني، فهي مثارة منذ قرن كامل ويزيد، منذ محمد عبده، ومحمد كرد علي في مصر، وبعدهم الشيخ محمد أبوزهرة، والدكتور محمد غلاب، الذي كتب "هذا هو الإسلام"، مروراًَ بحسن حنفي ونصر حامد أبوزيد، ومحمد أحمد خلف الله، وعلي مبروك، وفي الجزائر محمد أركون، ومحمد عابد الجابري، وفي تونس الطاهر حداد، صاحب "امرأتنا في الشريعة والقانون"، وفي المغرب عبدالله العروي، ومن لبنان حسين مروة ومهدي كامل، وفي سوريا الطيب تيزيني، وفي العراق جواد علي، وعلي الوردي، وعشرات بامتداد العالم العربي، هو هم عربي شامل إذن، وليس شأناً مصرياً، لكن ظروف الدول الأخري الاقتصادية شغلتها عن منافسة وطرح السفاسف، وظروفنا وإهابنا دفعنا للغرق في هذا المستنقع الذي لا أول له ولا آخر، ولن يكون له أول ولا آخر، أنفقنا القرن العشرين كله في مناقشة هذه القضايا، فيما كان الأعداء يقضمون وطننا جزءاً جزءاً، ويخربون عقولنا جزءاً جزءاً، ويخطفون النابهين منا بالجملة والقطاعي، ويستنزفون أموال العرب في شراء اختراعاتهم وأسلحتهم لنقتل بها بعضنا البعض، فثقافتنا كما قال نصر أبوزيد: تعبد النصوص إذ يكفي أن تقول قال فلان حتي يتوقف العقل، ويبدو أننا سننفق القرن الحادي والعشرين في مناقشة القضايا نفسها لنخرج الخروج النهائي من التاريخ، ونعوي في الصحراء بلا مأوي.


مصر.. حسن حنفي ضد التصور الجنسي للمعالم

يمثل حسن حنفي، مدرسة كاملة في قراءة التراث الإسلامي بشتي جوانبه، هي مدرسة اليسار الإسلامي التي يري البعض أنها امتداد لفكر المعتزلة، أو ما يسمي المدرسة الإصلاحية بزعامة الإمام محمد عبده، وهو تيار يركز في فكره علي فكرة الثورة، والبنية الاجتماعية، والعدل الاجتماعي، الذي يتطلب تجديد التراث القديم، ويقوم منهج حسن حنفي في قراءة التراث علي تقسيمه إلي تراث يميني وتراث يساري، يقول حسن حنفي: إننا في غياب البديل الإسلامي الثوري لجأنا بالضرورة إلي الماركسية لحل قضية العدالة الاجتماعية، وإلي الليبرالية الديمقراطية لحل القمع المسلط علي شعوبنا، وإلي القومية لإنهاء حالة التشرذم، وإلي ديكارت لحل العقلانية، وقد لاحظ اليسار الإسلامي أن في التراث الغربي بعض الجوانب الإنسانية المضيئة لا يمكن إهمالها، ولا يمكن القيام بنهضة فكرية واجتماعية، لم نستفد من هذه الجوانب.
وإذا كانت دعوات تجديد الخطاب الديني، وإزاحة الفقه السلوكي من علي كاهل الناس، تثار هذه الأيام بطريقة إعلامية، تستهدف الاستقطاب وتهدف إلي نقد تيار الإسلام السياسي، فإن رؤية حسن حنفي، تبقي متفردة من خلال صياغة لمصطلح "اليسار الإسلامي" الذي هو النقد الذاتي للحركة الإسلامية وهو التيار المعارض والمصحح داخل هذه ا لحركة، ومهمة اليسار الإسلامي الكشف عن العناصر الثورية في الدين أو تأويل الدين علي أنه ثورة، فالدين في ذاته ثورة، والأنبياء كانوا ثواراً مصلحين ومجددين، فقد مثل إبراهيم ثورة العقل ضد التقاليد، وثورة التوحيد ضد التجسيم، ومثل موسي ثورة التحرر ضد الطغيان، وكان محمد (صلي الله عليه وسلم) ثورة الفقراء والعبيد والمضطهدين ضد الأغنياء وسادة قريش وطغاتها من أجل إقامة حرية وإخاء ومساواة، وذلك في كتابه "التراث والتجديد" الذي يعد واحداً من سلسلة كتب قام د. حسن حنفي بتأليفها في هذا السياق مثل "الدين والثورة في مصر" و"من القصيدة إلي الثورة" و"مقدمة في علم الاستغراب" و"من الفناء إلي البقاء" "الوعي الذاتي والوعي الموضوعي"، وهي كلها قراءات في التراث العربي الإسلامي تعلي من قيمة العقل علي النقل، وقد ظهر كما يري حسن حنفي أن العقل أساس النقل وأن كل ما عارض العقل فإنه يعارض النقل، وكل ما وافق العقل بأنه يوافق النقل ظهر ذلك لدي المعتزلة وعند الفلاسفة، وظهرت لغة التخيل في الوحي ومنطق البرهان في الفكر.
وإذا اعتمدنا العقل كأساس لنقل فكر السابقين سيسلمنا ذلك إلي فكرة العلمانية، التي يعتبرها حسن حنفي أساس الوحي، جاء ذلك في فقرة مهمة للدكتور حنفي يقول فيها: فإن قيل إن التراث والتجديد سيؤديان حتماً إلي حركة علمانية، وفي العلمانية قضاء علي تراثنا القديم وموروثاتنا الروحية وآثارنا الدينية، قيل قد نشأت العلمانية في الغرب استجابة لدعوة طبيعية تقوم علي أساس رفض الصور الخارجية وقسمة الحياة إلي قسمين واستقلال المؤسسات الدينية للجماهير، وتوطينها مع السلطة وحفاظها علي الأنظمة القائمة نشأت العلمانية استرداداًَ للإنسان ولحريته في السلوك والتعبير وحريته في الفهم والإدراك، ورفضه لكل أشكال الوصاية عليه ولأي سلطة فوقه إلا من سلطة العقل والضمير، العلمانية إذن رجوع إلي المضمون دون الشكل وإلي الجوهر دون العرض، وإلي الصدق دون النفاق، وإلي وحدة الإنسان دون ازدواجية وإلي الإنسان دون غيره، العلمانية إذن هي أساس الوحي، فالوحي علماني في جوهره والدونية طارئة عليه من صنع التاريخ تظهر في لحظات تخلف المجتمعات وتوقفها عن التطور.
علي أن أخطر وأهم ما في رؤية حسن حنفي للتراث وتجديده والتخلص من تراكمات السلوك البشري القديم، فالتغيير السياسي نحو الحرية والديمقراطية والتقدم والتطور التكنولوجي تقتضي تحرير الإنسان من عقدة الذنب إزاء كل سلوك أو فعل تقوم عليه حياته البشرية، وهي رؤية ثورية قائمة علي معرفة بطرائق التراث ووسائل نقله وتفسيره علي مر التاريخ العربي، حيث يري حسن حنفي أن جعل السلوك الإنساني تحقيقاً للنواهي دون ذكر للمباحات التي يمكن من خلالها أن يتصل بالطبيعة، وجعل العالم مواطن للشبهات ولا يجوز للإنسان أن يحوم حولها خشية التردي فيها، هذا كله يمنع الثقة بين الإنسان والعالم، ويضع في الإنسان الخوف بدل الشجاعة، والإحجام بدل الإقدام، ويجعل الإنسان متشككاً في سلوكه مهتماً لنفسه نادماً علي ما فعل مما يرشح فيه الإحساس بالذنب، والوعي السياسي يتطلب القضاء علي كل هذه المحرمات التي تخضع لتحليل العقل ولوصف الواقع.
طبعاً لم يسلم حسن حنفي، من الطعن في عقيدته، خصوصاً ممن جعلوا الكلام في الفقه والمغيبيات سبوبة، ومصدراً للارتزاق وأنشأوا لأجله الفضائيات لا سيما أن مفكراً كحسن حنفي يجعل من التحرر الاجتماعي أولاً المدخل الرئيسي للحرية والسياسة ودون ذلك لا حرية، ولا سيما أيضاً إذا اقترب أحدهم من فكرة الحجاب، العلامة الأبرز علي طهر المجتمع، فقراءة حسن حنفي للتراث تري في الحجاب سيادة للتصور الجنسي للعالم، والبداية بالحجاب وعدم الاختلاط والأمر بغض البصر وخفض الصوت، وكلما ازداد الحجاب ازدادت الرغبة في معترفة المستور، والدعوة السياسية والاجتماعية أرحب وأوسع عن هذا التصور الجنسي للعلاقات الاجتماعية.
علي أن هناك جانباً آخر في تجديد التراث وتنقية الخطاب الديني انتبه إليه حسن حنفي ولم يأخذ المساحة اللائقة في فكر الإصلاحيين، هو التراث الصوفي الذي خصه حنفي بكتاب مهم في جزءين عنوانه "الفناء إلي البقاء" الجزء الأول يأخذ عنواناً فرعياً هو "الوعي الموضوعي" والجزء الثاني "الوعي الذاتي" في محاولة لإعادة بناء التوصف، ومحاولة لكي يعود المتصوفة إلي العالم من جديد كما قال في الإهداء.

لبنان.. حسين مروة.. التراث الطائفى لا يصنع نهضة
أيضا كان الاغتيال نتيجة حتمية لمسيرة مفكر آخر، حاول تطوير التراث العربى متلمسا فيه طريق الخروج من وصل اجترار النصوص، ففى اللحظة التى سقط فيها حسين مروة أمام منزله صريع الرصاص عام 1987م، كان قد أنجز مشروعه الكبير «النزعات المادية فى الفلسفة العربية الإسلامية»، الذى حاول فيه تطبيق المنهج المادى التاريخى على التراث الفكرى العربى الإسلامى من خلال تبلور ملامح التفكير الفلسفى على يد الشيعة والخوارج، والتوقف عند الصراع المعتزلى الأشعرى، وكيفية قراءة حركة التصوف بمفاهيمها السياسية والنظرية والفكرية، وظهور إخوان الصفا والجهود الفلسفية للكندى والغارابى وأبى بكر الرازى وابن سينا.
وهو هنا ثالث مفكر، يهتم بشرح سياقات التفكير العربى من خلال الاعتقاد بدين الإسلام وفهمها فى ضوء الظروف الاجتماعية التى أنتجت جميع النصوص المتعلقة بالدين الإسلامى كثقافة، وتراكم هذه الثقافات على النص، حتى شكلت دينا آخر حجب عوامل التطور والتفكير، وغطى على نقاء الدين الأساسى، وهو يتفق مع حسن حنفى فى الاهتمام بظاهرة المتصوفة والتصوف باعتبارها تنويعا وخروجا على مسلمات أهل السنة، وترك الصراع الفكرى حول الدين وقواعده التشريعية بعد أن تعددت الشروح، وتراكمت التفسيرات مما شكل عبئا على عقل المواطن العربى الذى هرب من كل ذلك بالتصوف، حاول مرة ربط النصوص الدينية وشروحها والظاهرة التراثية بسياقها الاجتماعى والتاريخى، فأظهر أنها ليست معلقة فى فراغ، وليست ثمرة عبقرية فردية خارج زمانها، بل إنها تتشابك كما يقول موسى برهومة فى كتابه «التراث العربى والعقل المادى» مع الظواهر الإنسانية الأخرى.
كان الموقف الثورى لحسين مروة من التراث يضمن تحقيق هدفين هما: استيعاب هذا التراث مع نحو جديد وتوظيف هذا الاستيعاب لتعزيز حركة التغيير والتحول فى المجتمع، وذلك لخدمة حركة التحرر العربية من خلال خدمة الثقافة العربية، وذلك بإزاحة العناصر الطائفية من التراث والإبقاء على التراث الثورى والمضىء، وهى الطائفية نفسها التى قتلت مروة على يد حزب الله، وما ينبغى إزاحته من التراث، فى رأى حسين مروة هو التبعية السلفية التى تنتسب إلى الفكر الإسلامى وتحاول أن تحتل مكان الصدارة فيه.
تمثلت جرأة حسين مروة فى أنه طبق المنهج الماركسى على التراث العربى، وحاول قراءته من خارجه (خلافا لنص حامد أبو زيد) وهو الأمر الذى دفعه للوقوف طويلا أمام مرحلة الخلفاء الراشدين وانفجار الصراع الاجتماعى والسياسى، وحروب الردة وحروب الفتح العربى الإسلامى، وعملية التفاعل الاجتماعى والثقافى، وظهور الخوارج والانقسامات التى جرت فى صور الإسلام، وما ترتب عليها من صراعات فكرية، وموقف النزعة من مسألة الجبر والاختيار وانحيازهم لفكرة حرية الإنسان عن أفعاله، واعتبارهم القرآن مخلوقا، وبالتالى نفوا عنه فكرة الإطلاق، هذا الفكر العقلانى للمعتزلة فى صدر الإسلام خلق معارضين، كما رأى حسين مروة وتمثلت المعارضة فى التيار السلفى، والحنبلى والأشعرى.
فيما يتعلق بالتصوف، يرى حسين مروة أنه شكل جزءا من الفلسفة العربية الإسلامية، ولكنه تميز بطابعه الخاص، وعكس مرحلة محددة تشكل بداية معارفية ثورية لعلاقات الإنتاج الإقطاعية التى سيطرت فى دولة الخلافة، بعد ذلك يغرق حسين مروة فى تفصيلات حول تقسيم التصوف بين السلوك العملى للناس وبين الفكر النظرى، وكونه سلوك احتجاج ضد مظالم الخلفاء، وصولا إلى إخوان الصفا باعتبارهم أول حركة تقدمية فى التراث العربى الإسلامى انتهاء بمناقشة آراء الفلاسفة المسلمين، وما يصلح منها لخلق حركة نهضة عربية لم تأت حتى هذه اللحظة.

مصر.. نصر حامد أبوزيد.. النهوض من داخل القرآن
فى يوليو 2010مات نصر حامد أبوزيد، بعد أن طُرِد من وطنه، أو نفى، إثر حكم محكمة بتفريقه عن زوجته لأنه مرتد وملحد فى نظر القاضى، ونظر مقيم الدعوى، لأنه تجرأ وتعامل مع فكرة النهضة من منطلق تأويل جديد للقرآن الكريم، نص الثقافة العربية الإسلامية الأساسى، وما دام هذا النص متحكما وحاكما، وما دامت حالنا هكذا لا تخفى على أحد، من فساد واستبداد، سواء باسم النص نفسه القرآن، كما تفعل جماعات الإسلام السياسى، أو باسم الوطنية المتحالفة مع مؤسسة دينية أيضا، فلا مفر من تأويل هذا النص تأويلا جديدا يمكن من خلاله النهوض بهذه الشعوب، و بهذه الأمة، ولتفسير النص اختار د. نصر أبوزيد (مواليد 1943م) مصطلحا صعبا اسمه «الهرمنيوطيقا»، وهو علم فى التفسير يتعامل مع أى نص بوصفه نصا عاما مستفيدا فى ذلك من علوم عديدة كالتاريخ وعلم الاجتماع وفلسفة الجمال والنقد الأدبى والفلوكلور... إلخ.
ولأن القرآن، الذى أراد نصر أبوزيد أن ننهض به ومن خلاله، ليس نصا كأى نص فى رأى جماعات الإسلام السياسى، بل هو مقدس لا ينبغى المساس به، والاكتفاء بالتفاسير القديمة التى استقرت هّى الأخرى فشكلت نصا موازيا، هاجت الدنيا وضاع نصر حامد أبوزيد بين المحاكم و النفى والتفريق والسب على المنابر.
كيف قام فكر نصر أبوزيد على تفسير القرآن؟
جاءت الأفكار الأساسية لهذا الفكر فى كتابه الأهم «مفهوم النص.. دراسة فى علوم القرآن» كان صدر عن هيئة الكتاب، ثم صودر، ثم أصبح السلعة الأساسية فى سوق الكتب السوداء، يتم تبادله كالمخدرات هنا فى مصر وصاحبه يدرس العلوم الإسلامية فى جامعة «ليدن» بهولندا.
ليس من المجدى بالطبع تلخيص نظرية نصر أبوزيد فى مفهوم النص ومحاولة تفسير القرآن وتلمس أسباب التقدم والنهوض فيه، لكن المهم أنه شرح ذلك بنفسه بعد ذلك: أنا مشغول ببلورة مفهوم للنص وبالقيام من داخل علوم القرآن التقليدية بمحاولة قراءة حديثة لهذه العلوم، وقد ظهر لى مفهوم التاريخ بمعنى أن القرآن نص تاريخى وثقافى، وتاريخية النص القرآنى تعنى أن هناك أجزاء منه سقطت بحكم التاريخ وأصبحت شاهدا تاريخيا، أى أنها تحولت من مجال الدلالة الحية المباشرة إلى مجال الشاهد التاريخى، مثال ذلك تحول آيات الرق والأحكام المتعلقة بها إلى آيات للعبرة، بعد زوال نظام الرق.
وبما أن الحضارة العربية، كما يرى نصر أبوزيد، هى حضارة النص، فالخروج من الأزمة العقلية الحالية، والالتحاق بالتقدم والتحديث يقتضى التعامل مع هذا النص تعاملا لغويا، يضع فى الاعتبار أن النص مقدس، لكن لغته غير مقدسة، خضعت لعوامل التطور اللغوى، وعليه يجب أن نجرى على هذه اللغة المناهج الحديثة لفهمها ونزع القداسة عن هذه اللغة، حتى يمكننا فهمها فى سياقها وظرفها الاجتماعى.
من أين أتت المشكلة إذن؟ أتت من أن البعض فهم من كلمة التاريخى أنه زمانى، ومن الثقافى فهم أن المقدس قد أصبح إنسانيا، ولإزالة هذا اللبس يوضح د. نصر حامد أبوزيد: أنه إذا كانت الرسالة إلهية فإن اللغة ليست إلهية، بل هى بشرية، وهذا ليس شأن القرآن وحده، بل شأن الكتب المقدسة كلها.
لم يكن لمشروع نهضوى كهذا، يقوم أو يحاول أن يقوم على التعامل البشرى الحر مع القرآن الكريم أن ينجح، ليس لأنه المجتمع يرفض ذلك، لأن المجتمع غير معنى بسجال كهذا، بل لأن أجزاء من علماء الإسلام والجامعة التى يدرس فيها نصر أبوزيد هذا الكلام للطلاب أكثر محافظة من المجتمع، وبالتالى كان أول من أثار قضية نصر أبوزيد هوى فهمى هويدى فى الأهرام، ثم تلقفها من ورائه من قصد أن تصل الرسالة إليهم، ووصلت.
يقول نصر حامد أبوزيد ملخصا رؤيته للتراث والقرآن مرة واحدة: «القرآن نص سردى بامتياز، وهذه قضية لم تنل حقها بعد من الشرح والتحليل و التفصيل، يحكى قصصا كان المعاصرون يعرفونها، وهو يخاطب معاصريه على قدر تصوراتهم التى تتمثل العالم عجائبيا وغرائبيا، مليئا بالملائكة والجن و القوى المسخرة، إما لمساعدة الإنسان أو لتعويقه. هذا عالم القرآن الملىء بحكايات المعجزات وقصصها التى كانت جزءا من الواقع الثقافى، وحين نتحدث عن الواقع الثقافى يكون الحديث عن المفاهيم والتصورات القارة فى وعى الجماعات التى توجه لها القرآن فى القرن السابع ومخيالها، عن هذا يقول الإمام محمد عبده: إن هذا القصص بما يتضمنه من معجزات وأفعال خارقة لا يقصد به التأريخ وإنما يقصد به التنبيه والاعتبار، إنها فى نظر عبده تمثيلات تخيلية، بل إن لبده يذهب إلى تبنى رأى بعض المعتزلة فى مسألة نزول الملائكة للحرب إلى جانب المسلمين فى موقعة بدر، بأن هذا لم يحدث حرفيا فالمؤرخون حددوا على وجه التقريب عدد القتلى من الجانبين ومَنْ قتل مَنّ... إلخ ،القرآن ينص على أن الوعد بتنزيل الملائكة للقتال مع المؤمنين كان لمجرد البشارة وتقوية العزيمة، «وما جعله الله إلا بشرى ولتطمئن قلوبكم.

المغرب.. محمد عابد الجابرى.. تلفيق السلفى والليبرالى
محمد عابد الجابرى، أكثر الأسماء العربية شهرة فى مجال الفكر، الذى حاول إيجاد حلول لمشكلات معاصرة، وقيام نهضة عربية انطلاقا من التراث، ولعل حواراته الشهيرة مع حسن حنفى، والتى صدرت فى كتاب مستقل، تلخص الاختلاف على التراث وفيه، لكن يبقى أن كتاب محمد عابد الجابرى الشهير: «نقد العقد العربى» بأجزائه الثلاثة هو العلامة الأبرز فى هذا السياق، إذ هو كمشروع نقدى ينطلق من نقد الذات عموما، والتراث بشكل خاص، حيث يلخص الجابرى أزمة العقل العربى فى ثنائية «الأصالة والمعاصرة»، ثم يتوقف عند أشكال من الخطاب منها النهضوى والسياسى والخطاب القومى والفلسفى، والعقل العربى الذى يقصده الجابرى فى كتابه ليس عقل جيل أو فئة من العرب، بل هو العقل العربى الذى أنتج كل هذه الخطابات، وسارت متوازية بجوار بعضها البعض ولم تلتلق.
لكى ننطلق كأمة عربية لديها فى تراثها الكثير من القيم العلمية والإنسانية الباقية، استنتج الجابرى أن التوجه السلفى والليبرالى وجميع الأسماء الأيديولوجية العربية الأخرى لا تستطيع ولا نستطيع نحن العرب أن نفهم أو نعى مفهومى الأصالة والمعاصرة ما دمنا محكومين جميعا بسلطة النموذج السلفى القديم، سواء أكان من التراث العربى أم من الفكر الغربى، والنتيجة الأقرب للتحقق فى الواقع التى يصدم بها الجابرى العرب هى أن العقل عندنا عقل فقهى يبحث عن مرجعية سابقة، سواء كان يمينيا أم يساريا، ويغيِّب دائما العلاقة بين النص القديم وبين الواقع الذى أنتجه، والواقع الذى يراد له أن يطبق عليه.
مم تتكون نظرية الجابرى للنهضة العربية، وما علاقتها بالتراث يرى الجابرى أولا أن التراث هو الموروث الثقافى والفكرى والدينى والأدبى والفنى فى مواجهة من يراه ممثلا فى القرآن والسنة فقط، هو إذن الذاكرة الإنسانية للعرب بكل معانيها الإنسانية والمعرفية والعلمية والثقافية، وفى هذا المجال المتسع تكمن الكثير من القواعد التى يمكن أن نبنى عليها واقعا عربيا ليس تابعا للغرب بجملته، وليس غارقا فى الماضى تماما.
يرى الجابرى فى مجمل عمله، بالإضافة إلى نقد العقل الإسلامى أنه من المستحيل تحقيق نهضة عربية إسلامية معاصرة دون أن ننطلق من تراثنا الإسلامى، أو ننتظم داخل تراث غيرنا، وعلينا أن نقرأ تراثنا بأدوات جديدة وبعقلية معاصرة تنطلق من تصورات داخلية لمحاربة التخلف ومواجهة طغيان الاستعمار، وتقويض وهدم المركزية الأوروبية وتعريتها وتفكيكها، فلابد إذن من خطوة إلى الوراء لصالح خطوتين إلى الأمام.
بعد أن حصر الجابرى عناصر التراث الباقية، وقام بقراءتها وفحصها والتى تمثلت فى كتابه «نحن والتراث» الذى قدم آراء معاصرة للفلسفة الإسلامية من خلال التركيز على بعض الفلاسفة مثل: الفارابى وابن سينا وابن باجه وابن رشد وابن خلدون، لكنه لاحظ وقوع مشكلة التوفيق بين الشرع والفلسفة، أى بين الثابت، والذى يقبل التعدد والهدم لدى أغلب الفلاسفة، وهى مشكلة لم تجد لها حلا، لا عند الجابرى نفسه، ولا عند من أتى بعده، الأمر الذى يفرض على العرب إن أرادوا النهوض أن يتخلصوا من الجزء الميت فى التراث، وأن ينموا الجزء الحى فيه مع ضرورة الاستفادة من الحضارة الغربية، ولا عيب فى الأخذ منها، لأنها قامت على إسهامات العلماء العرب بعد قرون أوروبا الوسطى.

