للمرة الثانية خلال ساعة.. تراجع كبير لسعر جرام الذهب عيار 21    رئيس صناعة الشيوخ يطالب بربط التنمية الزراعية باحتياجات القطاع الصناعي    صحيفة عبرية: إسرائيل تقرر خلال ساعات بشأن عملية برفح أو اتفاق مع حماس    كراسي وأحذية وسلاسل بشرية.. طرق غير تقليدية لدعم فلسطين حول العالم    إطلاق النار على فلسطيني في البلدة القديمة بحجة محاولة تنفيذ عملية طعن    مساعد وزير الخارجية الأسبق: الجهد المصري لا يتوقف لتهدئة الأوضاع في غزة    مقتل 4 ضباط أمريكيين في مواجهات مسلحة استمرت 3 ساعات في ولاية كارولينا الشمالية    تغطي أسواق 50 دولة.. رئيس الوزراء البيلاروسي يتفقد «الدولية للصناعات» (تفاصيل)    هل يرحل عواد وزيزو عن الزمالك؟.. حسين لبيب يُجيب    الهاني سليمان يجيب.. من يحرس مرمة المنتخب في غياب الشناوي؟    شوبير: لقب الكونفدرالية ينادى الزمالك ...وجوميز فى طريقه لأول بطولاته    الأهلي يواجه الجزيرة والزمالك مع الاتحاد في دور نصف النهائي بكأس مصر لكرة السلة    ضبط 31 طن دقيق مدعم قبل بيعها في السوق السوداء    «الداخلية»: ضبط شخصين لقيامهما بالإتجار في الأسلحة النارية بالفيوم    «الداخلية» تواصل الحملات على المخابز للتصدي لمحاولات التلاعب بأسعار الخبز    أول بيان من «الداخلية» عن أكاذيب الإخوان بشأن «انتهاكات سجن القناطر»    مستشار زاهي حواس يكشف سبب عدم وجود أنبياء الله في الآثار المصرية حتى الآن (تفاصيل)    فيلم يقفز بإيراداته إلى 58.6 مليون جنيه في 20 يوم.. تعرف على أبطاله وقصته    مفتي الجمهورية مهنئًا العمال بعيدهم: بجهودكم وسواعدكم نبني بلادنا ونحقق التنمية والتقدم    رئيس جامعة بني سويف يرأس اجتماع مديري الكليات    تكريم الطلاب الفائزين في مسابقة القرآن الكريم بجامعة قناة السويس    المهندسين تبحث في الإسكندرية عن توافق جماعي على لائحة جديدة لمزاولة المهنة    تراجع أرباح مصر للزيوت والصابون 70% خلال 9 أشهر    البنك المركزي يقبل سيولة بقيمة 667.250 مليار جنيه في ثاني عطاءات السوق المفتوحة بعد التعديل    خلال 24 ساعة من ضبط 10798 مخالفة مرورية متنوعة    18 مليون جنيه حصيلة الاتجار غير المشروع بالنقد الأجنبي خلال 24 ساعة    شركة إير فرانس-كيه ال ام للطيران تتكبد خسائر خلال الربع الأول    بتخفيضات تصل إلى 440 ألف جنيه..«كيا» تعلن عن اسعار «سبورتاج» في مصر    الموضوع وصل القضاء.. محمد أبو بكر يرد على ميار الببلاوي: "أنا مش تيس"    معرض أبو ظبي للكتاب.. ريم بسيوني ل الشروق: سعيدة بتكريمي.. والجائزة تفرض على الكاتب مسئولية كبيرة    رئيس جامعة بنها يفتتح معرض الزهور الأول احتفالا بأعياد الربيع    المصل واللقاح عن "استرازينيكا": لا يوجد سبب يدعو للتخوف أو التوتر    رئيس اللجنة العلمية لمكافحة كورنا يحسم الجدل بشأن حدوث جلطات بعد تلقي اللقاح    طلاب النقل الثانوى الأزهرى يؤدون امتحانات التفسير والفلسفة والأحياء اليوم    "صدى البلد" يحاور وزير العمل.. 8 مفاجآت قوية بشأن الأجور وأصول اتحاد عمال مصر وقانون العمل    بسبب ثوران بركان جبل روانج.. إجلاء آلاف الأشخاص وإغلاق مطار دولى بإندونيسيا    بروتوكول تعاون بين كلية الصيدلة وهيئة الدواء المصرية في مجالات خدمة المجتمع    اليوم.. آخر موعد لتلقي طلبات الاشتراك في مشروع العلاج بنقابة المحامين    سفير فنلندا في زيارة لمكتبة الإسكندرية    افتتاح المعرض السنوي لطلاب مدارس التعليم الفني بالقاهرة تحت شعار "ابدع واصنع"    دعاء آخر أسبوع من شوال.. 9 أدعية تجعل لك من كل هم فرجا    وزير الإسكان: نعمل على الاستثمار في العامل البشري والكوادر الشبابية    تأجيل محاكمة المتهمين بخطف شاب وإجباره على توقيع وصلات أمانة    "أسترازينيكا" تعترف: آثار جانبية قد تكون مميتة للقاح فيروس كورونا    طريقة عمل السجق بالبطاطس بمكونات سهلة وطعم شهى    مساعد وزير الصحة: قطعنا شوطًا كبيرًا في تنفيذ آليات مواجهة تحديات الشراكة مع القطاع الخاص    هل ذهب الأم المتوفاة من حق بناتها فقط؟ الإفتاء تجيب    مواعيد أهم مباريات اليوم الثلاثاء 30- 4- 2024 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    نيويورك تايمز: إسرائيل خفضت عدد الرهائن الذين تريد حركة حماس إطلاق سراحهم    موعد عيد شم النسيم 2024.. حكايات وأسرار من آلاف السنين    دعاء في جوف الليل: اللهم اجعل لي نصيباً في سعة الأرزاق وتيسير الأحوال وقضاء الحاجات    تصريح زاهي حواس عن سيدنا موسى وبني إسرائيل.. سعد الدين الهلالي: الرجل صادق في قوله    عفت نصار: أتمنى عودة هاني أبو ريدة لرئاسة اتحاد الكرة    إيهاب جلال يعلن قائمة الإسماعيلي لمواجهة الأهلي    ليفاندوفسكي المتوهج يقود برشلونة لفوز برباعية على فالنسيا    برج القوس.. حظك اليوم الثلاثاء 30 أبريل: يوم رائع    أخلاقنا الجميلة.. "أدب الناس بالحب ومن لم يؤدبه الحب يؤدبه المزيد من الحب"    أخبار 24 ساعة.. وزير التموين: توريد 900 ألف طن قمح محلى حتى الآن    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عبد الجواد ياسين :الليبرالية لا تبدو قادرة على مواجهة الأصولية الإسلامية

وسط عالم تتخاطفه الأحداث من كل جانب جاءت الحوارات , محاولة لترتيب أفكارنا والدوران فى فلك وعى جديد ,لعلنا نصل الى القدرة على اعادة التفكير فى الاسئلة المطروحة على الساحة العالمية.
فالحوارات التى نقدمها حول المستقبل بمثابة حفر معرفى فى أذهان النخبة العالمية الذين قبلوا بشجاعة تحدى الاجابة عن أسئلة محورية وشاملة حول الموضوعات الاكثر أهمية وحيوية على الساحة العالمية المعاصرة وارتداداتها على المحيط المصرى والعربى , ونتوقف عمدا عند محطات فكرية ذات دلالة فى السياق التاريخى والحضارى منها التجربة الديمقراطية... ونتاجات الحداثة... وحوار الحضارات والتعددية الثقافية فى مواجهة العولمة.... ولا يمكننا أن نغفل هذه الثلاثية التى تثير جدلا صعودا وهبوطا ,كرا وفرا ,وهى الدين بالمعنى العام ,والعلمانية ,والاسلام السياسى بوجه خاص . فجاءت حوارات المستقبل محاولة لقراءة هذا الوضع المتفجر بالاسئلة المتشابكة.باختصار هى قراءات متأنية فى زمن متعجل .
لم تكن رحلة «عبد الجواد ياسين « التى بدأت بموقف سلفى متشدد أبان عنه فى كتابه «فقه الجاهلية المعاصرة » , و أثار جدلا فكريا واسع النطاق أنذاك فهناك من انتقده ورأه مقلدا وآخر أيده وتصور انه عثر فى هذا الكتاب على بعث جديد لسيد قطب , واستكمالا لأطروحته معالم على الطريق , آنئذ جلب الموقف المتشدد والكتاب على عبدالجواد ياسين عذابات جمة لكنها لم تكن نهاية المطاف ,فالعقل اللامع والنزاهة الفكرية التى مثلت ضمير القاضى فى يوم ما , صارت عنوانه الفكرى الذى لا يغادره , وقد وضعه هذا الأمر أمام رغبة فى الانفتاح على العالم , روحا وثقافة , فكرا وكتابة ,بعد أن كسر أغلال السلفية المتشددة لعقود, ومن منطلق الحرية والمبدأ الأخلاقى بدأ القاضى المصرى عبدالجواد ياسين رحلته الاستكشافية للذات العربية والاسلامية من ناحية ,والروح الانسانية التى تنشد الحق والخير والجمال من ناحية أخرى ليقدم لنا «السلطة فى الاسلام: نقد النظرية السياسية» والذى تناول في الجزء الاول منه العقل الفقهى السلفى بين النص والتاريخ , وفى الجزء الثانى يرصد علاقة الدين بالسياسة , ليقدم رؤيته للفصل بينهما فى ظل واقع معاصر .