سوريا.. الطيب تيزينى.. التراث الثورى
مثل نصر حامد أبوزيد، وربما أسبق منه، كانت لدى المفكر السورى «الطيب تيزينى» رؤية واضحة للتعامل مع النصوص التراثية ومن ضمنها القرآن، وضرورة التعامل معها باعتبارها نصوصا تاريخية، الطيب تيزينى (مواليد حمص السورية عام 1934)، أصدر فى البداية كتابه «من التراث إلى الثورة»، محاولا فيه قراءة التراث قراءة نقدية لا تأويلية، بقصد تحديث الفكر العربى ودفعه إلى إيجاد حلول للقضايا المعاصرة التى تواجه العرب، وتحديات تلك القضايا الجسيمة والمساهمة فى الحداثة، وأن القراءة النقدية لذلك التراث لابد أن تتخلص من الأيديولوجيا، لأن الأيديولوجيا تخص صاحبها لا التراث نفسه، ثم توالت بعد ذلك كتب الطيب تيزينى مثل: «النص القرآنى أمام إشكالية البنية والقراءة»، و«الله فى السجال الفكرى الراهن»، وهى كتب أكثر جرأة واجتراء فى نقد التراث العربى الإسلامى القديم، للإبقاء على الصالح منه والتخلص من الأجزاء الميتة فيه، لخلق نهضة عربية شاملة تدخل بالعرب كشريك فاعل فى الحضارة العالمية التى يقفون على أطرافها مستهلكين لها لا منتجين فيها ولا مساهمين، ولكى يحدث مشروع النهضة العربى لابد أن يستند إلى ثلاثة حوامل: الحامل الاجتماعى، أى القوى الوطنية والاجتماعية بمختلف توجهاتها، ثم الحامل السياسى، والحامل الثقافى، والمقصود الثقافة الوطنية أو القومية المفتوحة التى تعترف بالجميع.
تتشعب نظرية النهضة انطلاقا من التراث لدى د. الطيب تيزينى لتشمل كل أنواع التراث العربى، فهناك التراث المطلق، الذى يتعلق بإنجاز العرب العلمى الخارق للزمن، والثانى هو التراث النسبى، ويتعلق بمنجزات العرب فى العلوم الاجتماعية والإنسانية، وهذا فيه خلاف كبير، وعليه جدل أكبر، وفى قلب هذا التراث النسبى يأتى القرآن الكريم، ومن هنا تأتى الإشكالية فى فهم الفكر الدينى بشكل عام والقرآن بشكل خاص، إذ يرى د. الطيب تيزينى أنه من الممكن قراءة القرآن قراءة جدلية تاريخية، وبالتالى توضيحه على ضوء هذه القراءة، لصياغة المبادئ الضرورية للنهضة العربية، ليمكن إيجاد أرضية مشتركة بين فكر النهضة المبنية على المنطق، وتلك المبنية على التراث العربى الإسلامى.
لكى يقدم تيزينى رؤيته للقرآن والسنة والتراث العربى عموما - وذلك فى «مشروع رؤية جديدة للفكر العربى من بواكيره حتى المرحلة المعاصرة» فى 12جزءا، اختص الجزءان الرابع والخامس منها بالسنة والقرآن - لكى يقدم رؤيته فَنَّد كل الدراسات التى تناولت ذلك التراث، وقدم بعد ذلك رؤيته البديلة التى تقوم على: اعتبار التاريخ والتراث الفكرى ظواهر اجتماعية عامة، واعتبار التاريخ والتراث مظهرا من مظاهر حركات طبقية وقومية إنسانية، وضرورة تقصى لحظات الانقطاع والصعود فى التاريخ والتراث، ثم العمل على خلق مزيد من الوضوح المعمق حول البنية الاجتماعية للمجتمع العربى القديم والحديث.
يضع د. الطيب تيزينى القرآن والسنة النبوية، بين الواقع والفكر، حيث يقول فى الجزء الخامس من مشروعه وهو بعنوان: «النص القرآنى أمام إشكالية البنية والقراءة»:
«كان من ضرورات البحث تناول القرآن والسنة بالقدر الذى يقتضيه الموقف المركب، أى بالحدود التى تقتضيها جدليتا الفكر والواقع الدال والمدلول، وبتعبير آخر كان علينا أن نأتى على النسقين الدينيين المذكورين فى تبنيهما وتموضعهما اجتماعيا وتاريخيا».
إجمالا يعتبر الطيب تيزينى أن نظرية التراث فى جوهرها ثورة تراثية أساسها وشرطها الثورة الثقافية، وشرط الثورة الثقافية هو الثورة الاجتماعية، لأن هيمنة القراءة السلفية للنص الدينى تتمثل فى إقناع الطبقات والفئات البائسة بأن الخروج من تلك الصور التراثية هو بدعة لجعلنا أسرى الماضى، ومن ثم العمل على توظيف تلك الصور النمطية المغلوطة عن التراث فى خدمة مصالح طبقات رجعية لإدامة هيمنتها أطول فترة ممكنة.

الجزائر.. محمد أركون… عجز السلفيين وخرافة الإسلام هو الحل
ربما تبقى المحاولة الأعمق لنقد التراث العربى، وقراءته قراءة جديدة مغايرة ومختلفة، عن كل من تناول هذا الموضوع، تبقى من نصيب المفكر العربى محمد أركون فى كتابه:«نحو نقد العقل الإسلامى» الذى صدر بالفرنسية فى باريس سنة 1984، وفيه وفى غيره مارس النقد القاسى لإنتاج العقل الإسلامى. منذ بدء الرسالة المحمدية مرورا بكل حقب التاريخ الإسلامى، وكان أركون أول من استخدم مصطلح «القطيعة مع التراث» خصوصا تراث الممارسات السلوكية لبشرى عاشوا فى أزمنة مغايرة للعصر الحديث، مع إلقاء الضوء على منجزات العقل الإسلامى فى مجالات أخرى غير الفقه، نقطة الضعف المركزية فى حاضر العالم الإسلامى، وطبق أركون فى قراءته للتراث العربى والإسلامى العلوم الحديثة فى فن الخطاب، وعلم الاجتماع والأسلوبية وغيرها من المدارس النقدية المعاصرة، ليس بهدف التخلص النهائى من التراث وإنما الإبقاء على النافع فيه، دون الاستغراق فى التفاصيل، مع ضرورة استفادة العقل الإسلامى من منجزات الحداثة الغربية للخروج من حالة التخلف والدونية التى يشعر بها العربى الحديث.
يضع أركون يده بداية على اللحظة التى انقطع فيها العربى عن تراثه العلمى والفكرى، واستغرق فى مسائل الفقه، ومركزية المرأة تمثلت تلك النقطة فى الاحتلال العثمانى للعالم الإسلامى، ومعه دخل العقل الإسلامى فى قطيعة داخلية تمثلت فى ترك أسمى إبداعات العقل الكلاسيكى الإسلامى، وكرست للانخطاط ثم عزلت العقل الإسلامى عن العالم الخارجى وعن التطور والتقدم الأوروبى الذى انتهى بتكريس التفوق الغربى ودويقة العقل الإسلامى، ثم غرقت الأمة العربية كلها مع هذا الإحساس حتى وقتنا الحاضر.
كان هدف أركون البعيد من إعادة فحصه للتراث العربى والإسلامى فى أدبياته الكبرى، لاسيما العقلى منها هو إبراز ما لهذا التراث من قيمة معاصرة وحداثية، ينبغى البناء عليها والاستفادة منها، وما على هذا التراث من مآخذ ينبغى التخلص منها واعتبارها من مخلفات الماضى والتعامل معها على أنها تخص آخرين لا يعيشون بيننا، وذلك عبر قراءة «اللامفكرفيه» «المكبوت الحضارى»، ومعنى التاريخية والمنسى من هذا التراث، ومساءلة الخطاب الدينى الذى يحصر الإنسان العربى فى مفاهيم الهدى والتقوى، وحظيرة الحاكم الملهم، وكانت نتيجة هذا الخطاب الذى هيمن هى الفتن والحروب الطائفية والمذهبية، واستقلال الدين لأهداف سياسية واقتصادية وهيمنة المشايخ ورجال الدين على المشهد العام، وإخفاء العالم والمفكر والمخترع واعتباره شخصا معقدا كارها للدين لنمط الحياة الإسلامى.
قبل أن يقدم أركون مشروعه الكبير الذى أفنى فيه عمره، قام بقراءة كل المشاريع الفكرية التى تصدت للتراث وخصائص كل قراءة والهدف النهائى منها، وكونها تخدم أى مشروع سياسى لحاكم ما، ورأى أركون أن قراءة التراث لابد أن نخرج من فكرة خدمة المصالح الأنتية للحكام العرب، أو التخديم على مشروع فكرى لأى نظام سياسى، بل هى قراءة ينبغى أن تأخذ فى الاعتبار خدمة العقل العربى والإسلامى ونقله من حالة التخلف والجهل إلى حالة الفعل والمشاركة الحضارية، إن التفكير فى التراث فى رأى أركون يتطلب تجاوز التفكير الإيجابى، أى التفكير فيما هو مفكر فيه، ومعترف به فكريا على صعيد المؤسسات الدينية الحكومية والسياسية، إلى التفكير السلبى، أى قراءة المسكوت عنه واللا مفكر فيه بأدوات ومنهجيات جديدة، لتجنب أحكام المستشرقين، أو الوقوع فى فخ حصار التاريخ للعقل العربى.
هدف مشروع محمد أركون فى قراءة التراث إلى هدم مقولة «الإسلام هو الحل» كما يرى د. زهير توقيق، فى توصفه لمشروع محمد أركون:«إذ يستهدف مشروع فهم التراث وتقويمه لتجاوز عناصره الميتة التى فقدت مشروعية استمرارها، والاحتفاظ فقط بما هو إيجابى لاستكمال مشروع الحداثة والتحديث، وتحويل التراث من قوة معيقة للتحرر، إلى قوة محررة للذات برغم قناعته المسبقة بفشل التيارات السلفية وعجزها عن الرد وتعويض حالة الاستلاب والاقتلاع وفقدان الهوية التى يعيشها العرب برغم الإلحاح والشعارات المرفوعة عن تطبيق الشريعة وشعار الإسلام هو الحل».
برغم أن أركون من أبرز وأهم العقول العربية الإسلامية التى وقفت بجدية لنقد التراث الإسلامى، ولتجديد الخطاب الدينى، فإنه يظل مقصورا على النخبة أو على نخبة النخبة، وبعض المستشرقين، وضاعت جهوده وجهود غيره هباء، حتى بعض المستشرقين الذين لا يختلف أركون مع الجادين منهم والموضوعيين فى رؤيتهم للتراث الإسلامى، ضاعت، وكان أركون قادرا على الفرز بين نوعيات المستشرقين الذين يقصدون إلى المعرفة وبين الذين يخدمون مخططات دولهم مثل رينا وجولة زير، مثلهم فى ذلك بالضبط مثل المفكرين العرب الذين يذهبون إلى التراث وينتقون منه ما يخدم هدف ساستهم وحكامهم، ومثل الفقهاء العرب الذين أصبح الخطاب الدينى التقليدى مصدر رزق لهم، جنوا من ورائه القصور والفيلات العربات الفارهة وظلت شعوبهم تحت وطأة الفقر والجهل والمرض، ويدلل أركون على هذه القراءة المغرضة من قبل الطرفين المفكرين والفقهاء بمقولة واشتراكية الإسلام، أيام حكم الاشتراكية وسيادتها فى العالم العربى، ثم مقولة الإسلام مع الحرية الاقتصادية مع سيادة وانتصار النمط الرأسمالى، أى أن الإسلام نفسه بجملته صار فى خدمة مشروع اقتصادى سياسى مهمين عالميا، وتراكمت عليه المقولات، حتى أصبحنا لا نعرف أيها هو الإسلام بالضبط.
ذهب أركون أخيرا إلى جوانب مهمة فى التراث الإسلامى وأعاد قراءتها مثل: المنسى أو المهمل، والمفكر واللامفكر فيه وطبق عليه مناهج علمية تعلمها فى الغرب ليخرج منه بالقيم المضيئة والباقية، أى أنه أضاء التراث بعلوم الحداثة ونقده من خارجه، كما نقده من داخله فى العديد من الأبحاث والدراسات التى لا تزال مجهولة للقارىء العربى.

المغرب.. عبد الله العروى.. التراث هو الحجيم
الدفاع عن الحداثة وتأجيلها انطلاقا من الدفاع عن الفكر التاريخى استيعاب منجزات البشرية، هو الخطوة الضرورية لخلق مشروع نهضوى عربى يتجاوز شتى وجوه التأخر الشامل الذى يتهم به العالم العربى والإسلامى بمشرقه ومغربه، ذلك هو جوهر المشروع الفكرى الأصيل للمفكر المغربى عبد الله العروى، والذى تجلى فى كتابه المهم «الأيديولوجيا العربية المعاصرة» فتطوير الثقافة العربية، لا يمكن أن يتم دون دمجها فى الثقافة العالمية، لأن المشروع الثقافى الغربى ليس مجرد مشروع استعمارى أو غزو، ليس بالمعنى التلفيقى، أو الوقوع فى فخ ثنائية المعاصرة والتراث، كما شاعت لدى أغلب مفكرى ومثقفى الأمة العربية على مدار القرن العشرين كله، بل بالانخراط فيه وعدم الخوف من الثقافة العالمية، حتى لو كنا لم نسهم فى صنعها، بل نحن بالاندماج فيها مطالبون باستيعابها لنتمكن من غرس وبناء قيم الحداثة الفعلية، بدلا من الاكتفاء بالنسخ المقلد الذى يجعلنا معاصرين فى الظاهر، دون أن نتمكن من إدراك المسافات الزمنية والعقلية الكبيرة التى تفصلنا عن العالم الحديث.
وسواء فى «الأيديولوجيا العربية المعاصرة»، أم «مفهوم العقل» كان عبد الله العروى يرسخ نقطة مركزية هى «القطيعة مع التراث العربى القديم»، الذى كان نتاجا طبيعيا ومنطقيا لواقع اجتماعى أفرزه وانتهى، والتمسك بهذا الإفراز التاريخى يعنى استجلاب الواقع الاجتماعى الذى جرى فيه، لكن المستقبل، وضع الأمة العربية فيه شأن آخر، لابد أن يقطع مع هذا التراث قطيعة تامة، والنهضة العربية مرهونة بتحول المجتمعات العربية إلى حالة الحداثة، أى اعتناق الفكر الغربى بمقولاته الأساسية، وهى: العقلانية والتقدم والنقد ومسئولية الإنسان عن نفسه على المستوى النظرى، والعلمانية والنظام الماركسى والدولة المركزية على المستوى العملى.
ولكى لا يساء فهم مصطلح القطيعة المعرفية مع التراث، يوضح د. عبد الله العروى أنها تعنى القطع مع الأساليب والمناهج العقلية للبحث الفكرى التى استخدمت فى التراث العربى والإسلامى، يقول د. عبد الله العروى: حاولت فى كل ما كتبت أن أوضح الوضيعة التاريخية التى نعيشها والتى لا نستطيع أن ننفيها، وتجعل من كل أحكامنا على حالات خاصة أقوالا هادفة، مصلحية تبريرية، لا فائدة فى الحكم عليها بأنها حق أو باطل، بالنسبة لأى مقياس.. إذا اتضح أن عهد التقرير «أعلم أن» قد انتهى بانحلال قاعدته المادية والاجتماعية والفكرية، وكذلك عهد منطق المناظرة، إذا أورد كذا فالجواب كذا، يتضح عندئذ أنه لم يعد هناك بداهة (فكرة) جاهزة أو ضرورة منطقية يركن إليها الجميع تلقائيا وتتماسك بها الأفكار ولابد من امتلاك بداهة جديدة، وهذا لا يكون إلا بالقفز فوق حاجز معرفى، حاجز تراكم المعلومات التقليدية، لا يفيد فيها أبدا النقد الجزئى بل ما يفيد هو طى الصفحة.
عبد الله العروى هو أكثر المفكرين العرب صراحة ووضوحا فى موقفه من التراث العربى، وتجديد خطاباته على كل المستويات، فهو لا يرى فيه أية فائدة، خصوصا الفكر الفلسفى القائم على المناظرة واليقين، وعلى وصف سلوك وأفكار مجتمعات يمثل أى جديد بالنسبة لها بدعة، وكل بدعة ضلالة، ولكى يتم ذلك فى رأى عبد الله العروى لابد من إقامة الدولة الحديثة، إذ لا معنى بالنسبة له أن يتم تحقيق تحولات جزئية فى مبادىء الحداثة الأخرى مثل الديمقراطية والليبرالية، والمجتمع المدنى، إلا بعد إقامة الدولة الحديثة، والدولة الحديثة لكى تنشأ فى رأى العروى، لابد أن يكون العنصر الاقتصادى هو الحاكم فيها أى أن يعتمد بوضوح النظرية الماركسية ودون موارثة، حيث يقول بوضوح: الكثيرون يستشهدون بماركس، ولكن لأهداف سياسية فقط، إن ماركس النافع هو ملخص ومؤول ومنظر الفكر الأوروبى العام الذى يمثل الحداثة بكل مظاهرها، والأفضل لنا نحن العرب فى وضعنا الثقافى الحالى أن نأخذ من ماركس معلما ومرشدا نحو العلم والثقافة من أن نأخذه كزعيم سياسى.

العقل فى مواجهة جماعات تقدس الخرافة
فكرة خبيثة صنعها الاستعمار
تسأل: لماذا وكيف؟ ولا أحد يجيبك عن لماذا وكيف؟
الدولة تحارب الإرهاب، ستضحك حتى تستلقى على قفاك، إن طقت الضحك، الدولة لا تسمح لمفكر أن يفكر، أو لخارج على التقاليد أن ينجو، فماذا لو أن على مبروك - مثلا - هو نجم الفضائيات؟ وماذا لو أن نصر حامد أبوزيد لم يفرق عن زوجته ويهاجر إلى هولندا وظل يدرس لطلابه فى جامعة القاهرة وغيرها من الجامعات ما كان يدرسه؟ فهل كان طه حسين إلا فردا غير أمته؟ وهذا ما دعاه الذكى صلاح عبدالصبور «تنازع شرف العقل»، حيث تختصم الأمة حل مفكر ما، تحتفل به وبذكراه حتى لو لم يكن من أبنائها، فتنازع الأمم الشرف، كما تتنازع الأرض والمال، وآثر ألوان الشرف لدى الأمم هو شرف العقل والتنازع عليه أكرم ألوان التنازع وأحقها بالتقدير.
نحن نشرد عقولنا، لكننا نسمح لجماعات بالعمل حتى لو كانت جماعات تقدس الخرافة، وتشيع الجهل، فتحالف معها، لأنها أداة ضبط اجتماعى، فهل خرجت علينا يوما ما جماعة بفكرة للنهوض بهذا الشعب؟ هل تبنت جماعة من جماعاتنا المتكاثرة كالفطر، مذهبا فكريا أو فلسفيا أو م شروعا تعليميا؟ الأفكار كلها والاهتمام بالنهوض بجملته هو هم أفراد نابهين، فإذا كانت جماعة الإخوان المسلمين مثلا ظلت تطمح للوصول إلى السلطة وحققت ذلك فإن مشروعها هو تنظيمى، اجتماعى، لا علاقة له بالفكر، والسلفيون أضل سبيلا ومشروعهم تجارى، يرى الأفضلية فى الزمان للماضى لا المستقبل، والماضى تم وانتهى، واكتملت أركانه، ولا يصح تأمله إلا كتاريخ، وللمستقبل مواصفات أخرى، الجماعات الهوياتية كارثة على مصر، وعلى الأمة العربية، عرفناها وخبرناها على جلودنا، ومن لحم أجسادنا الحى، الجماعات تريد ومجنا فى تصورها، كأننا ثابتون ساكنون، لا نعرف الحركة، وهكذا ينشأ الصراع الذى يستنزف الأفراد والمؤسسات والحكومات، ويدمر الشعوب.
الجماعات الفكرة الخبيئة التى خلقها الاستعمار، ومعنى الجماعة من أخطر المفاهيم، وقديما وصفنا اللورد كرومر فى كتابه «مصر الحديثة» - صدرت له طبعة حديثة بالمناسبة عن المركز القومى للترجمة فى جزءين - بأننا عبارة عن تكتل من الجماعات المختلفة، وأراد أن يرسخ المفهوم حتى يستقر فى وعينا، ونعمل بهدى منه، إن مصر فى رأى اللورد كرومر تتكون من جماعات منفصلة عن بعضها تتمثل فى المسلمين والمسيحيين والأوروبيين والآسيويين والأفارقة، أضف أنت من عندك، من داخل المسلمين جماعة الإخوان، وجماعة السلف، والجماعة الإسلامية، وهم جزء، وكلها سيصبح لها مصالح فى الحك لا ينبغى الإضرار بها، وعليه فإن أية حكومة فى مصر أو حكم، لا يكون عمليا، أو قابلا للتحقق بغير أضرار بمصالح أى من هذه المجموعات، لا مرحى: عمليا يعنى استحالة أن تكون مصر دولة واحدة فى ظل وجود هذه الجماعات.
هذه الجماعات تتنازع على التراث القديم، بدلا من التنازع على شرف العقل، وحيرت التراث صخرة سيزيف، ما إن نوشك أن نصعد بها إلى مستقرها الأخير، وندفنها فى تاريخها، حتى تهبط علينا من علٍ مرة أخرى، جارفة فى طريقها أعمارا وأجيالا وأمولا، وكل إمكانية للحركة خطوة واحدة إلى الأمام، فتكرر أسئلة كنا طرحانها، نحن أنفسنا منذ عقد أو أقل، وطرحها قبلنا آخرون، كل عقد أو أقل، ضخرة سيزيف يا مولانا، ضخرة سيزيف صنعت الأسطورة لنا، وليس لغيرنا، وصرنا ضحيتها التراجيدية، ذلك كى يحيا مجموعة من البشر حكاما وجماعات فى بلهنية من العيش، تريدون دليلا؟ تعالوا نفهم ما جرى فى مشروعات نهضوية لأفراد أفذاذ، جرت فى القرن العشرين، وتأريخها جرى على مراحل، تمثلت جذورها فى التفسير والتأويل المتخلف للدين:
وحركة التنوير تمثلت فى التأويل والتفسير المتخلف للدين.
المرحلة الأولى: هى مرحلة التنوير منذ رفاعة الطهطاوى، وهذه المرحلة شهدت ضغطا شديدا من القوى الرجعية التى فرضت فهما خاطئا للدين، وجعلته معيارا وحيدا للصواب والخطأ، وبالتالى فشل مشروع الطهطاوى.
والمرحلة الثانية جاءت على يد مفكرين شوام، فى القرن التاسع عشر مثل: شبلى شميل، وفرح أنطون، ونيقولا حداد، وروز حداد، وهى مجموعة كانت تعانى اضطهاد الدولة العثمانية، ولما جاءت إلى مصر، ميزها الاحتلال البريطانى، فكان يعطيها الأفضلية على المصريين فى الوظائف، فصارت تؤيد الاحتلال وتتحدث عن الليبرالية، مثلما جرى فى معركة مد امتياز قناة السويس، التى نظر إليها فرح أنطون نظرة فلسفية حينما قال: حقوق العالم أهم من حقوق الأمم، وحقوق الأمم أولى من حقوق الأفراد، و بالتالى حق العالم فى قناة السويس مقدم على حق مصر فيها، الأمر الذى يتعارض مع مشاعر المصريين الذين طالبوه بأن يرحل مع فلسفته ويتركهم فى جهلهم.
أما المرحلة الثالثة، وهى الأغرب فقد تكونت من أبناء كبار الملاك الذين سافروا إلى فرنسا وإنجلترا للتعليم وعادوا بقيم وأفكار جديدة مثل: أحمد لطفى السيد، ومحمد حسين هيكل، ومصطفى وعلى عبدالرازق، والغريب فى الأمر أنهم كانوا ليبراليين فكرا، متهادنين مع الاستعمار سياسة، وضد العدل الاجتماعى من ناحية ثالثة، وكان عكسهم سعد زغلول الذى دافع عن الفقراء وعن الحرية والاستقلال، وكان يخاف من الليبرالية حرصا على شعبيته، وهو الذى صك مصطلح المجلس سيد قراره، وموقفه من طه حسين وكتابه فى الشعر الجاهلى أوضح مثال على ذلك، لكن نظيره أحمد لطفى السيد استقال من الجامعة تضامنا مع طه حسين، إذن الليبرالية عاشت مشوهة دائما فى مصر، لكن الضربة القاصمة جاءت على يد المتشددين الإسلاميين، وعلى رأسهم الشيخ رشيد رضا ومحيى الدين الخطيب اللذان شنا حملة ضارية على العناصر الليبرالية واتهموها بالكفر والإلحاد ومعاداة الإسلام، فقط لأن من بين الليبراليين سلامة موسى، الأمر الذى دفعهم إلى وصف الليبرالية بأنها حملة نصرانية لهدم الإسلام، ولأن الليبراليين أبناء كبار الملاك تراجعوا على الفور، أو سكتوا عن المناداة بالليبرالية.
المرحلة الرابعة بدأت فى الأربعينيات من القرن الماضى وتضم محمد مندور ومحمود خطاب، وميريت غالى، وجماعة النهضة المصرية، وهذه الأسماء حققت تقدما كبيرا.
ثم جاء ظهور الثروة النفطية، التى أشاعت المناخ المعادى للتنوير والعلمانية، بقياد حكومات نجحت فى إفشاء هذا المناخ من خلال الأموال التى ضختها عبر الميديا والفضائيات لأن هذا يساعدهم فى السيطر على المجتمع، وبالتالى البقاء فى كراسى الحكم، ومن لم تفسده أموال الفضائيات والصحف، سافر إلى هناك للعمل، وعاد بقيم البداوة والتخلف.
كما أن المفكرين المنوط بهم قيادة المجتمع إلى آفاق التنوير، هم أيضا اضطروا إلى منافقة المناخ العام خشية وصفهم بالكفر والإلحاد، وبعضهم ارتكن إلى أحضان سلطة حامية، كان من الأولى العمل ضدها، لا معها أو من خلالها.
وظل الشعب على حاله جاهلا صابرا، يربى أبناءه ويعلمهم، فلا يجدون عملا، فتتخطفهم جماعات القفز علعى الحكم تحت ستار الإسلام، ظل الشعب يسمع، ومن لم يحكم بما أنزل الله من قبل الإسلاميين المتطرفين، ويسمع من ناحية أخرى، أما أعدائى أولئك الذين لم يريدوا أن أملك عليهم فأتوا بهم إلى هنا واذبحوهم قدامى، من قبل متطرفين مسيحيين، وهكذا دواليك، ولا منجى إلا بترك الحرية للأفراد كى يفكروا، كى يخترقوا الثابت والمستقر، وحريتهم مكفولة بالدستور، لكنها مكفولة على الورق فقط.

مصر.. علي مبروك: التحرر من سلطة المعرفة المعلبة
ارتكب د. علي مبروك، في عرف الجامعة المصرية العريقة، حماقة التفكير في وقت كان مثله الأعلي تامر حسني، ومحمد أبو تريكة، فخرج من الجامعة مطروداً، بعد إحالته للتحقيق، وذهب إلي جامعة كيب تاون زميلاً لروائي نوبل "ج.م. كويتسي" ومن هناك أرسلته جامعة كيب تاون، تقديراً لعلمه، إلي مالي جنوب الصحراء، لفهرسة المخطوطات العربية، الرجل الذي نصحه حسني حنفي بالصمت وتجاوز الأزمة، لم يصمت، وظل يؤلف الكتب ويفضح طريقة تفكير المسلمين وبالتحديد نخبتهم سلفية وعلمانية، وكيف أن الجميع يفكر بطريقة سلفية: الليبرالي والإخواني والعسكري، وفي رأيه أن مفهوم السلفية أوسع من المفهوم المتداول الذي يقف بالسلفية عند حدودها الدينية فقط، وتصبح حينها دالة علي فريق ديني بعينه، إنما هي فيما يتصور، وبنص كلامه: تشمل العلماني أيضاً، كيف؟ ذلك أن كلا الفريقين يفكر بالطريقة نفسها وهو تفكير غاية في البساطة، وهو أن هناك واقعاً ينهار، وأنه لا يمكن التصدي لهذا الانهيار من داخل الواقع نفسه، ولهذا فإنه ليس أمامنا إلا القفز إلي لحظة فاصلة ما، هي عند السلفي لحظة السلف الصالح، أي بالرجوع إلي الماضي، وعند العلماني الخلف الصالح، وكلا الفريقين يتجاهل الواقع، ولا يضعه في الاعتبار، وكلا الفريقين يلقي باللائمة علي الجماهير الغافلة.
تمثل مشروع علي مبروك في مجموعة من الإسهامات بالغة الأهمية، بالغة الانضابط العلمي المنهجي مثل كتبه: "النبوة، والإمامة، والحداثة بين الباشا والجنرال، والدين والدولة في مصر، هل من خلاص، والخطاب السياسي الأشعري .. من إمام الحرمين إلي إمام العنف، والقرآن والشريعة .. صراعات المعني وارتحالات الدلالة، وأفكار مؤثمة .. من اللاهوتي إلي الإنساني" وغيرها.
في كل ذلك، وبهدوء شديد، يشخص د. علي مبروك أزمة تخلف من المسلمين بوقوعهم تحت هيمنة تراثين غربي وإسلامي، وأن الأزمة الحقيقية تتمثل "التفصيل" أي أن النبي هو أفضل الأمة، وبعده الخلفاء الأربعة، ثم من بعدهم العشرة المبشرون بالجنة….إلخ، أي أن هناك تصوراً للفضل، ننتقل فيه من الأفضل إلي الأقل فضلاً، وهذا يعكس تصوراً للزمان ينهار ويتدهور، ولا مجال أبداً للخروج من هذا الانهيار والتدهور إلا بالرجوع إلي لحظة الفضل الأولي، وللفكاك من هذا المأزق، ومن أجل خلق مشروع نهضة حقيقية يوضح د. علي مبروك مشروعه هكذا:
إذا كان العربي، والمسلم علي العموم، يعيش غربة مزدوجة عن عصره ووقوفه علي هامشه عاجزاً عن الإسهام الفاعل، وعن تراثه تحت سطوته،عاجزاً عنن الإمساك بجوهره الأصيل، فإن الأصل في تلك الغربة يكمن في عجزه عن إنتاج معرفة حقه ومنضبطة بهما، ويرتبط هذا العجز المعرفي بوقوع الوعي في قبضة أكوام من الإيديولوجيا التي لم تقدم له إلا ضروباً من المعرفة الاختزالية والمجتزأة بكل من التراث والحداثة معاً، ومن هنا ما يعكشه الواقع العربي الراهن من كسل أو حتي فقر معرفي، ينكشف عنه التعامل الحالي مع كل المفاهيم المتداولة في فضائه الصاخب، فإن تأملاً في جملة المفاهيم، التي انفتح باب الجدل حولها مع ثرات الربيع العربي، كالدولة المدنية والديمقراطية والمرجعية الدينية والعلمانية والسلف والإجماع الفقهي وغيرها، يكشف عن سطوة الإيديولوجيا علي هذا النقاش، وعلي النحو الذي انتهي إلي ما تعانيه تلك المفاهيم من الالتباس والتشويش، وهكذا، فإن متابعة للنقاش الدائر حول الديمقراطية، مثلاً، يكشف عن اختزالها في محض جوانبها الخارجية الإجرائية، برغم أن هذه الجوانب الإجرائية قد لا تؤدي في ظل سيادة القيم الأبوية السلطوية في الثقافة، إلا إلي تأييد حضور التسلط من تحت البراقع الديمقراطية.
ولعله يلزم الإلماح إلي أن مأزق الإيديولوجيا لا يقف، فحسب عند كونها تمثل قفصاً حديدياً لا يستطيع المحبوس داخله أن بمصر خارج حدوده الضيقة، بل ويتجاوز إلي ما يترتب علي ذلك التوجيه الصارم الذي تمارسه علي الوعي، من معرفة تفتقر إلي الدقةبسبب عدم مطابقتها للواقع، لأن معيار صحة مثل هذه المعرفة يتعلق بضرورة مطابقتها للواقع، لأن معيار صحة مثل هذه المعرفة يتعلق بضرورة مطابقتها مع تحديدات تلك الإيديولوجيا، وليس مع الواقع، وبالطبع فإن معرفة تفرضها الإيديولوجيا بجاهزيتها ودوجمائيتها وصرامتها، علي الواقع، لا يمكن أن تكونه، متصادمة معه فحسب، بل وصادمة له كذلك، ولعل ذلك يؤول إلي أن الانفلات المأمول للوعي من صدامه مع الغرب من جهة، ومع تراثه من جهة أخري، لا يكون ممكناً إلا بالتحرر من سطوة الإيديولوجيات المنغلقة، والانتقال إلي فضاء المعرفة المنفتحة.
وهكذا، فإن الأمر لا يتعلق بنقض أيديولوجيا قائمة لحساب أيديولوجيا أخري جاهزة كما يفعل الفرقاء علي سطح المشهد المصري الراهن، بقدر ما يتعلق بكشف ما تفرضه الأيديولوجيا، علي العموم، من تحديات تنسد معها آفاق المعرفة التي يتزايد الوعي بوجوب أن تكون منفتحة، علي نحو كامل، ولعله يلزم التأكيد علي أن مثل تلك المعرفة المنفتحة، وأعني بكل من الغرب والتراث معاً، ليست مطلوبة لذاتها، بل لما ستؤول إليه من فتح الباب أمام الوعي للحوار الجدي والمنتج معهما، وعلي النحو الذي يجعل منهما رصيداً للنهضة الحقة، وليس خصماً منها بحسب ما هو حاصل حتي الآن.
وهنا يلزم الوعي بأنه ليس ثمة من منهج جاهز لإنتاج مثل هذه المعرفة، بل إنها تكون موضوعاً لضرب من المراوحة الدائمة بين الذات وموضع معرفتها، والتي لا يكون مطلوباً فيها أن تنفتح تلك الذات علي موضوعها متحررة من أي أحكام مسبقة حوله فحسب، وبحيث تنصت له دون أن تفرض عليه أياً من قوالبها وتحديداتها الجاهزة، بل وأن تنفتح علي كل تجليات المنجز المنهجي المعاصر الذي لا يكف عن مراجعة ذاته، ومساءلة فروضه، علي نحو دائم، ولكن ضرورة تحرر الذات من أي رؤي أو فروض جاهزة لا يعني أبداً أن تكون خلواً من أي سؤال إذ الحق أنه إذا كان لا وجود لذات تملك الحد الأدني من الوعي من غير أن تكون مسكونة بأسئلة لحظتها، فإنه ليس ثمة من معرفة حقيقية، إلا وهي تنبثق كإجابات لأسئلة، وذلك علي شرط أن تتميز تلك الأسئلة بالأصالة، وعدم الاصطناع، إن ذلك يعني أن الذات ستقارب موضوعها، لا لتفرض رؤاها الجاهزة عليه، بل لتبحث فيه عن إجابات لما يثقل به عليها واقعها من أسئلة حارقة وحائرة، وإذا جاز القول إن السؤال: لماذا تخلف المسلمون ولماذا تقدم غيرهم؟ (وهو السؤال الذي أصبح عنواناً لنص شهير كتبه الأمير شكيب أرسلان في ثلاثينيات القرن الماضي جواباً علي سؤال أرسله أحد مسلمي جزيرة جاوة إلي صاحب مجلة المنار)، هو السؤال الذي لايزال يضغط بثقله علي الذات العربية للآن، فإن السعي وراء إجابة منتجة علي هذا السؤال، لابد أن يكون هو القصد من أي مقاربة لكل من التراث وتجربة الحداثة الغربية، وإذن فإن المعرفة تكون نتاج "البحث" عن جواب لسؤال وبكيفية لا يبتدئ معها "البحث" من معرفة جاهزة تقصد الذات إلي فرضها علي موضوع معرفتها، وهو ما تجلي علي نحو صارخ، في جميع القراءات الأيديولوجية للتراث بالذات، وهكذا فإنه حين يكون القصد هو البحث عن إجابات لأسئلة يتفق عليها الجميع ليس السعي وراء أسانيد يدعم بها المرء ما يحمله من رؤي أيديولوجية جاهزة مسبقة، فإن ذلك يعني أن جوهر الاشتغال علي التراث هو معرفي بالأساس.

مصر.. محمد عبده: إرضاء الله بالجهل آفة المسلمين
كفى بالإمام محمد عبده، أنه أول من فتح الطريق للتجديد، وأطلق علين الماء التى جرى ماؤها بعد ذلك كثيرا فياضا، ولو ترك الأمر كما قدر له، ما أصبحنا على تلك الحال، التى نعيد فيها ونذكر بمقولات الإمام، ولو ترك الأمر لى، لاكتفيت بجزء من حوار الإمام محمد عبده، مع الشيخ محمد البحيرى، عضو إدارة الأزهر، حول مناهج التعليم الأزهرية، حيث سأل الإمام محمد عبده من حال التعليم، فقال الشيخ البحيرى: إننا نعلمهم كما تعلمنا، فقال محمد عبده، وهذا هو الذى أخاف منه، لكن الشيخ البحيرى رد: ألم تتعلم أنت فى الأزهر وقد بلغت ما بلغت من مراقى العلم، وصرت فيه العلم الفرد؟ فرد محمد عبده: إن كان لى حظ من العلم الصحيح الذى تذكر فإننى لم أحصله إلا بعد أن مكثت عشر سنين أكنس دماغى، مما علق فيه من وساخة الأزهر، وهو حتى الآن لم يبلغ ما أريده من النظافة.
لو كان الأمر بيدى، لقلت إن مشروع محمد عبده للنهضة والإصلاح يتلخص فى فقرة واحدة تقول: إن الأمة التىليس لها فى شئونها حل ولا عقد، ولا تستشار فى مصالحها، ولا أثر لإرادتها فى منافعها العمومية، وإنما هى خاضعة لحاكم واحد إرادته قانون ومشيئتهن نظام، فتعتورها السعادة والشقاء، فتلك أمة تثبت على حال واحد، ولا ينضبط لها سير، ويتداولها الفقر والغنى ويتبادل عليها العلم والجهل، ويتناوبها العز والذل، وكل ما يعرض لها تابع لحال الحاكم، وكل الصفات تنطبق دون إفصاح من محمد عبده على مفهوم الخلافة الذى يتخفى تحت عصمة مزعومة.
أهم أفكار الإمام محمد عبده، ظهرت فى كتاب «رسالة التوحيد»، وفى تفسيره لأجزاء من القرآن الكريم، ومجموعة دراسات نشرت فى جريدة المنار عام 1901، عن الدين الإسلامى، والدين المسيحى وعلاقتهما بالعلوم والحضارة الحديثة، وكانت القضية الفكرية الرئيسية للإمام محمد عبده هى قضية ضعف العالم الإسلامى وانحلاله من الداخل كما هو حادث الآن بالضبط، وحاجته للإصلاح، كان يعتقد أن رجال الأزهر لم يقوموا بواجبهم، كما ينبغى لإيقاظ العالم من سباته العميق، حيث كتب فى جريدة الأهرام يقول: إن رجال الدين الإسلامى فشلوا فى إدراك فائدة العلوم الحديثة، وشغلوا أنفسهم بموضوعات لم تعد تناسب العصر الحديث، ويجب علينا نحن المسلمين دراسة الأديان الأخرى، ودراسة التاريخ وحضارة الدول الأجنبية المتقدمة لمعرفة سر تقدمها، لأنه ليس هناك سبب آخر لثراء هذه الدول وقوتها، سوى تقدمها فى العلوم والإدارة والتنظيم والتعليم، لذلك فواجبنا الأول هو العمل على نشر هذه العلوم بكل الوسائل.
رفض الإمام محمد عبده إغلاق باب الاجتهاد، وكأنه كما قال زكى نجيب محمود فى يوم من الأيام الرتاج الذى سجن العقل العربى وراءه، كان الإمام يرفض فكرة أن باب الاجتهاد مغلق، وأن علينا التقيد بفتاوى الإجماع، وكان يعتقد أن من حق كيل جيل العودة إلى مصادر الإسلام الأولى القرآن الكريم، والسنة الصحيحة، وفهمهما فى ضوء ظروف العصر الذى نعيش فيه، لأن كل عصر، وكل جيل لديه مشاكله الخاصة به، فخبرات وتجارب وعلوم ومشاكل كل جيل تختلف عن مثيلاتها فى الأجيال والأزمان السابقة، وبدون استخدام العقل والمنطق يصبح من السهل التغرير بالمسلمين وخداعهم وقيادتهم فى الاتجاه الخاطئ، وكتب الإمام مرة، إنه لو تعرض العرف مع العقل، فإننا نكون أمام أمرين، إما أن نأخذ ونسلم بصحة العرف، ونعترف بعجزنا فى فهم معناه ونترك الأمر لله، أو نقوم بإعادة تفسير العرف والنقل بما يتفق مع العقل والمنطق، وهذا أصلح وأجدى للمسلمين.
لو كان الأمر بيدى، وأنا أعيد التذكير بما نادى به الإمام محمد عبده، لنقلت أسئلته الحارقة فى كتابه «رسالة التوحيد» كما ه ى، وهى تصلح برنامج عمل لتخليص الإسلام من ركام تفاهات الإسلامى السياسى بإخوانه وسلفييه وتكفيرييه وجهادييه، وكل الأعشاب الضارة التى سممت الأمة العربية والإسلامية، يسأل الإمام محمد عبده: إذا كان الإسلام إنما جاء لدعوة المختلفين إلى الاتفاق، فما بال الملة الإسلامية قد مزقتها المشارب، وفرقت بين طوائفها المذاهب؟
إذا كان الإسلام موحدا فما بال المسلمين عددوا؟ وإذا كان موليا وجه العبد وجهه الذى خلق السموات والأرض، فما بال جمهورهم يولون وجوههم من لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا، ولا يستطيع من دون الله خيرا ولا شرا، وكادوا يعدون ذلك فصلا من فصول التوحيد؟
ما بالهم وقد كانوا رسل المحبة أصبحوا اليوم وهم يتنسمونها ولا يجدونها، ما بالهم بعد أن كانوا قدوة فى الجلد والعمل، أصبحوا مثلا فى القعود والكسل؟
إذا كان الإسلام يدعو إلى البصيرة فيه، فما بال قراء القرآن لا يقرأونه إلا تغنيا، ورجال العلم بالدين لا يعرفه أغلبهم إلا تظنيا؟
إذا كان الإسلام منح العقل والإرادة شرف الاستقلال، فما بالهم شدوهما إلى أغلال أى أغلال؟
إذا كان الإسلام يحظر الغيلة ويحرم الخديعة، ويوعد على الغش بأن الغاش ليس من أهله، فما بالهم يحتالون حتى على الله وشرعه وأوليائه؟
إذا كان الإسلام يعد من أركانه حفظ العهود والصدق والوفاء، فما بالهم قد فاض بينهم الغدر والكذب و الزور والافتراء؟
فى إجابة هذه الأسئلة، وقد أجاب عنها وعن غيرها الإمام محمد عبده، برنامج كامل موجود منذ أكثر من مائة عام، و أهم ما فيه رأى الإمام فى الخلافة، وهو ضدها، وينزع عنها كل قداسة، ويقول إنها ليست أصلا من أصول الدين، وهو يوضح ذلك فى كتاب «الإسلام بين العلم والمدنية»، حيث يقول: الخليفة عند المسلمين ليس بالمعصوم، ولا هو مهبط الوحى، ولا من حقه الاستئثار بتفسير الكتاب والسنة، وهو على ذلك لا يخصه الدين فى فهم الكتاب والعلم بالأحكام بمزية، ولا يرتفع به إلى منزلة ، بل هو وسائر طلاب الفهم سواء، إنما يتفاضلون بصفاء العقل، وكثرة الإصابة فى الحكم، ثم هو مطاع مادام على المحجة ونهج الكتاب والسنة، والمسلمون له بالمرصاد، فإذا انحرف عن النهج أقاموه عليه.
فالأمة أو نائب الأمة هو الذى ينصبه، والأمة هى صاحبة الحق فى السيطرة عليه، وهى التى تخلعه متى رأت ذلك من مصلحتها فو حاكم مدنى من كل الوجوه.
ثم هو يفصل بين الحكم المدنى القائم على الاختيار الحر، لا الجبر والإكراه، وحق الناس فى خلع الحاكم متى رأوا ذلك من مصلحتهم، وبين الحكم الثيوقراطى الذى اتسمت به الكنيسة فى أوروبا، لأن الحاكم فى الإسلام لا يتكلم عن الله، ولا يعنينا من تدينه شىء، ولو كان حافظا للقرآن مقيما للعبادات، فهذا أمره لنفسه، وإنما يعنينا منه ما يقيم حياتنا وييسرها، ويعدها لتكون صالحة للإنتاج والاستمتاع بالحياة.