ثم يقدم لنا كتابه الأخير «الدين والتدين: التشريع والنص والاجتماع « ليعبر عن رؤيته فى التمييز بين الدين كقيمة خلقية مطلقة وبين أفعال المتدينين , بوصفها منهجا بشريا يصيب ويخطئ .
وقد أثار المفكر عبدالجواد ياسين فى السنوات الاخيرة انتباها عظيما الى عمق كتاباته وقوة حجته , تجلى ذلك فى منهجه الواضح ورؤيته الاستشرافية مما دعا الكثيرين للقول إن هذا الرجل جاء فى موعده , حيث أيقظنا من ثبات القراءات المتهافتة , التى تواردت علينا من دعاة الاسلام السياسى ومن يواليهم .من هنا يتأتى قيمة السؤال وتوقيته.
فى تصوركم لضرورة التمييز بين الدين والتدين .. تبدو العلاقة ملتبسة وغامضة .. ؟
ثمة معضلة تتعلق بالعلاقة بين الدين والاجتماع هذه العلاقة ضرورية ومتوترة في آن معًا.هي ضرورية لأن الدين كفكرة مطلقة لا يعمل إلا بالتمثل في العالم أي داخل الاجتماع، الضرورة هنا تتعلق بالمطلق أي « بالدين في ذاته» الذي تطلبه وتدركه الذات الفردية، أما التوتر فينتج عن « التدين» أي ممارسة الدين جماعيًا على نحو لا يتوافق مع طبيعة العالم. طبيعة العالم تقول بالتعدد و التطور، فيما نمط التدين يقول « بالحق الحصري» و « الحق المؤبد» والمعنى أن المشكل ليس في فكرة الدين في ذاتها بل في نمط التدين الذي ساد تاريخيًا.
..إذن «الدين والتدين والديانة « ثلاثية تطرحها عبر رؤيتكم الفكرية... ولكنها تتقاطع مع رؤى «ماركس «و«فيورباخ» ؟
توحيديًا، ومن زاوية العلاقة مع الاجتماع؛ الدين هو المطلق الكلي القادم من خارج الاجتماع لذلك، لا يتعدد ولا يتطور. والتدين هو ممارسات البشر المتعددة والمتطورة للدين في العالم أو داخل الاجتماع. أما الديانة فهي صيغة للتدين تكونت في سياق اجتماعي ( زمني جغرافي) خاص، صيغة تدين جماعي ملزمة ذات خصائص سلطوية، جرى تسييدها تاريخيًا كنمط حصري للتدين بفعل الحضور المبكر للمؤسسة الدينية وتداخلها العضوي والوظيفي مع الدولة. الرؤية التي أقدمها في التمييز بين الدين والتدين تفترض حضور الدين في ذاته، أي تثبت وجودًا عينيًا للمطلق خارج الذات، وهي بذلك مناقضة كليًا لرؤية ماركس وجزئيًا لرؤية فيورباخ. ولكن النقاش حول هذه الزاوية يخرج عن الشواغل المباشرة لهذه المداخلة. ( راجع كتابي الدين والتدين). بالنسبة لي: ثمة بالفعل منطقة اجتماعية ( من صنع الإنسان) داخل الديانة ولكنها لا تستغرق بنيتها الكلية التي تقوم أساسا على الإيمان بالمطلق اللا اجتماعي ( الله_ الأخلاق الكلية)، هذه المنطقة الاجتماعية ( الشق التشريعي السياسي الذي ألحقه التدين بالدين) هي سبب المشكل الذي يعاني منه الدين داخل الاجتماع بسبب قابليتها للصدام مع التطور.