الهند باكستان.. محمد إقبال: الإيمان عقل
طبعا أنت سمعت عن محمد إقبال، وتعرف أنه كان برهميا عميقا، تخلى عن كل امتيازاته الطبقية فى الهند، ودخل الإسلام، وصار علما مبرزا من أعلام الإسلام فى القرن العشرين، وستثق ربما من دون تفكير فى كل ما يقول، لكن ما ينقل عنه، ليس آراءه الحقيقية فى التفكير الدينى، وفى الإسلام، صدروا لك لأمور تخصهم كتاباه عن عظمة الإسلام، وإذا الإيمان ضاع فلا أمان ولا دنيا لمن يحيى دنيا، لكنه فى الحقيقة بعد أن دخل الإسلام ، فجع من كسل المسلمين الفكرى، وجهلهم وبلادتهم، وتوحشهم الإنسانى، فكتب كتابا جميلا، وعميقا، فى الوقت نفسه عنوانه «تجديد الفكر الدينى»، لاحظ من فضلك، تجديد الفكر، وليس الخطاب الدينى، فالخطاب ترجمة للفكر، وإذا كان الفكر عليلا فالخطاب قنبلة موقوتة.
أولا قام مشروع محمد إقبال، على أن الإيمان، ومن ثم الإسلام بكل نظمه، هو عمل عقلى فى الأساس، لا خرافات وطقوس تؤديها فتصبح مسلما، بل إنه يستشهد بمقولة لمفكر غربى هو «هوايتهد» تقول: إن عصور الإيمان هى عصور النظر العقلي، ويسأل إقبال وهو يريد أن يحدد التفكير الإسلامى: هل من الممكن أن نستخدم فى مباحث الدين المنهج العقلى البحت للفلسفة، خصوصا أن روح الفلسفة التى هى روح البحث الحر، تضع كل سند موضع الشك ووظيفتها أن تتقصى فروض الفكر التى لم يمحصها النقد.
ثانيا، القرآن، وهو النص المقدس، ينبغى إعادة النظر فى تفسيره وفحص تراكمات المفسرين، الذين عبروا عن أنفسهم، وعن زمنهم، لا عنك ولا عن زمنك، ولم يفكروا بالنيابة عنك، فلماذا تنيبهم أنت عن نفسك، وهم لم يطلبوا ذلك، ولو طلبوه لكان مستحيلا، يرى محمد إقبال أن الهدف الأسمى للنص القرآنى، غير أنه محفز روحى، هو بيان ما بين الخالق، وبين الكون من علاقات متعددة، والإسلام لإدراكه ما بين المثال والواقع من اتصال يستجيب لعالم المادة ويبين طريقة السيطرة عليها بغية الوصول إلى كشف أساس لنظام واقعى للحياة، ويكمل محمد إقبال كأنه ينظر بعين الغيب إلى مآل القرآن بيننا، أن أول ما يقرره القرآن فى ذلك هو أن العالم لم يخلق عبثا، لمجرد الخلق لا غير، وفوق هذا فالعالم مرتب على نحو يجعله قابلا للزيادة والامتداد، فليس العالم كتلة ولا إنتاجا مكتملا، بل ربما استقر فى أعماق كيانه حلم نهضة جديدة. هذا رأى فيلسوف مسلم فى القرآن، وكيف أن الله بين فيه نقصان الكون، وترك لك أنت أيها المسلم إكمال هذا الجزء الناقص بالتفكير والكشف العلمى والحرية فى السؤال، لا أن نجعل من المصحف الشريف أداة لنيل البركة، تضعه فى البيت فوق أو فى النيش، أو فوق تابلوه العربية، حتى لا تنقلب بك لكنها تنقلب، وتتهشم وتموت أنت، وبلطخ المصحف بدمائك، وفق محمد إقبال، لا شىء فى الكون جاهزا أو مكتملا، وعليك إذا آمنت بالله، وبرسالة محمد صلى الله عليه وسلم، أن تستكمله، وتكشف مخبوءه، أى أن تصبح أنت أوروبا الآن، لا أن تحشو رأسك بمقولات الغزو والجهاد وتعزو تخلفك لتقاعسك عن الجهاد، وأسر الناس، وبيعهم فى سوق النخاسة، كما أفهمك أبو إسحاق الحوينى.
بالتدريج، يمضى محمد إقبال، فى تجديده للفكر الإسلامى، فبعد القرآن يأتى حامل القرآن، الذى هو محمد صلى الله عليه وسلم والذى هو خاتم الأنبياء، وختام النبوة، كما أفهموك، تعنى اكتمال الدين، وأسرك داخله لا تغادر مقولاته الزمنية، التى قال بها الرجال المؤمنون الأول، وهذه كذبة أخرى، استقرت فى وجدانك، وجعلتك مهووسا فزعا وثابا، تتصور أن الكون كله يتآمر ضد دينك العظيم، وأنت تقدمه لهم فى صورة مزرية، فختام النبوة بمحمد كما يرى إقبال، هو فتح المجال لحريتك الشخصية فى التفكير، يقول إقبال إن النبوة فى الإسلام لتبلغ كمالها الأخير إدراكها الحاجة إلى إلغاء النبوة نفسها، وهو أمر ينطوى على إدراكها العميق لاستحالة بقاء الوجود معتمدا إلى الأبد على مقود يقاد منه، وأن الإنسان لكى يحصل كمال معرفته لنفسه ينبغى أن يترك ليعتمد فى النهاية على وسائله هو، إن إبطال الإسلام للرهبنة ووراثة الملك، ومناشدة القرآن للعقل والتجربة على الدوام، وإصراره على النظر فى الكون والوقوف على أخبار الأولين من مصادر المعرفة الإنسانية، كل ذلك صور مختلفة لفكرة انتهاء النبوة.
يدعو إقبال، بناء على ما تقدم، المسلمين إلى التخلص من النظر إلى الدنيا، مع أنها مجال اختبار لإيمانك، لتفوز بالجنة، أو تذهب مدحورا إلى النار، فالقرآن وفق محمد إقبال، لا يعتبر الأرض ساحة للعذاب سجنت فيه إنسانية ةشريرة العنصر بسبب ارتكابها خطيئة أصلية، فالمعصية الأولى للإنسان، كانت أول فعل له تتمثل فيه حرية الاختيار، ولقد تاب الله على آدم وغفر له، وعمل الخير لا يمكن أن يكون قسرا، بل هو خضوع عن طواعية ليمثل الأخلاقى الأعلى خضوعا ينشأ عن تعاون الذوات الحرة المختار عن رغبة ورضى، والكائن الذى قدرت عليه حركاته كلها، كما قدرت حركات الآلة لا يقدر على فعل الخير، وعلى هذا فإن الحرية شرط فى عمل الخير، لكن السماح لظهور ذات متناهية لها القدرة على أن تختار ما تفعل بعد تقرير القيم النسبية للأفعال الممكنة لها، هو فى الحق مغامرة كبرى، لأن حرية اختيار الخير تتضمن كذلك حرية اختيار عكسه.
أصبحت الآن حرا فى نظر محمد إقبال، فإليك حقيقة الجنة والنار التى ترغب فى دخولها، أو الهروب منها، يقول محمد إقبال، إن الجنة والنار حالتان لا مكانان، ووصفهما فى القرآن تصوير حسى لأمر نفسانى، أى لصفة أو حال، فالنار هى إدراك أليم لإخفاق الإنسان بوصفه إنسانا، أما الجنة فهى سعادة الفوز على قوى الانحلال، وليس فى الإسلام لعنة أبدية، ولفظ الأبدية الذى جاء فى بعض الآيات وصفا للنار يفسره القرآن نفسه بأنه حقبة من الزمان.
بقى، فى مشروع محمد إقبال لتجديد الفكر الدينى، كيف تدير حياتك، وما الحكومة التى ينبغى أن تحكمك؟ احذر أن تجيب أنها الخلافة، لأن محمد إقبال سينسف لك وهمك نسفا غير رحيم، فالخليفة دائما يستر إرادته المستبدة وراء عصمته المزعومة، لماذا إذا كنا مسلمين لا نختار خليفة ويكون معصوما؟ ألا يحكم بشرع الله، كما يقول المتحمسون للخلافة؟ اسمع محمد إقبال وتأمل تاريخ الخلافة فى العالم الإسلامى، يقول إقبال: إن روح التوحيد بوصفه فكرة قابلة للتنفيذ هو المساواة والاتحاد والحرية، والدولة فى نظر الإسلام هى محاولة تبذل بقصد تحويل هذه المبادئ المثالية إلى قوة مكانية وزمانية، هى إلهام لتحقيق هذه المبادئ فى نظام إنسانى معين، والدولة فى الإسلام ليست ثيوقراطية، أى دينية إلا بهذا المعنى وحده، لا بمعنى أن على رأسها خليفة على الأرض يستطيع دائما أن يستر إرادته المستبدة ور اء عصمته المزعومة، فالحقيقة القصوى فى نظر القرآن روحية ووجودها يتحقق فى نشاطها الدنيوى، و«فليس ثمة دنيا دنسة وكل هذه الكثرة من الكائنات المادية إنما هى مجال تحقق الروح وجودها فيه، فالكل أرض طهور".

مصر.. طه حسين: الانتماء الجغرافى للعقل المصرى
ارتكز مشروع طه حسين للنهوض بالفكر المصرى، مع تحديث الثقافة فى مصر بشكل أساسى، فالثقافة هى كل ما يختص بسلوك البشر واحتياجاتهم، بما فيها الدين، فالدين جزء من الثقافة الإنسانية، وليس كل الثقافة الإنسانية أو منشئ الثقافة الإنسانية، وملامح مشروعه تكونت فى كتابه الأهم «مستقبل الثقافة فى مصر»، وقد طبع منذ تأليفه فى النصف الأول من القرن العشرين مئات الطبعات، لكن هجوم الخائفين، وأدعياء الهوية، شو شوا عليه، وعلى كل إنتاج طه حسين الفكرى، ومع ذلك ظل حبا، والبعض يرددون ما جاء فيه، وهو يرى أن الثقافة المصرية لا تنتمى للمنطقة العربية، تجديدا الجزيرة العربية، وإنما هى ثقافة بحر متوسطية، تتماس مع الثقافة اليونانية وهى إليها أقرب، بل إن الثقافة اليونانية، ت أثرت بالثقافة المصرية، وإذا كما يقول طه حسين:
فالعقل المصرى القديم ليس عقلا شرقيا، إذا فهم من الشرق الصين واليابان والهند، وما يتصل بها من الأقطار، وقد نشأ هذا العقل المصرى، فى مصر متأثر ا بالظروف الطبيعية والإنسانية التى أطاحت بمصر، وعملت فى تكوينها، ثم نما وربا، وأثر فى غير الشعب المصرى من الشعوب المجاورة وتأثر بها، وكان من أشد الشعوب تأثرا بهذا العقل المصرى أولا، وتأثر بها، وكان من أشد الشعوب تأثرا بهذا العقل المصرى أولا وتأثيرا فيه بعد ذلك، العقل اليونانى، فإذا لم يكن بد من أن نلتمس أسرة للعقل المصرى نقره فيها، فهى أسرة الشعوب التى عاشت حول بحر الروم، وقد كان العقل المصرى أكبر العقول التى نشأت فى هذه الرقعة من الأرض سنا وأبلغها أثرا.
فى هذه الفقرة من مستقبل الثقافة فى مصر، حدد طه حسين الانتماء الجغرافى للعقل المصرى، سيقوم بعد ذلك فى «على هامش السيرة» وفى «الشعر الجاهلى» بتفكيك الثقافة العربية الوافدة على هذا العقل، وهو ما كفر بسببه، ثم بقى عليه أن يحدد مكونات هذا العقل من خلال نظام تعليمى قوى، استغرق تفصيله جملة كتاب «مستقبل الثقافة فى مصر»، والمكونات التى قرأها طه حسين جاءت فى فقرة مطولة تقول: فليس من الحق، ولا من الخير فى شىء أن يكون الغرض الأول والأخير فى التعليم العالى هو البحث العلمى الخالص المبرأ من كل منفعة قريبة أو بعيدة، ليس هذا حقا ولا خيرا، لأن الأمم لابد أن تحيا حياتها، وليست حياة الأمم والأفراد عقلا خالصا، ولا معرفة خالصة، إنما حياة الأمم والأفراد علم ينتج العمل، معرفة تمكن من الاضطراب فى الأرض والسيطرة على عناصر الطبيعة، والتغلب على ما يعترضنا من العقبات، وليس من الحق ولا من الخير أن يكون التعليم العالى مادة كله زو وسيلة إلى المادة، لأن العقل المادى الخالص خليق أن ينحط إلى أيسر مظاهر الحياة، إنما الحق والخير أن يكون التعليم العالى مزاجا من هذين الأمرين جميعا فيه البحث الخالص عن العلم الخالص، وفيه البحث العملى عن الفنون التطبيقية التى تستنبط من هنا العلم الخالص نفسه والتى لا يمكن أن توجد ولا أن تنتج، إلا أن تعيش، ولا أن تتيح للناس ما ينعمون به من الحضارة، وما يتقبلون فيه من الترف بدون هذا العلم الخالص نفسه.
يحتوى مشروع طه حسين الذى جاء فى «مستقبل الثقافة فى مصر» على قسمين زساسيين من ناحية موضوعاته أولهما يتناول قضية الهوية والانتماء والتوجه الحضارى، وثانيهما تتناول قضايا التعليم والثقافة فى مصر، فى الجزء الأول الخاص بالانتماء المكانى للفكر المصرى يرى طه حسين: أولا أننا لا ن عرف أن هناك صلات بيننا وبين الشرق البعيد مستمرة ومنتظمة تؤثر فى تفكيرنا أو نظمنا، ثانيا، إن الصلة بين المصريين القدماء والبلاد الشرقية لم تجاوز الشرق القريب «الشام والعراق» أى الشرق الواقع فى حوض البحر المتوسط، ثالثا: إن علاقاتد مصر كانت حقيقية مع حضارة اليونان فى عصور ازدهارها، منذ القرن السادس قبل المسيح إلى أيام الإسكندر.
هل يعنى ذلك أن نندمج فى الحضارة الأوروبية، الإجابة أشار إليها د. أحمد زكريا بالسلق فى تقديمه لكتاب مستقبل الثقافة فى مصر حين نقل رأى طه حسين لمجلة الهلال حول سؤال: حضارتنا القادمة فرعونية أم غربية؟ وكان رأى طه حسين:
أنه إذا كان لابد أن يدلى برأى حول الخيارات المطروحة، فالمثل الأعلى فيما يعتقد هو أن نحتفظ من الحضارة المصرية القديمة بما يلائمنا وهو الفن، ومن الحضارة العربية بالدين واللغة، وأن نأخذ من الحضارة الأوروبية، كل ما نحتاج إليه، وليس فى هذا شر، ما دمنا نحتفظ بشخصيتنا المصرية، فلا تفسد علينا هذه الحضارة الأوروبية حياتنا.
الجزء الثانى من الكتاب وهو خطة عمل وافية، درستها لجان تطوير التعليم مئات المرات، ولم تخرج منها بشىء لأنها لم تفهمها، أو ربما هى لا تريد، وكان من أهم نقاط هذه الخطة هو تطوير التعليم الأزهرى بجانب قضايا أخرى مثل: مسألة التعليم الأجنبى فى مصر، وديمقراطية التعليم ومجانيته ليكون وسيلة فى يد الأفراد ليستطيعوا أن يعيشوا وتكوين الوحدة الوطنية، وإشعار الأمة حققها فى الوجود المستقل الحر، وهو ما طبقه طه حسين بعد ذلك عندما أصبح وزيرا للمعارف، ثم ثالثة القضايا تتمثل فى تعليم اللغات الأجنبية فى مصر، التى ينبغى أن تكون بعد المرحلة الابتدائية، وأن تخصص المرحلة الابتدائية للثقافة الوطنية، فنحن نشكو أن تلاميذنا لا يحسنون لغتهم العربية، ثم يضاف إلى تلك اللغات غير الإنجليزية والفرنسية اللغتان اليونانية واللاتينية.
وبعد ذلك تأتى مسألة تعليم اللغة العربية، ثم الترجمة والنقل عن اللغات الأوروبية، وفيها يرى طه حسين أننا أقل الأمم حظا من الترجمة، واقترح أن تنشىء الدولة إدارة للترجمة لتنهض بنقل الآثار الأدبية والعلمية والفلسفية الخالدة التى أصبحت تراثا للإنسانية كلها والتى لا يجوز للغة حية أن تخلو منها، وذلك لإغناء اللغة نفسها ومنحها ما تحتاج إليه من المرونة ولإرضاء الكرامة القومية.
يختم طه حسين بخصائص الثقافة المصرية، ويحاول تشخيص مميزات هذه الثقافة بعد أن يتساءل: هل هناك ثقافة مصرية؟ ويجيب بأنها موجودة بخصالها وأوصافها التى تنفرد بها عن غيرها من الثقافات، وأول هذه الصفات أنها تقوم على وحدتنا الوطنية، وتتصل اتصالا قويا عميقا بنفوسنا المصرية الحديثة، كما تتصل اتصالا قويا عميقا بنفوسنا المصرية القديمة أيضا، تتصل بوجودنا المصرى فى حاضره وماضيه، فليست الثقافة ونية خالصة ولا إنسانية خالصة، لكنها وطنية وإنسانية معا.
وعناصر هذه الثقافة، كما يرى طه حسين، تتمثل فى التراث المصرى القديم، والتراث العربى الإسلامى، وما كسبته وما تكسبه كل يوم من خير ما أثمرت الحياة الأوروبية الحديثة، هى هذه العناصر المختلفة المتناقصة فيما بينها، تلتقى فى مصر، فيصفى بعضها بعضا، ويهذب بعضها بعضا، وينفى بعضها عن بعض، ما لابد من نفيه من الشوائب التى لا تلائم النفس المصرية، ثم يتكون منها هذا المزاج النقى الرائق، الذى يورثه الآباء للأبناء، وينقله المعلمون إلى المتعلمين، فالعمل لا وطن له، لكنه إذا استقر فى وطن من الأوطان تأثر بإقليمه وبيئته، ليستطيع أن يتصل بنفوس ساكنيه.