..هل ثمة تعارض داخل بنية الدين ذاته؟
الدين في ذاته فكرة مطلقة، مفهوم البنية يتعلق بالديانة التي صنعها التدين التاريخي. هذا التدين، وليس الدين، هو طرف التعارض مع العالم.في مفهوم المقدس، حسب تاريخ التدين التوحيدي، يحضر معنى النفي، نفي الآخر، ويحضر معنى التضحية سواء بالنفس أو بالآخر ( الآخر مفهوم واسع لا يقتصر على غير المؤمنين بل يشمل أيضًا المؤمنين بطريقة مختلفة) الفكرة المحورية هي: أنا لا أملك الحقيقة فحسب، بل أمتلكها حصرًا . وهذا معنى الفارق بين المطلق في ذاته ( الدين) والمطلق داخل الاجتماع ( التدين) أما الديانة ( صيغة التدين الجماعي الملزمة ذات الخصائص السلطوية التي فرضت ذاتها كنمط حصري للتدين بفعل التداخل القديم بين المؤسسة الدينية ومؤسسة الدولة) فلأنها ترادف بين الدين والتدين فهي تلبس واحدية المطلق بكثرة الاجتماع، وهو ما ينتهي بها إلى موقف مكافئ لإنكار الكثرة أي إنكار الواقع. يعمل مفهوم المقدس من خلال مبدأي « النفي» و « التضحية» على تحفيز مبدأي « الحق الحصري» و « الحق المؤبد» وتكريسهما كمصدر دائم لتوليد التوتر والعنف داخل الاجتماع. فكرة النفي « المتبادل « تفسر ضرورة الصدام وفكرة التضحية « المتبادلة أيضًا» تفسر تصعيده إلى حد القتال والقتل.
أى صدام تراه بين الدين والحداثة ؟
في هذا التعارض المزدوج تكمن معضلة الدين الأصلية التي كشف عنها الصدام مع « الحداثة» المبكرة في الغرب المسيحي، والتي لا تزال تتفاقم مع تواصل التطورات « الحداثية» وامتدادها إلى الشرق الإسلامي، بالطبع كان التعارض «هناك» منذ البداية ولكنه ظل محجوبًا خلف ستار الهيمنة الطاغية للدين على المجال الاجتماعي طوال العصور السابقة على الحداثة، وهو سيظل باقيًا طالما ظل نمط التدين السائد سائدًا. المشكل إذن هو مشكل التدين مع الزمن الاجتماعي أي مع الحداثة بالمعنى المطلق ( كل راهن أني مقابل ماضيه) وليس فقط مع الحداثة بالمعنى الاصطلاحي « التنويري» الذي يشير إلى حقبة زمنية أوروبية بعينها. (بالمعنى المطلق ما بعد الحداثة حداثة، و بالمعنى الاصطلاحي ما بعد الحداثة نقض لمصادرات التأسيس العقلية والأخلاقية التي انبت عليها الحداثة بما في ذلك موقفها المخاصم لفكرة الدين).في الصدام المبكر مع الحداثة الغربية تراجع الدين أمام « العلم» و « العلمانية» كاشفًا عن مساحة واسعة كان يهيمن عليها في المجالين العام والخاص، وهي المساحة التي أعيد احتلالها من قبل الدولة والأفراد. كشف العلم عن هشاشة الأسس التي بنى عليها الدين سلطته المعرفية خصوصا فيما يتصل بالطبيعة، فيما أكدت العلمانية _ فعليًا_ على الطبيعية التاريخية لشقة الاجتماعي (التشريعي- السياسي). في غضون ذلك كان « المجتمع» يتطور من مفهوم طبيعي خام إلى مفهوم « قانوني سياسي»و ظهر مصطلح « اجتماعي» كمجال مقابل للمجال « الديني « وأيضا للمجال « العقلي» الذي ظل موصولًا بالتقليد اليوناني. برزت الوضعية الاجتماعية مع «كونت» كمنهج تفكيري يعكس فكرة الاهتمام المتزايد بالعالم الأرضي، ويريد قراءة الاجتماع بآليات التجريب العلمي، أي كمنهج مقابل للمنهج الديني» التسليمي» من جهة، وللمنهج العقلي « التأملي» من جهة ثانية. ونتيجة لذلك جرى سحب الموضوع الديني خارج دائرة الاحتكار الثنائي ( اللاهوت_ الفلسفة) وتحويله إلى مبحث سوسيولوجي انثر بولوجي، وهو ما فرض على الدين الدخول إلى منطقة نقاش مختلفة، والحوار مع طرف مقابل، ينطلق _ على خلاف الفلسفة_ من أرضيه أنطلوجية مغايرة، ما يعني توسيع نطاق الجدل حول السلطة المعرفية للدين من دائرة الطبيعة التي يشتغل عليها العلم، إلى دائرة الإنسان الواسعة التي صار يستهدفها علم الاجتماع. وفي غضون ذلك ظهرت الأيديولوجيا.