الجزائر.. مالك بن نبى: المريض الإسلامى فى صيدلية الغرب
وأما مالك بن نبى 1905م فهو قصة طويلة شجية، اجتهد وقاوم الاستعمار، وأول من استخدم مفردة الأفكار الميتة، والأفكار الحية، وأول من انتبه لمشكلة الأفكار فى العالم الإسلامى، وشق طريق من التكتدس إلى البناء، حيث لا معنى لشق طريق هنا، وافتتاح مستشفى هناك، أو مشروع كبير هنا، وتطوير معمل هناك، فكل ذلك تكتدس لا تحكمه رؤية، الرؤية هى الأساس، وخلق الأفكار والأيديولوجيا الواضحة لأى نظام، وأهدافه الكبرى، هى ما يؤشر إلى إمكانية أية نهضة، لأية أمة، والعالم الإسلامى كله، جعل من نفسه ضحية أفكاره الميتة، وضحية تكدس المشاريع دون رؤية، ودون تغيير الفرد، وهز قناعاته القديمة التى أسرته فى الاهتمام بالغيب، وما وراء الطبيعة، والجنة والنار، والدنيا ما هى إلا معبر مؤقت للآخرة.
مالك بن نبى: الظاهرة القرآنية، شروط النهضة (يدرس فى جامعات إسرائيل.. تخيلوا) وجهة العالم الإسلامى، الفكرة الآسيوية الإفريقية مشكلة الثقافة، حديث فى البناء الجديد، الصراع الفكرى فى البلاد المستعمرة وغيرها وغيرها، غير أن شروط النهضة، ومشكلة الثقافة هما لب مشروعه فى النهضة العربية، وهو مؤسس كبير فيها، قبل أن يختطف بعض المتطرفين آراءه، ويوظفوها فى خدمة أفكارهم العنيفة على يد تلميذه عبد الصبور شاهين، ومترجم أغلب كتبه.
انغمس مالك بن نبى فى الدراسة وفى الحياة الفكرية، واختار الإقامة فى فرنسا وتزوج من فرنسية ثم شرع يؤلف الكتب فى قضايا العالم الإسلامى، فأصدر كتابه «الظاهرة القرآنية» فى سنة 1946ثم «شروط النهضة» فى 1948، الذى طرح فيه مفهوم القابلية للاستعمار و«وجهة العالم الإسلامى» 1954، أما كتابه «مشكلة الأفكار فى العالم الإسلامى» فيعتبر من أهم ما كتب بالعربية فى القرن العشرين، جاء إلى القاهرة بعد إعلان الثورة المسلحة فى الجزائر سنة 1954م وهنا حظى باحترام كبير، وبعد استقلال الجزائر عاد إليها، فعين مديرا للتعليم العالى الذى كان محصورا فى جامعة الجزائر المركزية، حتى استقال سنة 1967متفرغا للكتابة بادئا هذه المرحلة بكتابة مذكراته، بعنوان عام «مذكرات شاهد القرن».
مذكرات شاهد القرن صورة عن نضال مالك بن نبى الشخصى فى طلب العلم والمعرفة أولا، والبحث فى أسباب الهيمنة الأوروبية ونتائجها السلبية المختلفة وسياسة الاحتلال الفرنسى فى الجزائر وأثاره، مما عكس صورة حية لسلوك المحتلين الفرنسيين أنفسهم فى الجزائر ونتائج سياستهم، ووجوهها وآثارها المختلفة: الاقتصادية والثقافية والاجتماعية.
ولأن مشروع مالك بن نبى، مثبوت فى كتبه العديدة سنتوقف حول أهم الملامح فى شروط النهضة ومشكلة الأفكار فى العالم الإسلامى، وفيهما جاءت أهم الأفكار مثل: القابلية للاستعمار، ونظريته: الإنسان التراب الوقت، فالاستعمار ليس مجرد عارض بل هو نتيجة حتمية لانحطاطنا ولكى لا نكون مستعمرين، يجب أن نتخلص من هذه القابلية، أى ننسلخ من أفكارنا الغيبة، وندير الوقت بطريقة أخرى منتجة، فالمسلمون منذ مائة عام لا يعالجون المرض (التخلف.. رغم علمهم بوقوعه بينهم) وإنما يعالجون الأعراض، وقد كانت النتيجة قريبة من تلك التى يحصل عليها طبيب يواجه حالة مريض بالسل الجوثومى، فلا يهتم بمكافحة الجراثيم، وإنما يهتم بهيجان الحمى عند المريعين، والمريض نفسه منذ خمسين عاما أن يبرأ من آلام كثيرة، من الاستعمار، من الأمية، من الكساح العقلى، من… وهو لا يعرف حقيقة مرضه، ولم يحاول أن يعرفه بل كان ما فى الأمر أنه شعر بألم فاشتد فى الجرى نحو الصيدلى، أى صيدلى يأخذ من آلاف الزجاجات ليواجه آلاف الأمراض، وليس هناك فى الواقع سوى طريقتين لوضع نهاية لهذه الحالة، فإما القضاء على المرض، وإما إعدام المريض.. هذا شأن العالم الإسلامى، إنه دخل إلى صيدلية الحضارة الغربية طالبا الشفاء، ولكن من أى مرض، وبأى دماء؟
هذا هو الواد كما شخصه مالك بن نبى، فما الحل؟
الحل فى استثمار العناصر الثلاثة التى يملكها العالم العربى والإسلامى، وهى: التراب.. الإنسان، الوقت، وفى هذه العوامل سيحضر رأس المال الاجتماعى، ثم يشرع مالك بن نبى فى شرح كل عامل من هذه العوامل، فالعالم الإسلامى يتعاطى هنا حبة ضد الجهل، ويأخذ هناك قرصا ضد الاستعمار، وفى مكان قصى يتناول عقارا كى يشفى من الفقر، فهو يبنى هنا مدرسة، ويطالب هناك باستقلاله، وينشئ فى بقعة نائية وصنعا، ولكن حين نبحث حالته عن كثب لن نلمح شبح البرىء أى أننا لن نجد حضارة ويضيف بن نبى: هناك شىء من الغرابة فى الحالة التى نفحصها مما يدفعنا إلى تفهم كيفية سيرها وآليتها، ومن أجل هذا يجب أن نعرف القياس العام لعملية الحضارة إن المقياس العام فى عملية الحضارة هو أن الحضارة هى التى تلد منتجاتها وسيكون من السخف والسخرية حتما أن نعكس هذه القاعدة حين نريد صنع حضارة من منتجاتها.
العالم العربى الإسلامى يتصور أن حين يشترى منتجات الحضارة الغربية يتصور أنه سيضع حضارة وحين تلجأ دولة نامية إلى صندوق النقد ليضع لها روشتة لا تعرف أنها ذهبت إلى الصيدلية لتعاطى حبة ضد الفقر، حبة مسكنة، يذهب مفعولها، ويبقى الفقر، وهذا هطل وسخف فى رأى مالك بن نبى لأن هذا يقود فى النهاية إلى عملية محالة كما وكيفا، فمن ناحية الكيف تنتج الإحالة من أن أى حضارة لا يمكن أن تبيع جملة واحدة الأشياء التى تنتجتها ومشتملات هذه الأشياء أى أنها لا يمكن أن تبيعنا روحها وأفكارها وثرواتها الذاتية، وأذواقها هذا الحشد من الأفكار والمعانى التى لا تلمسها الأنامل، والتى توجد فى الكتب أو فى المؤسسات، ولكن بدونها تصبح كل الأشياء التى تبيعنا إياها فارقة دون روح وبغير هدف.
ومن ناحية الكم لكن تكون الإحالة أقل، فليس من الممكن أن تتخيل العدد الهائل من الأشياء التى تشتريها، ولا أن نجد رأس المال الذى ندفعه فيها، ولئن سلمنا بإمكان هذا فإنه سيؤدى قطعا إلى الإحالة المزودجة فينتهى بنا الأمر، إلى ما يسمى مالك بن نبى: الحضارة الشيئية إلى جانب أنه يؤدى إلى تكديس هذه الأشياء الحضارية وهذا ما يؤدى بنا إلى القابلية للاستعمار، فضلا عن ذلك يتناول «شروط النهضة» مشكلة المرأة فى العالم الإسلامى وأثر الفكرة الدينية فى تكوين الحضارة، وهى فكرة ليست طقوسية على أية حال.
أما فى كتاب «مشكلة الأفكار فى العالم الإسلامى» والذى وردت فيه لأول مشكلة الأفكار الميتة والتراث الميت غير صدقين مالك بن نبى نموذجين من الثقافة: ثقافة سيطرة ذات جذور تقنية وهى تتمثل فى أوروبا (الثقافة الغربية) وثقافة حضارة ذات جذور أخلاقية وغيبية الحضارة الإسلامية فى نشاطها.
والفكر العربى يجنح إلى الدوران حول الوزن والكم ويصل إلى المادية عند الانحراف والمغالاة، بينما يدور الفكر الإسلامى فى مداره الأصلى، حينما أعطى القرآن اندفاعته الأولى، حول حب الخير أو كره الشر، وحين يكون فى أقوله فإن المغالاة تدفعه إلى التقليد الأعمى والافتتان بأشياء الغرب، وفى قلبه تقع الأفكار الميتة والأفكار المميتة: والفكرة المميتة: هى فكرة موروثة أنتجتها الثقافة الإسلامية فى عصر الأفول وأيست صالحة للتطبيق لا فى عصرها ولا فى العصر الحالى.
وهى الفكرة التى بها خذلت الأصول، فكرة انحرفت عن مثلها الأعلى، ولذا ليس لها جذور فى العصارة الثقافية الأصيلة.
الفكرة المميتة: هى الفكرة الوافدة من الثقافة الغربية، هى فى الأصل ميتة فى محيطها ولم تعد مستعملة.
وهى الفكرة التى فقدت هويتها وقيمتها الثقافيتين بعد أن فقدت جذورها التى بقيت فى مكانها فى عالمها الثقافى الأصلى.
لذا فإن المجتمع المريض هو من ينضح الأفكار الميتة من جهة ويمتص الأفكار المميتة من جهة أخرى.
وعليه فإن المجتمع الإسلامى يعانى من انتقام نماذجه المثالية لعالمه الثقافى الخاص به من ناحية، ومن ناحية أخرى من انتقام رهيب تصبه الأفكار التى استعارها من أوروبا دون أن يراعى الشروط التى تحفظ قيمتها الاجتماعية، وقد أورث ذلك تدهورا فى قيمة الأفكار وتدهورا فى قيمة الأفكار المكتسبة، وقد حملا أفدح الضرر فى نمو العالم الإسلامى أخلاقيا وماديا.
إن هذه هى النتائج الاجتماعية لذلك التدهور والتى نصادفها يوميا فى صورة غياب فاعلية وقصور فى مختلف أنشطتنا الاجتماعية، فنحن اليوم نقاسى هذا التدهور المزدوج، فالأفكار المخذولة فى هذا الجانب أو ذاك لها انتقام رهيب، وأن انتقامها المحتوم هو ما نعانى منه اليوم.
ويخلص مالك بن نبى: إلى لب مشكلة المجتمع الإسلامى وهى: أن المسألة ليست مسألة وسائل ولكنها مسألة مناهج وأفكار بعد ذلك يقف عند مراحل الحضارة: حيث يرى أن المجتمعات فى دورتها الحضارية فى دورتها الحضارية تكون فى واحدة من ثلاثة مراحل:
مرحلة ما قبل التحضر.
مرحلة التحضر والدورة الحضارية.
مرحلة ما بعد التحضر.
كل حضارة تمثل فى الواقع من انطلاقها شرارة الفكرة الدينية فى المجتمع الذى يكون «خام» حتى تبعث فيه الروح التى تنشطه، فالحضارة الغربية وهى الحضارة المسيحية، بنيت على أساس ما قام به يسوع عليه السلام فى بيت لحم فى فلسطين.
عند تطبيق الدورة الحضارية على الحضارة الإسلامية يتبين أن المجتمع الإسلامى مر على هذه المراحل الثلاث وهو يعيش الآن بعد دولة الموحدين مرحلة ما بعد الحضارة، والمعوقات التى تصحب سقوط الحضارات وأقولها تتجلى فيها الأمة العربية الإسلامية اليوم.
ثم يخلص إلى نفس النتيجة السابقة لكن بطريق آخر بأن: مجتمع ما قبل التحضر وما بعد التحضر لا يفتقر للوسائل (الأشياء) إنما يفتقر للأفكار.
يتجلى بصفة خاصة بطريقة استخدامه للوسائل المتوفرة لديه بقدر متفاوت فى الفاعلية، وفى عجزه عن إيجاد غيرها.
فهناك فقر حقيقى فى الأفكار تظهر فى المجال السياسى والاقتصادى تظهر فى العالم الإسلامى فى الوقت الحاضر.

السودان.. محمود محمد طه: الإسلام المستقبلى خارج الجماعات
العاشرة من صباح يوم الجمعة 18يناير سنة 1985م، أعدم المفكر السودانى محمود محمد طه، المفكر الذى كان يدافع عن الإسلام، أعدمه نظام جعفر نميرى بدعوى أنه مرتد، محمود محمد طه الذى وضع مشروع «نحو مشروع مستقبلى للإسلام» مرتد، وجعفر نميرى، يدافع عن الشريعة، الشريعة التى باسمها قهر الشعب السودانى، ونكل به لكن الابتسامة التى علت وجه المفكر على منصة الإعدام، وهو ينظر إلى جموع المتفرجين السلبية، بقيت تدين كل من يتحدث باسم الإسلام، وكل من يدعى أنه الأعرف بمراد الله، ومن يعرف وحده «مراد الله» يكون شريكا له والرسول يقول:«إذا رأيتم الرجل يقول قال الله وقال الرسول، فاحثوا التراب فى وجهه».
سألت المحكمة التى أعدمت محمود محمد طه سؤالا له عن رأيه فى قوانين سبتمبر، التى سيطبق بمقتضاها النميرى أحكام الشريعة فرد ردا سريعا حكيما، إنها قوانين مخالفة للشريعة وللإسلام وأن هذه التجربة شوهت الإسلام، ونفرت الناس منه، وأن هذه القوانين قد وضعت واستغلت لإرهاب الشعب، المدهش أن السلطة التى أعدمت محمود طه، سقطت بعد ثلاثة أشهر فى السادس من إبريل عام 1985م، وفى نوفمبر من العام الذى يليه أسقطت المحكمة العليا حكمها بإبطال حكم إعدام محمود طه، لكنه كان قد أعدم، وكأن الحجر الذى أباه البناءون، أصبح حجر الزاوية كما قال المسيح.
مشروع محمود محمد طه لتجديد الفكر الإسلامى نحو مشروع مستقبلى للإسلام تمثل فى ثلاثة أعمال أساسية هى: الرسالة الثانية من الإسلام، ورسالة الصلاة، وتطوير شريعة الأحوال الشخصية، وفيها يقدم الإسلام كدين عالمى لا تنفصل فيه الدولة عن الدين، لكن من غير تغول على حقوق الأفراد، مسلمين كانوا أم غير مسلمين، رجالا كانوا أم نساء، ولم يقدم الإسلام بوصفه طريقة للسلوك أو منهاج للخلاص الفردى، غير مرتبط بقضايا التحولات الاجتماعية (كما هى الحال فى التصوف) قدم محمود محمد طه ذلك كله من خلال منهج متماسك لتأويل النص القرآنى، من خلال تصور جدلى عميق لمواد النص مع حركة التطور بمعنى أن النص لا يكشف عن طبقاته بغير النظر الفاحص لحركة التطور، الزمن وحركة الحياة فى كل صورها، فحركة التطور لا تخضع لفهم ثابت جامد للنص وإنما تجليات الحياة هى التى توسع من فضاء النص، وهو يتمدد عبر علاقته الجدلية بالواقع، وبتمدد آفاق الوعى الإنسانى.
يوضح الكاتب أحمد زكى عثمان مشروع محمود محمد طه فى الرسالة الثانية من الإسلام، بأنه يمثل لحظة مهمة على الصعيد الفكرى فى العالم العربى، حيث يمكن قراءة هذا الكتاب فى سياق جملة الكتب التى أرخت لدور الفكر فى التمهيد الهزيمة السياسية والعسكرية ومن ثم الفكرية التى أفضت إلى نكسة 1967مثل كتابى نقد الفكر الدينى لصادق جلال العظيم، والأيديولوجية العربية المعاصرة لعبد الله العروى، كما يمكن قراءته على أنه بحث فى أصول الفقه ومحاولة بناء منظور حضارى جديد ورؤية فلسفية مختلفة عن التقاليد الفكرية المسيطرة فى العالم العربى.
قدم هذا الكتاب طرحا لم يألفه الفكر العربى كثيرا، وهذا الطرح يتعلق بتقديم تصور مختلف لموقع الفرد فى منظومة العلاقات الاجتماعية عند طه الفرد فى الإسلام هو الغاية وكل ما عداه وسيلة إليه، وهذه الفردية هى مدار التكليف والتشريف وبالطبع ستحيل هذه الرؤية إلى محاولة فك التناقض ما بين الفرد والجماعة والتى يقدمها طه كالتالى، حاجة الفرد إلى الحرية الفردية المطلقة امتداد لحاجة الجماعة إلى العدالة الاجتماعية الشاملة، ومن الناحية الفقهية فالفرد هو العبادات، والجماعة هى المعاملات وينتهى طه إلى تقديم محتوى أخلاقى لهذا المنظور الفلسفى، وهو أنه ليست للعبادة قيمة إن لم تنعكس فى معاملتك الجماعة معاملة، تعد هى فى حد ذاتها عبادة، يمضى الكتاب فى مناقشة القضايا المتعلقة بعلاقة الفرد والجماعة وحدود إرادة الفرد، حتى يصل إلى فصله الخامس والذى يعرض فيه للرسالة الأولى والتى هى رسالة المؤمنين، حيث أورد طه مجموعة من النتائج الفقهية الخطيرة، وقدم حصرا لثمانية قضايا رأى أنها ليست أصولا فى الإسلام، هذه القضايا هى الجهاد، الرق، الرأسمالية، عدم المساواة بين الرجال والنساء، تعدد الزوجات، الطلاق، الحجاب، المجتمع المنعزل رجاله عن نسائه.
دعا الأستاذ محمود إلى الإسلام كمذهبية تبشر بتحقيق إنسانية الإنسان، عن طريق تقديم المنهاج الذى يحقق السلام فى كل نفس بشرية، وعلى مستوى الكوكب، حيث يقدم الإسلام فى مستواه العلمى كدعوة عالمية للسلام، وقد ظلت قضايا الفكر.
والحرية والاستقراء العلمى للحضارة الغربية ولواقع المسلمين قضايا مطروحة بإلحاح على جدول محمود محمد طه حتى إعدامه.
وكان موضوع المرأة من أهم المواضيع التى عالجها الأستاذ محمود فى فكره، حيث دعا إلى تطوير التشريع فيما يختص بشريعة الأحوال الشخصية، وإلى وضع المرأة من حيث التشريع فى موضعها الصحيح، بعد أن تعلمت وشغلت الوظائف الرفيعة، متجاوزا بتلك القصور الفكرى الذى ظل ملازما للفكر الإسلامى السلفى تجاه وضع المرأة فى التشريع الدينى، ومتجاوزا دعوات تحرير المرأة التى هدفت لمحاكاة الغرب، ومقدما فهما جديدا مستمدا من أصول الدين، يقوم على مساواة الرجال والنساء أمام القانون وفى النظام الاجتماعى، انطلاقا من فكرة تطوير التشريع الإسلامى، واستلهاما أكبر لغرض الدين فى الحياة الحرة الكريمة للنساء والرجال على قدم المساواة، وقد كان أكبر تجسيد لدعوة الأستاذ محمود إلى تطوير وضع المرأة الدينى هو المرأة الجمهورية نفسها، فقد دخلت تلميذات الأستاذ محمود من الجمهوريات التاريخ كأول طليعة من النساء تخرج للدعوة إلى الدين بصورة جماعية ومنظمة، فى ظاهرة فريدة ظللتها قوة الفكر وسداد السيرة وسمو الخلق.
ولكى يضمن محمود محمد طه لفكرته الانتشار أسس حركة التأليف، والنشر ومنابر الحوار، وأركان النقاش التى تقام فى الطرقات العامة والميادين والحدائق ودور العلم والأحياء، ثورة فكرية لم يعرف لها مثيل فى تاريخ الأديان والأفكار، حيث حمل هو وتلاميذه الفكرة إلى كل مكان ناء من السودان يذهبون إلى الشعب، حيث يعيش، يحدثونه عن الدين ويحاورنه وينقلون له النموذج الحى للإسلام المسجد الذى يمشى على قدمين وقد كانت حركة الحوار الفكرى هذه معالم بارزة فى حياة الشعب السودانى، حيث كانت كثير من أركان النقاش فى الجامعات، وفى الطرقات والأماكن العامة مدارس تعلم فيها الشعب أدب الحوار وأدب الدعوة إلى الدين، وقد كان أساليب الدعوة الفريدة حملات الدعوة الخاصة، حيث كان الجمهوريون يذهبون إلى لقاء المثقفين ورجال الدين والمفكرين فى مقابلات خاصة يتم فيها الحوار الفكرى وتعرض الدعوة إلى الرسالة الثانية من الإسلام وتقدم لهم فيها نسخا من كتب الفكرة الجمهورية.
كان شعار ثورة التغيير التى قادها محمود محمد طه هو الكلمة (لا إله إلا الله) بعد أن رفعها الأستاذ محمود فى دعوته الجديدة إلى الأستاذ محمود من التحقيق جعلها منهاجا لتغيير النفوس، وقد قامت هذه الحركة الشاملة فى مداها والمنضبطة فى أدائها، والفاعلة فى تأثيرها على موارد الجمهوريين الذاتية، والتى يقتطعونها من دخولهم الشخصية، وعلى العمل التطوعى الذى يكرس له الأعضاء إجازاتهم وأوقات راحتهم، وعلى ريع الكتب التى يوزعونها بعد أن يقوموا بطباعتها يدويا، فكانت بذلك ثورة شاملة فى معناها ومبناها، وإرهاصا كبيرا بالثورة الثقافية المنتظرة والتى تعيد صياغة الأفراد والجماعات.