هل يمكن توظيف الايديولوجيا لخدمة الدين... ؟
يمكن الربط بوضوح، بين ظهور الايديولوجيا وأزمة الدين التي بلغت ذروتها في القرن التاسع عشر الأوروبي، كما سيمكن الربط لاحقًا، لكن بوضوح أقل، بين الظهور الجديد للدين وأزمة الأيديولوجيا التي بلغت ذروتها في نهاية القرن العشرين.قدمت الأيديولوجيا ذاتها _ فيما يفهم البعض_ كبديل تعويضي عن الدين، خصوصا في شقه الاجتماعي الدنيوي ( السياسي التشريعي )، فهي معنية أولًا: بمشاكل الإنسان على الأرض التي ساهم الدين في تكريسها ( الخلل الاقتصادي السياسي الاجتماعي المرتبط بوضعيات استغلال واستبداد) وليس في السماء، وهي معنية ثانيًا: بأن تنبع حلول هذه المشاكل من الإنسان ذاته أي من داخل العالم لا من خارجه. وعلى ذلك فهي_ كالدين_ تقدم وعدًا بحياة ثانية (أخرى) أفضل من الواقع ولكن هذه الحياة ليست مؤجلة لملكوت السماوات كما في الدين، بل ممكنة للتحقق على الأرض في المدى المنظور وفق قوانين نابعة من الاجتماع ويمكن تحفيزها بالعقل والجهد البشريين. منطقه الاجتماعي (السياسي التشريعي) هي، إذن، منطقة مشتركة يتقاطع فيها الدين مع الايديولوجيا، وفيها يشتغل التنافس الذي يسمى غالبًا علاقة الطرفين. ويتنامى الوعي في الدراسات المعاصرة بمساحة التشابه بينهما في الخلفية النظرية ليس فقط على مستوى الغايات التي تبشر بنوع من الحياة الثانية بل أيضًا في بنيوية الاعتقاد وآليات تفعيله ومن هنا استطاعت الأيديولوجيا _بحسب البعض_ أن تلعب دورًا تعويضيًا بالحلول محل الدين أو تتميم وظائفه. ومن هنا أيضًا كان تفكك المنظومات الأيديولوجية يعني استعادة الدين للمساحة التي كان يمتلكها من قبل داخل الاجتماع،بوجه عام يبدو موقف الدين حيال الايديولوجيا أكثر تشددا من موقف الايدلوجيا حيال الدين .
إلى أي مدى يمكن القول إن الأصولية الإسلامية ظاهرة أيديولوجية؟
إذا كان كل تدين ينطوي على قطعة من الأيديولوجيا ( فكر اجتماعي تاريخي) تبدو الأصوليات الدينية المعاصرة ( الإسلامية كنموذج بارز) ظواهر أيدلوجية خالصة، من حيث هي تمثل حالة التجلي القصوى للشق الاجتماعي التاريخي من التدين. فنشاطها ينصب أساسًا، أو يكاد ينحصر في استهداف المجال العام (السياسي التشريعي)، وجزئيًا في الشق السلوكي الشكلي من المجال الخاص. لذلك يغلب الفقه على تكوين البنية « النظرية» وأغراض الخطاب ذات الطابع العملي، مقابل غياب لافت للجانب الروحي الأخلاقي، وتأخر نسبي للاهوت المحض، الذي يتراجع إلى وضعية ثانوية- غير معلنة وربما غير واعية- ضمن المشروع العام الذي يعبر في الواقع عن حالة اجتماعية سياسية ( راجع كنموذج الموقع الذي يحتله اللاهوت والروح الأخلاقي في بنية الأصولية الصهيونية مقابل الأغراض السياسية القومية. وهي ظاهرة تمتد إلى بنية الديانة اليهودية، حيث تداخلت العقائد _ منذ البداية_ بالوضعية الجيوسياسية للشعب العبري وعلاقته مع الأغيار، وحيث احتلت الشريعة ( القانون_ الفقه) موقع الصدارة. لاحقًا وبانحسار الدور التقليدي للدولة ( السنية عادة) سيتزايد حضور الفقه كمنظومة نظرية تؤدي دور المؤسسة المعنوية. ومع التطورات المتأخرة الناجمة عن الاحتكاك بالغرب اكتسبت الدولة طابعًا علمانيًا على مستوى الأطر الشكلية للسلطة، ولكن ذلك لم يكن مصحوبًا بتطور مماثل على مستوى المجتمع، ولذلك ظلت تمارس _ لأغراض عميلة وبصور محسوبة لا تقدح في علمانيتها الشكلية_ صيغة المؤسسة الحارسة للدين. أما المنظومة الفقهية التي تحولت إلى هيئات إدارية داخل جهاز الدولة، فظلت تمارس_ باسم الدولة_ صلاحية الفتوى في المجال الخاص الشخصي، إضافة إلى الصلاحيات الطقوسية وبعض الوظائف التعليمية. لا ينطبق هذا تمامًا على المسار الذي اتخذه الإسلام الشيعي، بسبب العوامل السياسية والكلامية التي وجهت هذا المسار بعيدًا عن مؤسسة الدولة الرسمية. كي يطور من خلال فكرة الغيبة والنيابة عن الإمام بنية تنظيمية ذات طبيعة مؤسسية لا يعرفها النظام السني.