خيانة الجمود
قوة الكوابيس

وصلنا إلي ختام محتوم لهذه الحلقات، في قضية لا ختام فيها، ولن يكون. فالتجديد والدعوة إليه، قائم ما ظلت الدنيا قائمة، وقضية تخلف المسلمين، وخروجهم من السياق الحضاري، ستستمر هنا طويلاً، مادام بيننا جماعات تتعامل مع اجتهادات البشر حول النص القرآني، ومع سلوكهم علي أنه من مقدسات الأمة، وجعلت منه ديناً وضعياً، أحلته محل إسلام الله، كما نزل علي محمد، وهؤلاء وهؤلاء إلي زوال، فالتكنولوجيا التي قضت علي كل أيديولوجيا في نهاية القرن العشرين، ووحدت البشر، في فضاء واحد، قادرة علي تجلية صورة الدين المقدس كرسالة في نص، وحركة الأفراد في تعاملهم مع هذه التكنولوجيا، واحتكاكهم بالحضارة التي ولدتها، ستكنس ركام الخراقات والجهل والأساطير، الذي تراكم حول الدين، والدول التي تنص في دساتيرها علي دين لها، ستكتشف بعد قليل مأزقها الذي صنعته بيديها لنفسها، فإذا كان للدولة دين رسمي، كما يري سلامة موسي، صار الطعن في الدين (أي دين) أو انتقاده داعية إلي تألب طوائف عديدة للذب عنه منهم العامة الذين يحثهم خوفهم من الدين علي اضطهاد المنتقد، ومنهم الكهنة الذين يخشون علي مصالحهم، ومنهم جميع أفراد الأمة تقريباً الذين يرون أن السير علي سنن السلف أيسر علي قلوبهم، من ابتداع البدع، لأنه يجب ألا ننسي أن الجماعات بحكم بيئتها مطبوعة علي الجمود.
كما يخول ذلك لأية جماعة أن تنسب لنفسها، فضيلة الدفاع عن الدين، وسيجتمع حولها الرعاع، والمهزومون والمحبطون، والمتدينون بحق والمتدينون المزيفون، وأصحاب الحاجات الذين يسهل تجنيدهم، ولما تقوي هذه الجماعة، تنقل عملها إلي مجال السياسة لا بقواعد السياسة، التي هي عملية، وإجرائية وبشرية، تتوخي مصالح الناس، دون النظر إلي دينهم أو لونهم، أو مراتبهم الاجتماعية، وكلها حاجات وأمور متغيرة، بل بقواعد الدين الثابتة، وهنا يصبح كل من يخالفها كافراً، ثم يلي ذلك أن تتفتت وحدة الأوطان وتنقسم الشعوب علي نفسها، وتتناحر، وينتصر كل منهم علي أخيه، بمعين خارجي، وهي فكرة القابلية للاستعمار، كما جاءت عند مالك بن نبي، وهو ما التقطه الغرب أيضاً فنفخ في هذه الجماعات ودعمها وقواها، وفي ذلك شرح وافٍ بالأرقام وأسماء الحركات التي دعمها الغرب، واستخدمها لتنفيذ مخططاته، وما كان لينجح لولا قابليتنا لذلك، شرح ذلك في كتاب ضابط المخابرات الأمريكي "جرايهام. إي . فولر": "عالم بلا إسلام .. ماذا لو" الذي يقول بالحرف:
كذلك فقد قامت واشنطن بتمويل جماعة الإخوان المسلمين، في معارضتها لنظام جمال عبدالناصر، في مصر في أواخر خمسينيات القرن العشرين، واستعانت بالسعوديين للغرض ذاته، كما استعانت بالإخوان للإطاحة بنظام حكم موال لعبدالناصر في اليمن عام 1962، وامتد الدعم الأمريكي للحركات الإسلامية في إندونيسيا أيضاً، ولقد مارست إسرائيل الدور ذاته،، فخلال ستينيات القرن العشرين، قامت بإطلاق سراح الشيخ أحمد ياسين، زعيم حركة حماس الإسلامية، والذي كانت قد اعتقلته حينذاك، كما قامت بتمويل الحركة كأداة ضد "منظمة التحرير الفلسطينية" ذات الطابع العروبي القومي بقيادة "ياسر عرفات" ثم يضيف فولر: أن الولايات المتحدة تتحمل جانباً من مسئولية الانحراف المتعمد لدور العديد من الحركات الأيديولوجية في العالم الإسلامي.
سندع ذلك جانباً، ونتأمل مصير المفكرين العرب، الذين حاولوا تخليص أمتهم من هذه التبعية المزدوجة، سواء للتراث القديم، أو للغرب، كلهم بلا استثناء إما ماتوا قتلاً واغتيالاً، أو حوكموا وفرقوا عن زوجاتهم، أو تم نفيهم، كما جري مع نصر أبوزيد، واغتيالاً كما جري لحسين مروة، الشيعي الذي اغتاله حزب الله الشيعي أيضاً، لأنه تجرأ، ونقض مقولات تشكل البني الفكرية التي تغذي صراعات: سني شيعي، وعلي مبروك ترك جامعة القاهرة، وذهب إلي كيب تاون لأن الكهنة يخشون علي مصالحهم، وعامة الناس يرون أن السير علي سنن السلف أيسر علي قلوبهم من ابتداع البدع، وهذا يقودنا إلي تلمس عوامل الفناء في هذه الأمة، وهي أكثر رسوخاً وأشد قساوة، من عوامل البقاء، وعوامل الفناء هي استجلاب فكرة ميتة من التراث مع فكرة ميتة من الغرب، وتعاود فيهم هذه الأفكار انتقامها، وأي رجل تجرأ وقال: لقد عرفت الذي يؤدي بنا إلي وطن أفضل من وطننا هذا، ورأيت وعود الحياة السعيدة، فامشوا ورائي وأنا أقودكم فإن الآلهة تبتسم هناك، كما تبتسم هنا وفي كل مكان آخر، صلب ونفي، وترك محتكري الله لأنفسهم من إلههم.
مصائر هؤلاء المفكرين،كما تجلي من هذه الحلقات، بائسة ومأساوية، فيما يعيش دعاة التخلف في القصور بأموال الوادعين الجهلاء، سواء من التبرعات أو من الفضائيات، كما أن الخريطة المكانية للمفكرين تشمل الشام ومصرو المغرب العربي، والأفكار التنويرية أكثر جذرية في دول المغرب العربي، وخلت دول الخليج العربي، من ظهور أي مفكر ذي شأن في هذا السياق، وهو أمر مفهوم في ظل سيادة المذهب الوهابي في الجزيرة العربية، وهو مذهب قائم علي سلطة النقل ضد سلطة العقل.
بقيت بعض الحقائق في هذه الحلقات وهي أن المفكرين جميعهم تعاملوا مع النص القرآني علي أنه النص المؤسس للحضارة الإسلامية، وطالبوا بإعادة تأويله، وليس إنكاره، وطالبوا بمساءلة تفسيراته المتراكمة والتعامل معها علي أنها نصوص بشرية، وليست مقدسة، والمقدس وحده هو القرآن، وأن هذه الاجتهادات البشرية هي آراء رجال محكومين بظروف زمنية واجتماعية معينة، ولا ينبغي تقديسهم، وهي البضاعة التي يتعيش عليها السلفيون، كما أجمعوا من جهة ثانية، علي أن أسباب التدهور في الفكر الإسلامي هي بنت سببين رئيسيين هما: الاحتلال العثماني للبلاد العربية، حتي أن الدكتور محمد كرد علي، خصص لتخريبهم للإسلام والمدنية العربية فصلاً ضافياً في كتابه: الإسلام والحضارة العربية، قال فيه: ومن أهم ما قضي علي مدنية العرب في عهد الترك إهمال المدارس وامتداد أطماع الطامعين في استصفائها ونزع وقوفها وأحباسها، وفي الخطط التوقيفية إن النظار في مدارس القاهرة تصرفوا خلال ثلاثة قرون من العهد التركي علي غير شروط وقفها، وامتنع الصرف علي المدرسة والطلبة والخدمة، وانقطع التدريس بالكلية لكثرة الاضرابات، وبيعت كتب المدارس وانتهبت، حتي آلت الحال ببعض المدارس الفخمة والمباني الجليلة أن أصبحت زوايا صغيرة، وزال بعضها جملة أو صار زريبة أو حوشاً أو غير ذلك.
لم يكن الاستعمار التركي، والخلافة ذات السمة التركية عسكرية، وفقط، وإنما عمقت تخلف الأمم التابعة، بأخذ خيرة عقولها حتي فرغتها منها تماماًَ لصالح الأستانة، وتركت البلاد التابعة في جهلها ليسهل قيادها، وقد وصف ذلك "جوستاف لوبون" في كتابه حضارة العرب قائلاً: رأينا البلاد التي خضعت للترك قروناً متقهقرة متراجعة، خرجوا منها كما دخلوا إليها علي مركبات البقر، وكانوا إذا فتحوا بلداً عمروا فيه ثكنة أولاً وجامعاً ثانياً، أما المدرسة فلا تعمر إلا بعد سنين طويلة وبدواع كثيرة، يعمرها بعض نبهاء عمالهم علي الأكثر بالسخرة وأموال المظالم والمغارم.
الثكنة والمسجد أثر الأتراك في الأمة العربية، لازال سارياً وفاعلاً ومنتقماً، وترتب عليه السبب الثاني، الذي أجمع كل المفكرين علي أنه من الأسباب الرئيسية لسقوط العرب وهو ظهور الجماعات التي تدعي لنفسها حماية الإسلام، وما اصطلح علي تسميته بالإسلام السياسي، كما وضع ذلك التقسيم السمج حسن البنا في رسائله حين قال: "والفرق بيننا وبين قومنا، بعد اتفاقنا في الإيمان، أنه عندهم مخدر نائم في نفوسهم لا يريدون أن ينزلوا علي حكمه ولا أن يعملوا بمقتضاه، علي حين أنه إيمان ملتهب مشتعل قوي يقظ في نفوس الإخوان المسلمين" وهي الفكرة التي ألهمت سيد قطب مقولة تكفير المجتمع، فالمجتمع إيمانه جاهلي والإخوان هم أصحاب العقيدة الصحيحة، ومن الإخوان تكاثرت كالفطر جماعات أممت الله لنفسها، وأخرجت الآخرين من رحمته، مع أنه يبتسم هناك كما يبتسم هنا، وفي كل مكان آخر.


مصر.. زكى نجيب محمود: التدين وعلم الدين وثنائية الأرض والسماء
فى عام 1988كنت طالبا يقرأ الأهرام، من أجل زكى نجيب محمود، وقرأت له فى ذلك العام مقالا بعنوان: «يا فضيحتنا»، تم تغييره بعد ذلك عندما صدر فى كتاب «رؤية إسلامية» وصار عنوانه «صرخة» يحكى فيه زكى نجيب محمود عن فتاة فى كلية الطب، قسم الجراحة، جاءت تسأل الشيخ عن حكم الدين فى رؤيتها لجثة رجل عار فى درس التشريح، وقالت: إنها تتحدث عن نفسها، ونيابة عن زميلات لها كثيرات وكلهن طالبات «طب وجراحة»، وقد تأرقت فيهن الضمائر، فهن مؤمنات ويردن الصواب فيما يجوز لهن وما لا يجوز فى حكم الدين. ماذا يحل لهن أن يبصرنه؟ وماذا يحرم عليهن إذا ما دخلن إلى درس التشريح، وكان موضوع الدرس جثة عارية لرجل؟
فماذا كان جواب الشيخ؟ وما رأى زكى نجيب محمود؟
ظل الشيخ يلف ويدور، ويريد أن يبدو فى صورة المجدد الذى لا يخالف الشرع، وكان جوابه أن مثل هذه المعالجات يجب أن تتم فى الظلام، وهنا صرخ زكى نجيب محمود: يا فضيحتنا عند أبنائنا وأحفادنا، حين يحكى لهم الحكاؤون فى زمانهم، عن قوم عاشوا فى الربع الرابع من القرن العشرين، كانت فيه الطبيبة تسأل، كما يسأل كذلك الطبيب الجراح: هل يحل لها أن تنظر إلى جثة رجل مكشوفة العورة فى درس التشريح أولا، وفى شئون التطبيب ثانيا، وهل يحل له أن يتولى معالجة امرأة إذا كان الأمر يقتضى كشفا لمستور؟
ثم يصرخ ثانية وثالثة: يا فضيحتنا عند أبنائنا وأحفادنا، حين يحكى لهم الحكاؤون عن آباء لهم وأجداد، كانوا ذات عهد من تاريخهم أيقاظا بمجدهم ثم ناموا، فلما أرادوا لأنفسهم يقظة بعد نوم كانت وسيلتهم هى أن يتجرعوا من أكواب التثقيف شرابا ينيم اليقظان.
عام 1988ولم يكن بلاء السلفيين و الإخوان قد استفحل إلى هذه الدرجة، وإن كان أرباب الإخوان من الجماعات التكفيرية، يروعون المصريين بتفجيراتهم، وبحرق أتوبيسات السائحين، كانوا منتشين بعد قتل الرئيس المؤمن محمد أنور السادات يوم احتفال أكتوبر، وكان الصعيد مسرحا لعمليات بعث الخلافة الإسلامية على دماء المصريين، وفقراء القوم العاملين فى الحقول، على أن تفسير ذلك الخوف الذى انتاب الطبيبة فى رأى زكى نجيب محمود أنه أحد خوفين، أولهما خوف الوقوع فى الخطأ بدافع من همة وثابة طموح، و الثانى هو الذى يؤدى إلى جمود صاحبه أو صاحبته فتشل أطرافه دون فورة الشباب وطموحه، ومن هذا الصنف الحائر الجبان رأيت الطبيبة الجراحة، والطبيب الجراح، وهو خوف عم وانتشر حتى أصبح علامة على حياة هذا الجيل كله: متذرعا بذريعة الصلاح و التقوى، و الله يعلم بما تخفيه تلك الذريعة من ضعف فى الهمة وخور فى الطموح.
هذه الرؤية لزكى نجيب محمود، جاءت فى كتابه «رؤية إسلامية» بعد أن كان قد طلق الوضعية المنطقية، وهو تلميذ كارل بوبر، الذى هدم الحتمية الماركسية بوضعيته، فى كتابه «المجتمع المفتوح وأعداؤه»، حين قال: فكرة المجتمع المفتوح، تتعلق بمستقبل مفتوح، بكل تأكيد نتعلم من الماضى، لكن لا شئ يسمح لنا بإسقاطه على المستقبل للتنبؤ بما سيحدث ، إن الزعم بمعرفة مسار مستقبل التاريخ ينزع كل مسئولية أخلاقية عن الحاضر ويحول الناس إلى مجرد منفذين لمصير، مهما كانت الحال، سيتحق، وفكرة معنى التاريخ، وفكرة «وجهة» مسار القضايا أو الشئون الإنسانية هى بلاهة خطيرة لأنها تؤدى إلى إعطاء المشروعية للعنف و الاعتباط، كان زكى نجيب تلميذا لكارل بوبر، فكرهه الماركسيون، لأن الوضعية المنطقية ضد ماركسيتهم، وكرهه الإسلاميون، لأنه ابن الثقافة الغربية والعقل، الذى هم أعداؤه بالأساس.
لكن زكى نجيب محمود، بعد أن شرق وغرب، رجع إلى التراث الإسلامى لأنه وجد أنه العقبة أمام كل تطوير، وكل عقل، وأى تطور، فعكف على هذا التراث قراءة ومساءلة، وجاء هذا المشروع فى أربعة من كتبه هى: تجديد الفكر العربى، ومجتمع جديد أو الكارثة، ثم قيم من التراث، وأخيرا رؤية إسلامية وفى هذه الكتب، أسس زكى نجيب محمود مشروعا متكاملا، ففى رؤية إسلامية يقسم المشكلة إلى أربعة أقسام من التراث: الأول، مع العلم بعمق الإيمان، ومن عوامل القوة، ثم من عوامل الضعف، وأخيرا: دوائر الانتماء، يرصد فيها عوامل قوة التراث وعوامل ضعفه، ومن عوامل الضعف، وعلى رأسها التطرف: فالمتدين الحق، كما يطرح زكى نجيب محمود المسألة بطريقة المنطق الشكلى، ثم يحلها بتفكيك ذلك المنطق، المتدين بحق متمسك بدينه لا زيادة ولا نقصان، إنه إنسان يلتزم الخط الدينى، وخط الدين واحد، و الأمر بعد ذلك يكون فى أفراد الناس هو: إما سائر على هذا الخط، وإما منحرف عنه، فأين يكون فى هذه الصورة الواضحة من هو معتدل ومن هو منحرف؟
والحل والرد على ذلك، حسب عقل زكى نجيب محمود: أن هذا المنطق فاتته تفرقه مهمة بين طرفين هما: الدين كما هو مثبت فى كتابه المنزل من جهة، و المتدين بذلك الدين من جهة أخرى، فبينما الكتاب واحد، فإن المتدينين به كثيرون، فالمسلمون متفقون على الكتاب الكريم، لكنهم مختلفون فى فهمهم لبعض آياته، ومن هنا نشأت المذاهب المتعددة، ومن ثم يكون معنى التطرف يا صاحبى هو أن يأخذ المسلم بطريقة معينة فى الفهم، أو قل بمذهب معين، ثم يعلن أنه وحده الصحيح، وقد أخطأ الآخرون، ولو وقف أمره عند هذا الحد، لما كان عليه من غبار، لأن معنى أن يأخذ إنسان بمذهب معين دون سائر المذاهب، هو أنه قد رأى الصواب فى جانب المذهب الذى اختاره، لكنه ينقلب متطرفا إذا هو أراد أن يحمل الآخرين بالقوة، أيا كانت صورة القوة على مشاركته فيما اعتقد، هذا أولا، وثانيا، إذا كان اتخاذ الإرهاب وسيلة لإرغام الخصوم، هو العلامة الحاسمة التى تميز المتطرف عمن سواه، كان محالا أن يلجأ إليه إنسان قوى واثق بنفسه وبعقيدته، وإنما يلجأ إليه من به ضعف فى أية صورة من صوره، ثم يذهب زكى نجيب محمود إلى علم النفس، لفهم موقف الإرهابى: لماذا؟ لأن الإنسان إذا أحس فى نفسه ضعفا، تملكه الخوف من أن يطغى عليه أصحاب المواقف الأخرى، وكأى خائف آخر ترى المتطرف هلعا جزوعا، وثالثا: ودعونا نقف أمام تشريح نفسية الإرهابى، يقول زكى نجيب محمود: فإنه لا يتطرف بالمعنى الذى حددناه للتطرف إلا من حمل على كتفيه رأسا فارغا وخاويا، اللهم إلا أضغاثا دفع بها إلى ذلك الرأس، عن فهم أو عن غير فهم.
ثم رابعا وبوضح، هو مريض نفسى، ذلك أن التطرف فى حقيقته الدفينة حالة من حالات التكوين النفسى، تجعل صاحبها معدا لأن يتطرف وكفى، فليس المهم هو الموضوع الذى يتطرف فيه، بل المهم فى تكوينه هو أن يتطرف للتطرف فى حد ذاته، ومن هذه النقطة يحدد زكى نجيب محمود بقية عوامل الضعف فى تراثنا فى مقابل عوامل القوة، التى هى بالأساس موجودة فى النص القرآنى القابل للفهم الجديد مع كل عصر جديد، وفى العقل والفلسفة الإسلامية.
وفى كتاب «قيم من التراث» يعود زكى نجيب محمود ليشرح بتفصيل أكثر، جزءا من مشروعه بتفريقه بين: الدين.. والتدين.. وعلم الدين، حيث هناك الدين أولا، وهنالك من يتدين به ثانيا، ثم هناك العلم الذى يقام عليه ثالثا، فالدين قائم فى نصوصه المحددة المعينة، ثم يأتى الطرفان الآخران، طرف منهما متمثل فيمن يؤمنون بذلك الدين، وهم من يصفونهم بالتدين، وأما الطرف الثانى فهو «علم الدين» أو علومه التى تقام على تلك النصوص، وهى واقع الدين، فتستخرج منها ما تستخرجه من مبادئ وأحكام، فلو قال لنا قائل: الدين علم، رددنا عليه بقولنا بل الدين يقام عليه العلم، وكان يمكن أن يقوم الدين والمؤمنون به، دون أن يتولاه نفر من العلماء بالبحث العلمى، كما هو من الممكن كذلك أن يتولى غير المؤمنين بدين معين ذلك الدين بالتحليل والاستدلال، وذلك لأن العلم المقام على نص معين، لا يشترط له أن يكون الباحث العلمى مؤمنا بمضمون ذلك النص، لكن علم الدين لا هو الدين، ولا هو التدين، وإنما هو فاعلية عقلية تقام على الدين، ومن الجائز أن يكون للقوم دين يعتنقونه، بمعنى أن يكون لهم «كتاب» يؤمنون بما جاء فيه، دون أن يكون قد ظهر من بينهم من يتناولون ذلك الدين بالتفكير العلمى، ولعلى لا أخطئ - يقول زكى نجيب محمود - إذا قلت إن الإسلام قد لبث دينا للمؤنين يتدينون بمبادئه وتعاليمه فترة قبل أن يظهر الفقهاء ليقيموا عليه العلم بمنهج التفكير العلمى.
ويختم زكى نجيب محمود: إنه عندما نزلت الآية الكريمة، وفيها قول الله تعالى: «اليوم أكملت لكم دينكم»، كان قد كمل دين الإسلام، ودخل الناس فى دين الله أفواجا، ولم يكن قد كتب بعد سطر واحد فى أى علم من علوم الدين، مما يقطع بأن الدين نفسه شىء والمتدينين شىء ثان، والعلوم التى تقام عليه شىء ثالث.
يتقدم زكى نجيب محمود، خطوة أخرى فى مشروعه لتجديد دماء الأمة الإسلامية فى كتابه تجديد الفكر العربى، وفى قسمه الثانى تحديدا، وهذه الخطوة تتمثل فى «ثورة فى اللغة»، ومن حضارة اللفظ إلى حضارة الأداء، ونقلة من اللفظ إلى معناه، ثم يقترح الحلول: فى أهمية وجود فلسفة عربية لتفك للمسلمين ثنائية الأرض والسماء، ليخلص بذلك إلى قيمة التراث الإسلامى وهى: العقل، الذى عليه وحده مهمة تجديد الفكر العربى، إذ أن مشكلة المشكلات، كما يرى، فى حياتنا الثقافية الراهنة ليست هى: كم أخذنا من ثقافات الغرب، وكم ينبغى لنا أن نزيد. إذ لو كان الأمر كذلك لهان، فما علينا عندئذ إلا أن نضاعف من سرعة المطابع، ونزيد من عدد المترجمين، فإذا الثقافة الغربية قد رُصت على رفوفنا بالألوف بعد أن كانت ترص بالمئين، لكن لا، ليست هذه هى المشكلة، وإنما المشكلة الحقيقية هى: كيف نوائم بين ذلك الفكر الوافد الذى بغيره يفلت منا عصرنا، أو نفلت منه، وبين تراثنا الذى بغيره تفلت منا عروبتنا أو نفلت منها.
الخطوة الأعمق فى مشروع زكى نجيب محمود، تمثلت فى مجتمع جديد أو الكارثة، فكل ما مضى من مشكلات، تخص نخبة المسلمين التى تفكر، وفى ذلك وضع لهم الرجل مشروعا متكاملا، إنما هذه الخطوة تخص المجتمع نفسه، الذى عليه أن يستجيب لفكرة المفكر، ويحكم سلطان العقل، وأن تسود الفردية المسئولة، إذ نحن من يصنع الماضى، لا الماضى الذى يصنعنا، واحترام العلم، والإصرار على العمل، وفى كل ذلك قدم الرجل خريطة كاملة للنهوض بهذا المجتمع الكسلان، وبنخبته الأشد كسلا وانتهازية.

لبنان.. شكيب أرسلان: الإسلام وطن.. خيانة للدين والوطن
سؤال حارق من مسلم هو: محمد بسيونى عمران، إمام مهراجا جزيرة سمبس برنيو (جاوة)، منذ أكثر من مائة عام بعث به فى رسالة إلى الشيخ محمد رشيد رضا يقول فيه: حضرة مولاى الأستاذ المصلح الكبير السيد محمد رشيد رضا، صاحب المنار نفعنى الله والمسلمين بوجوده العزيز آمين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد فإن من قرأ ما كتبه فى المنار وفى الجرائد العربية العلامة السياسى الكبير، أمير البيان الأمير شكيب أرسلان، من مقالاته الرنانة، مختلفة المواضيع، عرف أنه من أكبر كتاب المسلمين المدافعين عن الإسلام، وأنه أقوى ضلع للمنار وصاحبه فى خدمة الإسلام والمسلمين، وإنى أرجو من الله تعالى أن يطيل بقاءهما الشريف فى خير وعافية، كما أرجو من مولادى الأستاذ صاحب المنار أن يطلب من هذا الأمير الكاتب الكبير، أن يتفضل على بالجواب عن أسئلتى الآتية وهى:
ما أسباب ما صار إليه المسلمون (لاسيما نحن مسلمى «جاوة وملايو») من الضعف والانحطاط فى الأمور الدنيوية والدينية معا، وصرنا أذلاء لا حول لنا ولا قوة، وقد قال الله تعالى فى كتابه العزيز: «ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين»، فأين عزة المؤمنين الآن؟ وهل يصح لمؤمن أن يدعى أنه عزيز؟ وإن كان ذليلا مهانا ليس عنده شىء من أسباب العزة إلا لأن الله تعالى قال: «ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين»؟
ما الأسباب التى ارتقى بها الأوربيون والأمريكانيون، واليابانيون ارتقاء هائلا، وهل يمكن أن يصير المسلمون أمثالهم فى هذا الارتقاء، إذا اتبعوهم فى أسبابه مع المحافظة على دينهم الإسلام أم لا؟
هذه هى الأسئلة القديمة الجديدة التى سألها رجل من مسلمى جزيرة جاوة عن طريق رسالته إلى الشيخ رشيد رضا، التى أوصلها بدوره إلى الأمير العلامة شكيب أ رسلان، وهى أسئلة فتحت باب المعارك بين القديم والجديد، بين أسباب ارتقاد الأمم الغربية، لو أخذنا بها، مع شرط الحفاظ على ديننا الإسلام، وكأن السائل دون أن يدرى، وضع أسباب ارتقاء الأمم، والإسلام فى مواجهة نقيض، أو كأنهما شيئان لا يلتقيان، فإن أنت أخذت بأسباب الارتقاء، خفت على دينك الإسلام الضياع، وإن حافظت على دينك، أهملت أسباب الارتقاء، وبعد الإجابات التى فصلها شكيب أرسلان فى رسالة نشرت بعد ذلك فى كتابه، أسهم الإمام محمد عبده بدوره فى البحث عن إجابة، ثم صارت أسئلة المواطن «الجاوى» تتكرر كل عقد من الزمن، وتقدم عنها إجابات مختلفة كل عقد من الزمن، والإجابات الجديدة تأخذ من القديمة، وتضيف إليها، ثم تضاف أسئلة جديدة، لم تكن تكنولوجيا اليابان والأمريكانيين، قد طرحتها، ويظل طرفا النقيض لا يلتقيان، لأن أسباب الارتقاء تقتضى التفكير العلمى، دون مرجعية سابقة يقاس عليها، أو ما رأى الدين فى كذا وكذا، أسباب الارتقاء تقتضى العلمانية، والعلمانية عند عامة المسلمين وخاصتهم كفر، ومما يوجع القلب أن أحد من يدعون التفكير كتب مقالا فى شهر إبريل من عام 2011، بعد ثورة يناير، وكان الإخوان قد بزغ نجمهم وتسيدوا المشهد بعنوان: العلمانية هل نحن فى حاجة إليها؟ مع أنه حصل على درجة الدكترة من أمريكا العلمانية فى موضوع: الإسلام والديمقراطية، لكن النخبطة تنتقم منا والأفكار تنتقم منهم.
ماذا كان جواب الأمير شكيب أرسلان على سؤال السائل حول تخلف المسلمين وتقدم غيرهم؟
السبب الأول فى رأى شكيب أرسلان أن المسلمين تركوا العمل إلى الكسل، إذ كيف ترى فى أمة ينصرها الله بدون عمل ويفيض عليها الخيرات التى كان يفيضها على آبائها، وهى قد قعدت عن جميع العزائم التى كان يقوم بها آباؤها، وذلك يكون أيضا مخالفا للحكمة الإلهية، والله هو العزيز الحكيم، ما قولك فى عزة دون استحقاق، وفى غلة دون حرث ولا زرع، وفى فوز دون سعى ولا كسب، وفى تأييد دون أدنى سبب يوجب التأييد؟
أما السبب المقابل فى تقدم الأوروبيين وتخلف المسلمين، هو أن أهل الغرب، بذلوا أنفسهم وأموالهم من أجل أوطانهم والحرص على وحدتها وقدموا الملايين من القتلى فى الحرب الأولى، الألمان مليونا قتيل، وفرنسا مليون وأربعمائة ألف، والإنجليز ستمائة ألف، والطليان والروس.... إلخ، فليقل لى قائل أية دولة مسلمة اليوم تقدم على ما أقدم عليه هؤلاء النصارى «بتعبير عصره» من بيع النفوس، وإنفاق الأموال دون حساب فى سبيل أوطانهم، ودولهم حتى نعجب نحن لماذا أتاهم الله هذه النعمة والعظمة والثروة وحرم المسلمين اليوم أقل جزء منها؟
وهكذا ظل الأمير شكيب أرسلان يذكر صفة حميدة للغرب وعكسها عند المسلمين، ويعجب كيف يتساءل المسلمون عن ذلهم وعزة الغرب، فيذكر مقابل ولاء الغربى لوطنه وإيثاره على نفسه خيانة بعض المسلمين لدينهم ووطنهم، واعتذارهم الباطل يقول شكيب أرسلان: وإذا سألت هؤلاء المسلمين الممالئين للعدو على إخوانهم: كيف تفعلون مثل هذا وأنتم تعلمون أنه مخالف للدين وللشرف وللفتوة وللمروءة وللمصلحة وللسياسة؟ أجابوك: كيف نصنع فإن الأجانب انتدبونا ولو لم نفعل لبطشوا بنا، وكلام مثل هؤلاء فى الاعتذار غير صحيح، فإن الأجانب قد ندبوا كثيرا من المسلمين إلى خيانات كهذه فلم يجيبوهم، ولم تنقض عليهم السماء من فوقهم، ولا خسفت بهم الأرض من تحتهم (يا الله.. كأن الرجل يفسر لنا عمالة بعض أهلنا من المسلمين والإخوان والليبراليين لأمريكا وغيرها، وهم يعلمون ما يخططون لنا، لكن هؤلاء اليوم لا يعتذرون بالخوف من بطش الأمريكيين، وإنما يعتذرون بدولاراتهم ورفاهيتهم، لكن الرجل لا يقصد خيانة المسلم العادى البسيط الذى قد تغريه الأموال لضيق حاله وشظف عيشه، وإنما يقصد الخواص، وبعضهم وزراء، وكانوا على أيامه كثيرون، يقول: لكن الأنكى هو خيانة الخواص، مثال ذلك الوزير المقرى الذى هو أشد تعصبا لقضية رفع الشريعة الإسلامية، من بين البربر من الفرنسيين أنفسهم، ومثله البغدادى باشا فاس، الذى طرح نحو مائة شخص من شبان فاس لكونهم اجتمعوا فى جامع القرويين يدعون على المحتل، ومفتى فاس الذى أفتى بأن إلغاء الشرع الإسلامى من بين البربر ليس بإخراج للبرير من الإسلام وهلم جرا.
على أن شكيب أرسلان، وهو يشخص داء الأمة الإسلامية، ويحاول أن يجد لها الحلول، يأخذ على هؤلاء وأمثالهم خسة أنفسهم، وضعتهم، وعدم تقديرهم للأمور، حين يقول فى هامش توضيحى: الغريب فى هذا أن أمثال هؤلاء الخونة يبيعون بلادهم كلها للأجنبى بثمن خسيس هو جزء منها لا من مال الأجنبى، ولو أخلصوا فى صده عنها لكان لهم منها أكثر مما يعطيهم الأجنبى منها، ثم يكون باقيها لأولادهم وأهليهم وإخوانهم فى الدين مع العز والشرف.
ثم يقارن أرسلان بعد ذلك بين المسلمين وغيرهم فى البذل لنشر الدين، ثم يذكر بعد ذلك أن من أعظم أسباب تأخر المسلمين فساد الأخلاق الفردية والجماعية، ثم الجبن والهلع واليأس، ثم ضياع الإسلام بين الجامدين والجاحدين، وعدم المحافظة على القومية، فالإسلام ليس وطنا، بل الوطن هو الأرض التى تقف عليها، ثم بعد ذلك وهو سبب قد تراه ثانويا، كراهة المسلمين للجمال والفنون الراقية، وفى كل نقطة من تلك النقاط يضع أرسلان الحل الأمثل لها.
أما وقد أجمل الرجل رأيه فيما مضى، يأتى بعد ذلك للشرح المستفيض لكنه، يفيض أكثر في نقطة يراها هى أس البلاء وهى: غوائل الجامدين فى الإسلام والمسلمين، والجامدون الذين يقصدهم هم الذين يقدسون كل كلمة قيلت حول الدين، مع أنها من بشر مثلهم، وليست من أصل الدين ويرون كل مجدد كافرا، ولو كان يفكر للمصلحة العامة: فالجامد، كما يقول شكيب أرسلان، هو الذى مهد لأعداء المدنية الإسلامية الطريق لمحاربة هذه المدنية محتجين بأن التأخر الذى عليه العالم الإسلامى إنما هو ثمرة تعاليمه.
والجامد هو سبب الفقر الذى ابتلى به المسلمون لأنه جعل الإسلام دين آخرة فقط، والجامد هو من شهر الحرب على العلوم الطبيعية والرياضية والفلسفية، وفنونها وصناعاتها بحجة أنها من علوم الكفار، فحرم الإسلام ثمرات هذه العلوم، وأورث أبناءه الفقر الذى هم فيه وقص أجنحتهم، فإن العلوم الطبيعية هى العلوم الباحثة فى الأرض، والأرض لا تخرج أفلاذها إلا لمن يبحث فيها، فإن كنا طول العمر لا نتكلم إلا فيما هو عائد للآخرة، قالت لنا الأرض: اذهبوا توا إلى الآخرة فليس لكم نصيب منى.
وفى فصل بعنوان: كون الجامدين فتنة لأعداء الإسلام وحجة عليه، حيث وصف الجمود، نقطة مركزية فى كتاب «لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم» يعطيها شكيب أرسلان أغلب جهده، ويرى أن الجامدين الرافضين للتجديد فى الدين هم العقبة الكئود فى سبيل تقدم دينهم وأوطانهم، وأنهم سبب فقر إخوانهم المسلمين: ونعود إلى المسلم الجامد فنقول إنه هو الذى طرق لأعداء الإسلام على الإسلام، وأوجد لهم السبيل إلى القالة بحقه، حتى قالوا إنه دين لا يأتلف مع الرقى العصرى، وأنه دين حائل دون المدنية، والحقيقة أن هؤلاء الجامدين هم الذين لا تأتلف عقائدهم مع المدنية، وهم الذين يحولون دون الرقى العصرى والإسلام براء من جماداتهم هذه.
وأمام جمود هؤلاء الجامدين، يذهب شكيب أرسلان إلى حضارة الإسلام، ليرد عليهم ب «مدنية الإسلام»، وأهم علماء المسلمين المجددين فى الدين، عبر تاريخه، وكذلك علماء الإسلام الذين اهتموا بالطبيعة، ويرى أن الأجداد أكثر جرأة من الأحفاد الخانعين، ولا ينسى فى الطريق أن يخصص جزءا من رسالته للرد على الجاحدين على الإسلام مدنيته، ويذكرهم بذلتهم وتخلفهم أيام كان الإسلام يسود الحضارات ويعطيها الدفعة الأقوى للتقدم والنمو، وخلاصة الأمر أن الإسلام، وأن المسلمين لا ينهضون، ولن ينهضوا إلا بمثل ما نهض به غيرهم، وهو العلم.

العراق.. علي الوردي: وعاظ السلاطين .. الظالم السني والظالم الشيعي

علي الوردي (19131995)، واحد من أنبه علماء العراق، رأي أمراض أمته كلها من جهل وتخلف وتكاسل، في الشخصية العراقية، فاتخذ منها منطلقاً، لتشريح حال الأمة والبحث عن سبيل لخروجها من هذه الحال، وقد جنبه الله العيش حتي هذه اللحظة، حتي لا يموت منتحراً، لو رأي ما حل ببلده، هو عالم اجتماع عراقي ومؤرخ، ومن رواد العلمانية في العراق، كان متأثراً بمنهج ابن خلدون، في علم الاجتماع، وله العديد من الكتب أشهرها: "مهزلة العقل البشري"، و"وعاظ السلاطين" و"منطق ابن خلدون"، دراسة في طبيعة المجتمع العراقي، شخصية الفرد العراقي، بحث في نفسية الشعب العراقي علي ضوء علم الاجتماع الحديث.
حلل علي الوردي الشخصية العراقية باعتبارها شخصية ازدواجية، شأن العرب جميعاً، تحمل قيماً متناقضة هي قيم البداوة، وقيم الحضارة، وتميز تحليله بالغوص في دراسة العادات والتقاليد، وما تنتجه من أخلاق، كما شن حملة شعواء علي الخلاف السني الشيعي، وطالب بالنظر إلي موضوع الخلاف بين الإمام علي ومعاوية، علي أنه خلاف تاريخي، تجاوزه الزمن، ويجب علي المسلمين عوضاً عن ذلك استلهام المواقف التاريخية والآراء السياسية من هؤلاء القادة، لا باعتبارها خلافاً في الدين، وإنما خلاف علي طريقة إدارة الدولة كسياسة، والمشكلة الأكبر في رأي علي الوردي في تخلف المسلمين هي أن الحكام دائماً يستخدمون الوعاظ لتبرير ظلمهم، وأفاض في الأسباب التي دفعت الوعاظ لمجاراة السلاطين.
وقد أوجز عبدالوهاب الحمادي، رؤي علي الوردي في وعاظ السلاطين قائلاً: طرح الوردي أموراً مختلفة، منها أن منطق الوعاظ الأفلاطوني هو منطق المترفين والظلمة، وأن التاريخ لا يسير علي أساس التفكير المنطقي، إنه بالأحري يسير علي أساس ما في طبيعة الإنسان من نزعات أصيلة لا تقبل التبديل، وأن الأخلاق ما هي إلا نتيجة من نتائج الظروف الاجتماعية.
يقول الوردي: إن الديمقراطية لم تنشأ في الأمم الحديثة من جراء أفكار صبيانية تحذلق بها الواعظون، إنما هي في الواقع نتيجة معارك طاحنة قامت بها الشعوب في وجوه حكامهم المستبدين، والديمقراطية لم تفتر عن الثورة حتي اليوم فتاريخها عبارة عن سلسلة متلاحقة من الثورات لا نهاية لها، إن نظام التصويت الذي تقوم عليه الديمقراطية الحديثة، ليس هو في معناه الاجتماعي إلا ثورة مقنعة، والانتخاب هو في الواقع ثورة هادئة حيث يذهب الناس إلي صناديق الانتخاب، كما كان أسلافهم يذهبون إلي ساحات الثورة، فيخلعون حكامهم أو يستبدلون بهم حكاماً آخرين، ويقول المستر ليمان الكاتب الأمريكي المعروف: "إن ثوار الأمم الديمقراطية يستخدمون أوراق التصويت بدلاً من رصاص البنادق".
إن من النادر أن تسمع بحدوث ثورة مسلحة في البلاد الديمقراطية الحقة، إنهم لا يثورون لأن في ميسورهم، أن يجدوا للثورة طريقاً آخر، هو طريق التصويت الهادئ الذي لا يتلاعب به الحكام الأدنياء، فهم يبدلون حكامهم حينا بعد آخر، فلا تحدث فتنة ولا تسيل دماء والحكومة التي لا تدرب رعاياها علي اتباع طريق الثورة السلمية الهادئة، سوف تجابه من غير شك ثورة دموية عنيفة في يوم من الأيام، وأما في العالم الإسلامي المنكوب فقد كان السلاطين في عهودهم الغابرة، يستخدمون نوعين من الناس حاملي "السيف" وحاملي "القلم" وكانوا يبذلون من الأموال في رعاية حاملي "القلم" مثلما يبذلون في رعاية حاملي "السيف" فهم يبنون الثكنات والقلاع ومرابط الخيل في نفس الوقت الذي يبنون فيه المساجد والمدارس ورباطات الدراويش.
ثم يأتي بعد ذلك النزاع بين الشيعة والسنة، والذي اتخذ شكل التعصب لآل النبي من جهة، ولأصحاب النبي من الجهة الأخري، فأهل السنة تعصبوا للأصحاب، بينما تعصب الشيعة للآل، وأخذ كل فريق يغالي في تمجيد من تعصب لهم، التزم أهل السنة بالحديث النبوي القائل، إن أصحابي بمنزلة النجوم في السماء فأيهم أخذتم به اهتديتم، واختلاف أصحابي رحمة، والتزم الشيعة من الجانب الآخر بالحديث القائل، إنما مثل أهل بيتي مثل سفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق.
أولئك جعلوا مقياس الفضيلة في الصحبة النبوية، وهؤلاء جعلوه في البيت العلوي، أخذ أهل السنة يطلقون علي الشيعة لقب "الروافض" باعتبار أنهم رفضوا الصحابة، بينما اطلق الشيعة علي أهل السنة "النواصب" باعتبار أنهم نصبوا العداء لأهل البيت وحالفوا أعداءهم الأمويين، وبهذا تمادي الغلو من كلا الجانبين وأصبح داء اجتماعياً وبيلا.
ولم يكن الشيعة "روافض" في أول أمرهم، وكذلك لم يكن أهل السنة نواصب وإنما هو التطرف والتعصب، سمما بالتراكم الفكري الذي أدي بهما إلي هذه النتيجة المحزنة، وإذا أراد الشيعة وأهل السنة في هذا العصر أن يتحدوا، فليرجعوا إلي شعارهم القديم، الذي اتخذه زيد بن علي وأبو حنيفة، أي شعار "الثورة علي الظلم في شتي صوره" لا فرق في ذلك بين الظالم الشيعي أو الظالم السني، إن هدف الدين هو العدل الاجتماعي، وما الرجال فيه إلا وسائل لذلك الهدف العظيم.
رأي علي الوردي أن الأزمة العظمي التي تسبب تخلف المسلمين في شيئين، الأول هو الانقسام المذهبي، وأن أحد الصحابة وهو علي، كان يمثل الدين، بينما معاوية يمثل الحكم الدنيوي، وهو أمر غير صحيح، فكلاهما كان يجتهد في الدين، وليس علي الأحفاد أن يدفعوا ثمن أخطاء تفسيرات الأجداد، فالحل إذن هو نبذ الخلاف الشيعي السني، الذي رتب بالثاني، ما يسميه الوردي "وعاظ السلاطين" الذين كانوا يبثون سمومهم في البداية في المسجد وفقط، في خطب الجمعة والعيدين، داعين للسلاطين مبررين أخطاءهم، وفتكهم بمعارضيهم، لقاء "عيشة هنية" وهو ما يشبه ما يقول به السلفيون الآن، وعاظ وسلاطين العصر الحديث، يقول علي الوردي: لو تابعنا وعاظ السلاطين في رأيهم لألغينا الأحزاب الديمقراطية، وسددنا الصحف السياسية، وقمعنا كل رأي يخالف رأينا، بحجة أن هذه الأمور تفرق الجماعة وتضعف الأمة تجاه العدو الواقف لها بالمرصاد.
نسي هؤلاء أن الظلم يضعف الأمة أكثر مما يضعفها الجدال والتنازع، وقد قيل في المأثورات الدينية: "الكفر يدوم والظلم لا يدوم" فالأمة التي تتنازع فيها الأحزاب هي أقوي علي البقاء من تلك التي يكون الحاكم فيها ظالماً والمحكوم ساكتاً، فالتماسك الذي نلاحظه في تلك الأمة هو تماسك ظاهري أشبه بالورم المعدي منه بالنسيج الحي، إنه تماسك قائم بحد السيف، ولا يكاد ينغمد السيف عنه قليلاً حتي تراه قد تهاوي إلي الأرض كما يتهاوي البناء المتداعي.
يعتقد وعاظ السلاطين: إن كفاح الظالمين أمر هين جداً، فهو في نظرهم كغيره من أمور الإصلاح الاجتماعي لا يحتاج إلا إلي صب المواعظ الرنانة علي رءوس الناس: "أيها الناس لا تظلموا فإن الله لا يحب الظالمين" وهم حين يقولون ذلك يظنون أن الظالم سوف يرتدع عن ظلمه حالما يستمع إليهم، ونسوا أن الظالم لا يدري بنفسه أنه ظالم فهو يتخيل نفسه أعدل الناس وأكثرهم جهاداً في سبيل الله، والظالم حين يسمع الوعاظ يذمون الظلم يفرح كثيراً إذ هو يعتقد بأن المقصود بهذا الذم أعداؤه، أما هو فلا يمسه شيء من هذا الذم، وكيف يمسه الذم وهو يسير في حكمه علي كتاب الله وسنة رسوله.
وهذا كان من الأسباب التي جعلت طغاة العصور القديمة يبجلون الواعظين، ويجزلون لهم العطاء ويشيدون لهم المساجد الطويلة والأوقاف العريضة، وكلما كان الواعظ أكثر صراخاً وعويلاً في ذم الظلم كان أقرب إلي قلوبهم ذلك أن الواعظ يذم الظالمين، بينما صاحبنا الطاغية يعتبر نفسه من العادلين.
يجيد الواعظ عندنا سبك الخطب البديعة، فيستحسنها المترفون ويقولون له عند انتهائها: "لافض فوك، كثر الله من أمثالك، ثم يخرجون من مكان الاجتماع وقد عمرت أفئدتهم بالدعاء لخير العباد، أما العباد فيبقون كما كانوا في شقاء مقيم.
إنها مواعظ رائعة بذل أصحابها في نحتها كثيراً من أفانين النحو والصرف، والبيان والبديع، ثم يرمونها في الهواء أمواجاً يتلو بعضها بعضاً.
ومن حسن حظ البشر في الأزمنة القديمة أن هذه المواعظ كانت تقتصر في أثرها علي أمواج الهواء وحده، أما في هذا الزمان فقد صارت تشمل أمواج الأثير وأمواج الضوء أيضاً لا سيما بعد إنشاء محطات التلفزة.
إنها علي أي حال لا تحرك إلا الأمواج، كما كان العبيد يحركون مراوح أسيادهم في قديم الزمان، فهي مواعظ للترويح أو المريخ، والأسياد يحبون من يمرخ لهم أو يروِّح.