كيف تتفاعل الأيديولوجيا المعاصرة مع الأصولية الإسلامية؟
تيارات الأيديولوجيا العلمانية المتنوعة من أقصى اليسار الماركسي إلى أقصى اليمين الليبرالي لا تبدو قادرة على مواجهة الأيديولوجيا الإسلامية التي تعبر عنها الأصولية في الوقت الحاضر. ففضلًا عن الضعف الأصلي (البنيوي) الذي تعاني منه هذه التيارات على مستوى الحضور السياسي والشعبي، ترتد عليها أصداء التراجع الأيديولوجي الذي نظر له الفكر ما بعد الحداثي مبكرًا قبل أن يعلن عن ذاته عمليًا بسقوط الصيغة الاشتراكية التي فشلت في تحقيق وعد التقدم، وبترنح الصيغة الليبرالية التي تواجه اتهاما بالمسئولية عن النتائج السلبية للعصرنة على مستوى الروح والعقل والتوزيع الاقتصادي.يتعاطى الجميع مع الأصولية كظاهرة اجتماعية سياسية صريحة. وهذا صحيح، ولكنه غير كاف لأنه لا يؤدي إلى توجيه النظر إلى نقطة التصويب الصحيحة. أعني لا يصل بالمواجهة إلى السبب الأول. فرغم أن الأصولية بالدوافع وآليات الحركة وتقنيات الخطاب هي ظاهرة حداثية بامتياز، إلا أنها تصدر في الواقع عن خلفية نظرية وجدانية تمتد عميقة في البنية الأصلية لنمط التدين السائد. الأصولية. ككل ظاهرة. شديدة الاتصال بظروفها الاجتماعية المزامنة، ولكن تكرار ظهورها في سياقات تاريخية وجغرافية ودينية متباينة ( في اليهودية القديمة- في مسيحية العصور الوسطى_ في الإسلاميين المبكر والوسيط) يلفت إلى عناصر كامنة في الثقافة المشتركة لنظام التدين، مدعمة نصيًا أو تأويليًا على مستوى كل ديانة، تعمل على تمديد قابلية مستمرة لإفراز التطرف والعنف، وهي مرشحة للتحول إلى أشكال متنوعة من الفعل استجابة لمثيرات مختلفة في الواقع الاجتماعي. نقطة المواجهة اللازمة إذن هي نظام التدين. ذلك النظام الموروث من التجربة العبرية القديمة التي كرست من خلال المؤسسة مفهوم الخلط بين الدين والتدين، فمزجت بين الفكرة المطلقة والممارسة الاجتماعية التاريخية، وأسبغت على الممارسات قداسة الفكر وإلزاميتها المؤبدة، واصطنعت لذلك مفهوم « النص» كآلية ثابتة يمكن من خلالها تسكين مفاهيم التدين في خانة المقدس ( التي تستدعي التضحية بالنفس والآخر).الظاهرة الأصولية لا تستغرق الحالة الإشكالية الإسلامية، ولكنها ربما تلعب دور المثير الاستفزازي الذي يفرز أسوأ ما في التدين وهو الدور ذاته الذي لعبته الكنيسة في الحالة المسيحية الغربية.