مصر.. على عبد الرازق: رسالة لا حكومة.. ودين لا دولة
ألغى مصطفى كمال أتاتورك، الخلافة الإسلامية فى تركيا فى الثلاثين من أكتوبر سنة 1923م بعد أن زالت الدولة العثمانية عمليا من الوجود، بعدها بقليل وجد الملك فؤاد الذى يحكم مصر تحت الاحتلال البريطانى الفرصة مواتية لإعلان نفسه خليفة للمسلمين، ولو تحت الحماية البريطانية، وكانت مطامعه فى ذلك قوية جارفة، فأوصى بفكرة عقد مؤتمر الخلافة فى القاهرة، تدعو لعقده لجنة تحضيرية من كبار علماء الأزهر يكون سكرتيرها الشيخ حسين والى، وكان الشيخ الأحمدى الظواهرى، من أشد المتحمسين للمؤتمر، والسعى من أجل انعقاده ولما لمح بوادر الفشل، وتوجس بعض الدول من المشاركة، بإيعاز من السعودية حينذاك، ذهب لمقابلة الملك فؤاد شخصيا، كما تعود أن يفعل، وقد حكى ذلك فى مذكراته يقول الشيخ الظواهرى: وعندما رأيت بوادر الفشل فى عقد المؤتمر، طلبت مقابلة الملك فؤاد، فصارحته، كما تعودت أن أصارحه دائما، وأخبرته بما يتقول به رجال الأمم الأخرى فقال أى الملك إننى رجل مسلم وأحب رفعة الإسلام، وجمع كلمة المسلمين ولا أحب أن يتفرقوا، ولهذا شجعت علماء الأزهر على فكرة إقامة مؤتمر فى القاهرة يبحث فى مسألة الخلافة من جميع نواحيها، ولم أقصد من ذلك أن أكون أنا الخليفة بالذات، كما ظن بعضهم. قبل ذلك بعام كانت مصر قد نالت استقلالها بتصريح 28فبراير 1922م وأصبح لها سفراء فى أهم عواصم العالم لكن المؤتمر عقد على أى حال، بعد مرور ست سنوات من التفكير فيه ولم يسفر عن شىء، للتنازع بين مصر والسعودية، حيث الأزهر يقف إلى جانب فؤاد وذريته، والسعودية لها أتباع كثيرون ضمن رجال الأزهر، هذه الملابسات التاريخية مهمة لفهم كتاب الشيخ على عبد الرازق «الإسلام وأصول الحكم بحث فى الخلافة والحكومة فى الإسلام» وهو الكتاب الذى كفر بسببه وهوجم على المنابر، وقدم للمحاكمة، وفصل من الأزهر واعتبره البعض أشد وقعا على المسلمين من فعلة كمال أتاتورك، فبرغم ما فى هجمة أتاتورك وجنايته على الإسلام من الضراوة والقسوة والشراسة، فإن جناية على عبد الرازق فى كتابه أشد وأخطر، كما كتب بعض الفقهاء، وهذا يعنى أن الكتاب «الإسلام وأصول الحكم» قد أحدث أثره، وقضى على آمال الفقهاء، بمعاونة الملك فؤاد فى إعادة جثة الخلافة إلى الوجود مرة أخرى، كما أنه من جهة ثانية، أحدث هزة فى الأوساط الفكرية والثقافية فى مصر، وأغلب البلاد العربية، وأعاد الجدل حول الحكومة الإسلامية، والحكومة المدنية، بل وأعاد النظر فى الكثير من المسلمات الفكرية والسياسية حول الإسلام، لاسيما وقد لحق به بعد قليل كتاب طه حسين الإشكالى فى الشعر الجاهلى سنة 1926، بعد نشر كتاب على عبد الرازق مباشرة عام 1925، وقد صدرت منه ثلاث طبعات فى عام واحد، فماذا حوى كتاب على عبد الرازق «الإسلام وأصول الحكم» وكيف أسس مشروع الإسلام المدنى، والإسلام الحضارى، الذى تخلص من الأسماء البالية والهالات الكاذبة التى كان الخلفاء يحيطون أنفسهم بها، وبها يذلون أعنان المسلمين ويستذلون الدول، التى تدفع لهم الإتاوات السنوية. على أن الكثيرين لا يتوقفون أمام العنوان الفرعى وهو: بحث فى الخلافة والحكومة فى الإسلام، فضلا عن أن ثلاثة أرباع النخبة المصرية التى تجادل حول «الإسلام هو الحل» معه أو ضده، لم تقرأ الكتاب، ومن قرأ، قرأ عنه، ولم يقرأ متن الكتاب إلا من رحم ربك، وقليل ما هم.
ينقسم الكتاب على طريقة القدماء، إلى ثلاثة كتب، الأول منها يدور حول الخلافة والإسلام، وطبيعة الخلافة وحكمها وتعريفاتها، وأثارها الاجتماعية والكتاب الثانى حول: الحكومة والإسلام والرسالة، والحكم والفرق بينهما، وأن الإسلام رسالة لا حكم، ودين لا دولة، والكتاب الثالث حول الخلافة والحكومة فى التاريخ، المدهش أن الشيخ محمد الطاهر بن عاشور كتب كتابا كاملا للرد على عبد الرازق وأسماه نقد علمى لكتاب الإسلام وأصول الحكم، على أى حال، نسف عبد الرازق الأوهام المتعلقة بفكرة الخلافة، ورأى عدم إلزامية الخلافة، وطالب بدولة إسلامية مدنية قائمة على الشورى، وأن الخلافة مفردة لغوية تعنى أن يخلف لا حق سابق، بترتيب زمنى، ولا وجه لإسباغ القداسة عليها، ودعا المسلمين للانفتاح على تجارب العالم بلا خوف إذ لا يوجد دينيا ما يمنعهم من ذلك حيث قال: لا شىء فى الدين يمنع المسلمين أن يسابقوا الأمم الأخرى فى علوم الاجتماع والسياسة كلها، وأن يهدموا ذلك النظام العتيق الذى ذلوا واستكانوا إليه، وأن يبنوا قواعد ملكهم ونظام حكومتهم، على أحدث ما أنتجت العقول البشرية، وأمتن ما دلت تجارب الأمم على أنه خير أصول الحكم.
رفض على عبد الرازق الخلافة درءا لخطر الاستبداد وأن يستغل الدين فى إذلال الناس، وتغييب وعيهم، ولو تأملت عناونين الكتاب كنظام الحكم فى عصر النبوة، والرسالة والحكم، ورسالة لا حكم، ودين لا دولة، لأدركت أنه وفى وقت مبكر من القرن العشرين يدعو إلى فصل الدين عن الدولة والرسالة عن الحكم مع إيمان بوجوب وجود الدولة أو الحكومة، وبنص كلامه:«المعروف الذى ارتضاه علماء السياسة أنه لابد لاستقامة الأمر فى أمة متمدينة، سواء أكانت ذات دين أم لا دين لها، وسواء أكانت مسلمة أم مسيحية أم يهودية، أم مختلطة الأديان، لابد لأمة منظمة مهما كان معتقدها، ومهما كان جنسها ولونها ولسانها من حكومة تباشر شئونها، وتقوم بضبط الأمر فيها، قد تختلف أشكال الحكومة وأوصافها بين دستورية واستبدادية، وبين جمهورية وبولشفية وغير ذلك وقد يتنازع علماء السياسة فى تفضيل نوع من الحكومة على نوع آخر، ولكننا لا نعرف لأحد منهم ولا من غيرهم نزاعا فى أن أمة من الأمم لابد لها من نوع من أنواع الحكم.
فرق على عبد الرازق، بين الرسالة والحكم، وهذا الكلام لدعاة الدولة الدينية، ودعاة خلط الدين بالسياسة، أو سياسة بمرجعية إسلامية أو أى مرجعية دينية، مفارقة لحركة البشر كما فرق بين الدين والدولة، كما رصد الشواهد التى تنفى استنادا على الكتاب والسنة المملكة النبوية، أى أنه النبى كان ملكا ولا يهولنك البحث فى أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان ملكا أم لا، ولا تحسبن أن ذلك البحث ذو خطر فى الدين قد يخشى شره على إيمان الباحث، فالأمر إن فطنت إليه أهون من أن يخرج مؤمنا من حظيرة الإيمان، بل أهون من أن يزحزح المتقى عن حظيرة التقوى.
يقول المفكر السودانى حيدر إبراهيم على إن على عبد الرازق عارض بشجاعة الأراء المستقرة والمتفق عليها ويفرق بين الحقيقة التاريخية، والحقيقة المنطقية، وبين الأراء السائدة والمجمع عليها، حين يكتب: أن المسلم العامى يجنح غالبا إلى اعتقاد أن النبى صلى الله عليه وسلم كان ملكا ورسولا، وأنه أسس بالإسلام دولة سياسية مدنية كان ملكها وسيدها يتلاءم مع ذوق المسلمين العام، ولعله أيضا رأى جمهور العلماء من المسلمين، فإنك تراهم إذا عرض لهم الكلام فى شىء يتصل بذلك الموضوع يميلون إلى اعتبار الإسلام وحدة سياسية ودولة أسسها النبى، ثم يأخذ على عبد الرازق فى كشف زيف هذه المسلمة التى يشترك فى تصديقها العامة، وجمهور العلماء، وهذا الكشف هو وسيلته المعرفية لنفى قيام الدولة الدينية فى الإسلام، حتى إنه لا يرى فى الذين رفضوا دفع الزكاة بعد وفاة الرسول مرتدين لأن الزكاة كانت تؤدى إلى النبى، وأن حروب الردة لم تكن دينية بل سياسية، ويرى عبد الرازق أن زعامة النبى انتهت بوفاته ولا توحد بعده زعامة دينية، وما لأحد أن يخلفه فى زعامته ورسالته، وما جاء بعده هو نوع جديد من الزعامة، مدنية أو سياسية غير التى عرفناها زمن النبى، وهى زعامة الحكومة والسلطان لا زعامة الدين.
فلو خلف أحدهم النبى بالمفهوم الدينى، لورث عصمته وقداسته، وهو المفهوم الذى روجه الخلفاء، أو من يدعون ببعث الخلافة، وهو ما يفنده على عبد الرازق بالقول:«كذلك فشا بين المسلمين منذ الصدر الأول الزعم بأن الخلافة مقام دينى، ونيابة عن صاحب الشرعية عليه السلام، كان من مصلحة السلاطين أن يروجوا ذلك الخطأ بين الناس، حتى يتخذوا من الدين درعا تحمى عروشهم، وتذود الخارجين عليهم، ثم الأنكى من ذلك أن الخلافة صارت لدى بعضهم أصلا من أصول الدين، ومن عقائد التوجيه، وتلك جناية الملوك واستبدادهم بالمسلمين أضلوهم عن الهوى وعموا عليهم وجوه الحق وحجبوا عنهم مسالك النور باسم الدين، وباسم الدين استبدوا بهم وأذلوهم.
هل إقامة شرع الله تستلزم وجود الخلافة، بمعناها المتداول؟
الإجابة عند على عبد الرازق: أن شعائر الله تعالى ومظاهر دينه الكريم، لا تتوقف على ذلك النوع من الحكومة الذى يسميه الفقهاء خلافة.. فإنما كانت الخلافة ولم تزل نكبة على الإسلام وعلى المسلمين وينبوع شر وفساد.

تونس.. الطاهر الحداد: امرأتنا فى الشريعة والمجتمع ضد تجارة السلفيين بالأنثى
فى العالم العربى، بشرقه وغربه، لا يصح القول: ما أشبه الليلة بالبارحة، بل إن الليلة هى البارحة، بريحها وسمومها، وجهلها واستمراء تخلفها، فحين كتب الطاهر الحداد كتابه:«امرأتنا فى الشريعة والمجتمع» وصدر فى عام 1930، هوجم من العلماء، وأشباه العلماء، ومن العامة، وكتاب الصحف فكانت العناوين التى تسبه وتكفره من عينة:«الحداد على امرأة الحداد» للشيخ محمد الصالح بن مراد، و«سيف الحق على من لا يرى الحق» للشيخ عمر البرى المدنى، الذى أدهشنى بشكل مفزع أن أحد كبار العلماء المعدودين فى ذلك الوقت والذى يعد من علماء الأمة وهو العلامة الطاهر بن عاشور، رأس لجنة من العلماء، قامت بتكفير الطاهر الحداد، وطالبت السلطات هناك بمصادرة الكتاب، ولو تأملت عناوين الصحف التى هاجمت الحداد، وقتها لربما تذكرت عناوين الصحف اليوم، التى تهاجم أى داع للخروج من حالة التخلف التى عليها المسلمون الآن، أو أى داع لتطوير مناهج الأزهر، أو تجديد الفكر الدينى الذى ليس هو الدين، جاءت عناوين الصحف كالتالى: حول زندقة الحداد، وموقف الصحف العربية حول نازلة الطاهر الحداد، وخرافة السفور وأين يصل غرور الملحدين، شىء من هذا القبيل جرى مع قاسم أمين فى مصر، الذى سبق الحداد بكتابية، تحرير المرأة والمرأة الجديدة، وكلاهما الحداد وقاسم أمين، انطلق فى دعوته إلى إعادة حق المرأة، ومعاملتها معاملة لائقة وإنسانية استنادا على نصوص إسلامية ومحاولة إزالة الظرف الاجتماعى، المحمل على الفقه القديم، وأن ما يناسب بيئة ما، قد لا يتفق مع بيئة أخرى، ولم يطعن أحد من دعاة تحرير المرأة فى نصوص ثابتة قطعية، والطاهر الحداد نفسه دارس للشريعة، والفقه الإسلامى فى جامع الزيتونة، وكل ما قال به إنه لم يرد فى القرآن ما يفرض الحجاب الذى يغطى كامل الجسد، الذى هو الآن النقاب والإسدال، وكأننا نكصنا إلى ما قبل أكثر من مائة عام، وأن كل ما جرى من محاولات تطوير الفقه الإسلامى، والفكر الإسلامى ذهب أدراج الرياح، لكن الجدير بالذكر أيضا، أن إسهامات قاسم أمين، والطاهر الحداد، والأمير شكيب أرسلان، ومحمد عبده، وغيرهم بقيت، ومات كل من قال بتكفيرهم واختفى ذكره من الحياة، ومن الثقافة، فالطاهر الحداد، لا يزال يستعاد ولا يزال كتابه «امرأتنا فى الشريعة والمجتمع» يطبع كل عام تقريبا، فى بلد عربى، أو آخر.
«امرأتنا فى الشريعة والمجتمع» أشهر ما كتب الحداد، واختص بزاوية مهمة من زوايا النهضة العربية، التى كانت تشتعل كالنار فى الهشيم فى بدايات القرن العشرين، فى مصر، والعراق، ولبنان، وتونس والجزائر والمغرب، والسودان، فالطاهر الحداد يطور وضع المرأة التونسية، ومن ثم العربية، بهذا الكتاب التأسيسى، وعلى بن الرازق، ينسف مفهوم الخلافة فى مصر، التى كان يريد الملك فؤاد إقرارها بكتاب الإسلام وأصول الحكم، لكن أفكار على عبد الرازق، وإن ظلت حبيسة كتابه، فإن الثقافة المصرية حولتها إلى قضية عامة للنقاش، ونقطة ارتكاز فى تطوير المجتمع المصرى وثقافته، وحكوماته، ونضاله من أجل الدستور، وأفكار الطاهر الحداد تحولت إلى قانون نافذ يطبق على مواطنى تونس، حيث صدر بهذه الأفكار قانون الأحوال الشخصية فى تونس عام 1957م تضمن أهم أفكار الطاهر الحداد مثل: الإقرار بأهلية المرأة لتزويج نفسها مما يستحيل معه منعها من الزواج، أو تزويجها دون رضاها، وكذلك منع تعدد الزوجات إذعانا للشرط الإلهى بوجوب العدل واحتراما للجزم الإلهى باستحالته وسعيا لضمان استقرار الأسرة، وثالثا إقرار الطلاق القضائى حتى لا تطلق يد الرجل فى التطليق مع إقرار إجراءات مصالحة قضائية، وآجال تفكير، وذلك فى ثلاث حالات: التراضى بين الطرفين، ثم الضرر الواقع على أحدهما، وأخيرا طلب أحدهما التطليق من القاضى، وفى هذه الحالة على طالب الطلاق دفع الغرامة للطرف الثانى.
كل هذه الأفكار، وغيرها الكثير، تضمنه كتاب الطاهر الحداد:«امرأتنا فى الشريعة والمجتمع» الذى يشتمل على قسمين أساسيين الأول تشريعى والثانى اجتماعى، ففى القسم التشريعى، يرى الحداد أن الحقوق التى أعطاها الإسلام للمرأة لم تعد تتمتع بها وتمارسها بنفس الدرجة والمستوى اللذين وضع الإسلام المرأة فيهما، وأن الإسلام حينما شرع هذه الحقوق للمرأة لم يكن يريد أو يقصد أن يقف عندها، وإنما كانت غايته أن يمهد بها إلى المساواة التامة بين الرجل والمرأة، ولكن المسلمين بسبب ظروفهم التاريخية فيما بعد قد وقفوا فى طريق التطور، بل أرجعوا المرأة إلى الوراء، ومن أجزاء القسم التشريعى أيضا: الاعتبار الذاتى للمرأة، حيث خصص القرآن لها سورة طويلة باسمها «النساء» وذكرها فى آيات وسور متعددة، مبينا حقوقها، وواجباتها، وسواها فى ذلك بالرجل.
ثم حقوق المرأة المدنية، ومن هذه الحقوق التى يثبتها الحداد، حق الشهادة والقضاء، وقد اعترف لها الإسلام بذلك، وأفتى الإمام أبو حنيفة النعمان بجواز تولى المرأة القضاء، وقال الحداد إنه يستحيل أن يفتى أحد الأئمة الأعلام بهذا الأمر، وهو غير مقبول فى الإسلام، خصوصا أن الإمام أبا حنيفة كان قريب العهد بالصحابة، فلا يتصور أن يصرح بشىء يخالف الشريعة، أو يجتهد بما يناقض جوهر الدين وأصوله وأخيرا بقى فى القسم التشريعى من الكتاب مسألتان هما: أهلية التصرف، ومسائل الزواج، ففى أهلية التصرف قرر الإسلام للمرأة أهلية تخول لها حق التملك الشخصى، سواء عن طريق الميراث أو العمل كالرجل، كما جاء فى قوله تعالى:«للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن» أما مسائل الزواج، فقد أصر الطاهر الحداد على مجموعة من النقاط منها: حرية الاختيار بالنسبة للزوجين، ورفض تعدد الزوجات، وعدم تضرر أحد الزوجين من الزواج.
أما القسم الاجتماعى، فتحدث الحداد عن كيفية تثقيف المرأة لكى تكون زوجة وأما صالحة، وقسم هذا التثقيف إلى: صناعية ومنزلية وعقلية وأخلاقية، وزوجية وصحية، ووضع الحداد مخططا تعليميا، يستهدف تربية الروح الدينية فى المرأة المسلمة وتهذيب ذوقها وتكوين عقلها وتدريبه على الصواب، وتنشيطه بالألعاب الرياضية، وبقيت مسألة الحجاب والسفور، هى أجرأ آراء الحداد فى كتاب «امرأتنا فى الشريعة والمجتمع» حيث رأى أن سفور المرأة ضرورة لخروج المرأة من ظلمات عصور التخلف إلى نور التمدين الصحيح، إلا أن السفور عنده لا يعنى الخروج عن حدود اللياقة والأدب، وكشف الجسم والتجميل والتزين وإثارة الشهوات وحمل الأنظار على الاهتمام والتتبع، بل السفور وسيلة لتطوير المرأة المسلمة وإعدادها الإعداد اللائق الذى أشار إليه الإسلام وحدد إطاره ولاحظ أننا نتكلم عن سنة 1930م، وكانت تلك الأفكار تعد ثورة فكرية فى مجتمعها كما جرى مع قاسم أمين فى مصر، ومما قال الطاهر فى الحجاب.
ما أشبه ما تضع المرأة من النقاب على وجهها منعا للفجور، بما يوضع من الكمامة على فم الكلاب كى لا تعض المارين، وما أقبح ما نوحى به إلى قلب الفتاة وضميرها إذ نعلن اتهامها وعدم الثقة إلا فى الحواجز المادية التى نقيمها عليها، ونلزمها هى الأخرى أيضا أن تقتنع بما قررنا راضية بضعفها إلى هذا الحد، موقنة بخلوده الآتى من أصل تكوينها، وليس عند هذا الحد وقفنا، بل قد كان هذا النوع من الحجاب رخصة لخروجها من منزلها تقدر بقدر الضرورة الموجبة للخروج كموت الأقارب ومرضهم وما أشبه ذلك فى الأهمية، ولو أننا كنا نتأمل مليا نتائج هذا الضعف الذى نغذيها به فى حياتها وحياة المنزل وأبنائها والعائلة والشعب جميعا لأدركنا جليا أننا نهيىء شقاءنا وشقاء بيوتنا بأنفسنا.
ويرى الطاهر الحداد أن الحجاب عادة فى المدن والقرى، أما باديتنا على العموم فهى سافرة على الفطرة غير أننى كلما فكرت فى الحجاب لا أرى فيه إلا أنانيتنا المحجبة بالشعور الدينى كحصن تعتز له على المخالفين، لاسيما إذا رأينا أن هذا الشعور يتضاءل حتى يكاد يفنى فيما لا يتعلق به غرضنا وهوانا ويكفينا أن ننظر إلى زنى الرجل والمرأة كيف يعتبر منه جرأة واقتدارا ومنها سبته وعارا.
ثم يذهب الطاهر الحداد إلى مسألة اجتماعية تترتب على حجاب المرأة ولها أثارها النفسية على الرجل والمرأة معا:«إن الحجاب قد أوجد للرجال حياة خاصة خارج المنزل لا تعرفها النساء» و«إن حجاب المرأة من الرجل لم يمنع اتجاهما إلى جهات أخرى بتأثير العامل الطبيعى، بل قد كان من أهم العوامل فى انتشار اللواط والمساحقة والعادة السرية، وهذه مسائل معروفة منذ القدم، فقد دون لها فقهاء الإسلام أحكاما فى الفقه وأباتوا بذلك عن انتشارها فى عصورهم المتوالية إلى اليوم» ولا تنسى مرة ثالثة أننا فى عام 1930م.
أما عن السفور وكونه سببا للفجور، فيرى الطاهر الحداد:«نحن إذا رجعنا لأهم مثالب السفور عند أعدائه رأينا أنهم يعتبرونه مصدرا هائلا لانتشار الفجور، فتحه علينا اختلاطنا بالأوروبيين، بيد أن الفجور ليس أثرا يتولد عن الوجود السافرة وإنما هو أثر من آثار العوامل النفسية التى ليس من المعقول ولا من الحق أن نتجنب الحديث عنها عند كلامنا عن السفور، فإذا كنا نريد حقيقة طهارة المرأة ونطلبها طلبا صادقا ومنتجا فلنقاوم فجور الرجل، فنتجنب حوادث الغيرة التى ينكسر بها قلب المرأة بتجنب الزنى واللواط وتعدد الزوجات والزواج بالإكراه، وإطلاق يد الرجل بالطلاق دون حد أو رقابة عليه، فالمتذوقون لأصناف النساء والفارون من بيوتهم لعجز أو سوء استعداد للحياة الزوجية والمطلقون لأزواجهم بمحض الشهوة دون رضاهن وحتى دون علمهن أحيانا والمتاجرون بتزويج منظوراتهم والأغبياء الذين لا يفقهون السداد فى تزويج بناتهم ممن يشتهون هؤلاء وأشباههم كثيرون جدا بيننا ويا للأسف.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.