ثمة مستويات من الأداء « العلماني» كلاهما لا يواجه أصل المشكل:الأداء العلماني المتطرف، وهو غالبًا، لا يزال أسيرًا لمفاهيم الحداثة الكلاسيكية ( الأنوارية)، ينطلق من موقف رافض لفكرة الدين ذاتها، بمعنى أنه. كالعقل الديني ذاته لا يفرق بين فكرة الدين المطلقة التي يصعب على أرض الواقع إنكار قوتها الإيمانية الأخلاقية ذات الحس الإنساني، وبين ممارسات التدين التي يمتنع قبولها بمقاييس العقل العلمي، أو يصعب الإقرار بسلطتها المؤبدة في الميدان الاجتماعي التشريعي المتحرك بطبيعته.رفض فكرة الدين في ذاته يؤدي، لا شعوريًا إلى حجب جزئي للصورة الواقعية التي تشير إلى بقاء الدين وصموده في مواجهة التطورات الحداثية ( الذي بقى من الدين بعد معركة الحداثة في الغرب هو شقه المطلق: الإيمان الأخلاقي)، ويؤدي لا شعوريًا أيضًا، إلى قراءة هذه الصورة تحت سيطرة فكرة مسبقة، ( وهو ما صار ينتبه له الفكر ما بعد الحداثي الذي استمر في موقفه النقدي من الدين بمنهجية مختلفة). ولكن الأهم أن فكرة رفض الدين في ذاته داخل المحيط الإسلامي لم تدفع العلمانية المتطرفة إلى دخول المنطقة الحساسة ( نقاش موضوعي علمي بخصوص الإسلام حول معضلتي التنوع والتطور). العلمانية المعتدلة ( التي تسلم بحضور الدين بعد تفريغه من حمولته السياسية) لا تبدو بدورها قادرة على اختراق المشكل. لأنها في الشق الديني الذي تستبقيه تنتمي إلى نظام التدين الموروث ذاته، ومن ثم تقبل بإلزامية التشريع الاجتماعي الذي يفرضه التدين باسم الدين الأمر الذي ينطوي في حد ذاته على تناقض نظري، لأن تفريغ الدين من حمولته السياسة لا يستقيم مع التسليم بإلزامية التشريع الديني. وهذا يفسر الاضطراب الواضح في الأداء العلماني حيال الحالة الإسلامية المتصاعدة على المستويين النظري والسياسي. ( كمثال مباشر: تسلم القوى العلمانية في مصر للقوى الدينية بمطلب « الشريعة» وفيما هي تنكر صراحة على الدين أن تكون له علاقة بالدولة أو بشكل نظام الحكم، تضطر لممارسة الكثير من الالتواء والالتفاف بما في ذلك استخدام آليات دينية منظومية لإنكار أو تعطيل أحكام تشريعية منافية لقيم الحداثة العلمانية مثل بعض الأحكام المتعلقة بالمرأة أو حقوق الأقليات الدينية. هذا المنهج يحصر مفهوم السياسة في دائرة نظام الحكم ويستبعد التشريع الاجتماعي الذي هو موضوع الحكم وصلب المجال العام الذي تنزع الدولة ( الطبيعية) لامتلاكه. وهذا الأداء في مجمله لا يشير إلى مناورة مرحلية تنافق المد الإسلامي وتستهدف تحييده سياسيًا بقدر ما يشير إلى تصور( لا شعوري ربما) لعلاقة الدين بالتشريع، تصور لا يزال يحتوي على الهيبة المزمنة التي تمنع من اختراق أصل المشكل.
ماذا عن مستقبل الدين ..ما الذي يعنيه طرح هذا السؤال الآن ..وهل سنظل نحمل القلق على مصير الدين من التراجع - حسبما تنبأ فلاسفة الاجتماع الكلاسيكيون من كونت وماركس إلى دوركايم وفيبر- أم على العكس من ذلك نحمل معنى القلق من تصاعد الدين وتوغله على حساب الدولة والحرية الفردية ومكاسب العقل كما يوحي المشهد الاجتماعي والسياسي الراهن في المحيط العربي الإسلامي؟
هذه الصياغة المزدوجة للسؤال تلفت الانتباه إلى سياقين تاريخيين مختلفين بقدر ما تلفت الانتباه إلى «الدين» كنسق اعتقادي ومعرفي مشترك. كلا السؤالين مبرر في سياقه، لأن كل سياق ينتج سؤاله الخاص، ولكن كليهما سيفضي بنا إلى قانون عام واحد يفسر علاقة الدين بالاجتماع في الزمن. لم يتعرض الإسلام في محيطه الإقليمي بعد، أو لم يتعرض بذات الدرجة من القوة للصدام مع سؤال التطور كما تعرضت له المسيحية الغربية قبل ثلاثة قرون، ولكنه لم يسلم تمامًا من نتائج الصدام الذي كان في أحد جوانبه موجهًا إلى فكرة الدين في ذاتها.خسارة اللاهوت، ممثلا في الكنيسة، لموقع السلطة لم تؤد قط إلى زوال الدين، فمع جسامة التطور في الهياكل الكلية بما في ذلك منهجية التعقل وسيادة العملانية العلمية، ظلت فكرة الدين حاضرة وبقوة:ثقافات التدين التاريخية واصلت تمددها وانتشارها على نطاق واسع، ليس فقط داخل الأوساط العامية، بل داخل القطاعات التي تنتمي إلى التفكير العلمي، وعادت إلى التعبير عن ذاتها من خارج المؤسسة الرسمية في أشكال أكثر تشددًا، فيما أبدت المؤسسة الرسمية مرونة لافتة أسفرت عن عمليات متعددة لإعادة التكيف مع الهياكل المتطورة ( سنقارن لاحقًا بين مرونة الكنيسة الغربية بفرعيها الكاثوليكي والبروتستانتي حيال التطور الجسيم في الهياكل الكلية، وبين مرونة المؤسسة الإسلامية (المعنوية) التي تعرضت لمؤثرات تطور أقل جسامة).الفكر الاجتماعي المعاصر رصد تواصل الظاهرة الدينية على المستوى العامي الذي تحتضنه المؤسسة، وتوقف بوجه خاص أمام صور التجمع الجديدة التي تعمل من خارج إطار المؤسسة في شكل حركات سياسية. يتعدد ظهورها في سياقات اجتماعية وثقافية متباعدة. بوجه عام يقر الفكر الاجتماعي المعاصر بحضور الدين كظاهرة عميقة الجذور داخل الذات الفردية والاجتماع العام، وبكونها غير مرشحة للتلاشي في المستقبل المنظور. لاحظ هابرماس « أن فكرة المراهنة على اختفاء الدين بتواصل الحداثة بدأت تتآكل « وتحدث عن ظهور عالمي جديد للدين» تبدو مؤشراته في تزايد النشاط التبشيري، والراديكالية الأصولية، والتوظيف السياسي للعنف الكامن في الكثير من ديانات العالم. تراجع الدين في البداية أمام صدمة الحداثة، مما كانت ترجمته تقلص سلطته التقليدية في المجال العام. ثبات الدين بعد ذلك، واستمراره في الحضور، رغم تواصل صدمات الحداثة، وخلافًا لنبوءة الزوال. التصاعد الجديد للدين فيما يشبه الهجوم المضاد، في صيغ تستهدف استعادة المجال العام ( السياسي خصوصًا)، وتعبر عن ذاتها بعنف.
أى مستقبل إذن ..ينتظر الحداثة والدين ؟
في الفكر الغربي الحداثة مصطلح قادر على تفسير الظهور الجديد للدين، وتفسير السمات والظواهر المصاحبة لهذا الظهور ( الشكل الأصولي السلفي- التأكيد على الوظيفة العمومية ذات النزعة السياسية- العنف الذي سيكتسب وصف الإرهاب).
ولكن مدلولات « الحداثة» ستتنوع حسب السياق: فبالنسبة لكازانوفا( Public Religions in the Modern World” 1994)- الذي كان يناقش نزوع الدين للعودة إلى الشأن العام- الديانات الكبرى تسعى لاعتراض سياق التهميش الذي تعرضت له من جراء سطوة العلم ومن جراء تدخل الدولة الحديثة، ولذلك فهي ترفض حصر مجال نشاطها في العناية بالأرواح، وتحاول إبراز التواصل المتين بين أسئلة الدين الأخلاقية والحياة الاقتصادية والسياسية للأفراد والدول. يقر هابرماس بمسئولية نسبية تقع على عاتق الحداثة ( ممثلة في الأداء السياسي والأخلاقي العام للغرب)، ولكنه يصف الأداء الأصولي كما كشفت عنه « الهجمات الإرهابية في الحادي عشر من سبتمبر 2011 بأنه لا ينطوي على مجرد عنف، بل يشير إلى لا عصرية أو عدم انتماء لمحركات فهم وتصور راهن، فهي أشبه ما يحكي قصة من التاريخ الغابر نسبة لدوافعه. ومن ثم فهي تلفت إلى شرخ هائل بين الثقافة والمجتمع والزمن ( مستقبل الطبيعة الإنسانية).


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.