«راحوا الحبايب» أحمد عدوية كلمات: حسن أبو عتمان ألحان: حسن أبو السعود (1) قالت لي الجدة عبر الهاتف: - كده برضه يا ابن الكلب! كانت صادقة تمامًا، وبعد فترة فهمت لماذا كان العتاب قاسيًا هذه المرَّة. (2) يحتل بيت الجد مكانًا مميزًا في البلدة التي تبعد عن المدينة مسافة ساعة، لكن بيت الجد كان يسبق البيوت المجاورة له بعشرات السنين، بأن كان أول من أدخل الكهرباء، وأول من امتلك ثلاجة. في منتصف نهار رمضاني قاسٍ، كان الخال مسترخيًا على أريكة عريضة يتصبب منه العرق، بينما أنا على أريكة مقابلة أجلس بملابسي الداخلية طفلًا أعيته الحرارة العالية، ويعد الساعات المتبقية على أذان المغرب. بينما صوت أحمد عدوية ينبعث من كاسيت قريب من الخال، كانت أذني معلقة بباب البيت في انتظار أن أسمع شخصًا يصفق. كانت تلك الإشارة تعني أن أحد أبناء البلدة على الباب يحمل إناء من المعدن أو البلاستيك يفيض الماء من حافته، وكل ما عليَّ أن أستلمه لأضعه في ثلاجة البيت، تحديدًا في الفريزر، حتى يتحول إلى ثلج يمر صاحبه قبل المغرب بدقائق لاستلامه، وكان عليَّ أن أميز صاحب كل إناء. كان هذا هو الدور الذي حددته لي الجدة من بين أدوار مختلفة يقوم بها كثيرون حولها في رمضان. كان جزء من مهمتي أيضًا ترتيب الفريزر بما يسمح باستيعاب عشم أهل البلدة في الحصول على الثلج، كان شرط نجاح المهمة كما أفهمتني الجدة ألا يعود أحدهم إلى بيته «على المغرب» مكسور الخاطر أو كل ما يحمله بعض الماء المثلج فقط لأن لا مكان له في الفريزر، ولم يحدث أن خذلتها. كان صوت عدوية قادمًا من الكاسيت يغني: «راحوا الحبايب». قلت لخالي إن الأغنية غريبة جدًّا ولا تشبه ما يمر بالواحد من أغاني. فقال لي فرحًا: - أصل دي أغنية شعبي. قالها بطريقة أوقعتني فورًا في غرام «الشعبي»، وجعلتني أفتش عنه طول الوقت. صفق أحدهم فنزلت له، أعطاني كوبًا بلاستيكيًّا أحمر اللون مليئًا بالماء ومعه شيء ما ملفوف في ورق الجرايد، عندما فتحت الجدة اللفة كانت تحتوي على قطع من القماش رفيعة وطويلة من ألوان مختلفة كان باديًا أنها من مخلفات الحياكة، قطع أشبه بتلك المستخدمة في صنع الكليم اليدوي. سألت الجدة عن الغرض منها فقالت لي: - ملكش دعوة شوف اللي وراك! قبل المغرب بقليل يبدأ عمل بقية الفريق. يتجهون إلى المندرة، هناك من ينظف المكان، وهناك من يستخدم الخرطوم لرش أرضية المدخل لترطيب الأجواء والقضاء على أي فرصة لإثارة الأتربة، هناك من يعد منضدة الطعام بأن يمر بالجدة لاصطحاب الأطباق والمعالق وأرغفة الخبز الشمسي موضوعة في قفة ومغطاة بفوطة نصف رطبة، وهناك من يساعد المقرئ المقيم في المندرة طوال الشهر على غسل وجهه وارتداء ملابسه. يأتي المقرئ من بلدة بعيدة ليقضي الشهر في المندرة، يؤنسنا كل ليلة بتلاوة القرآن؛ مشهد توارثته الأجيال منذ أقيمت هذه المندرة على ضفة النيل الشرقية أيام كان النيل يمر من هنا. بعد السد العالي انحسرت المياه عن هذه المنطقة، ولم يتبق سوى كوبري خشبي تمر فوقه صواني طعام الإفطار لتستقر أمام رجال العائلة وضيوفهم في المندرة. يبلغ توتر الجدة أقصاه قبل خروج الصواني من عندها، تضع فوق الصينية كل شيء ما عدا طواجن اللحم والطيور، تتركها في الفرن البلدي حتى آخر لحظة حتى لا تفقد طزاجتها ودرجة سخونتها، تختبر بطرف لسانها ملح كل طبق، ودرجة تحلية المشروبات، ودرجة تماسك حبات الأرز، تختبر إحدى حبات الفريك بإصبعها لتتأكد من تمام نضجه، وتطمئن لوجود لونين مختلفين من الخضراوات (الأحمر والأخضر) مراعاة لأذواق الجميع، تضع في جيب من يحمل الصينية صابونة ريحة بورقتها وتضع فوق كتفه مناشف مشغولة أطرافها بالدانتيل. أما الحلوى فلها صينية بمفردها، قبل خروجها ترفع الجدة الغطاء عن طبق بلح الشام لترش على وجهه بعضًا من جوز الهند، ثم ترفع الغطاء عن «فطيرة الصينية» لتقطعها مربعات صغيرة يسهل التهامها على مرَّة واحدة، وتعتذر في كل مرَّة عن أن الوقت لم يسعفها لعمل صنف ثالث، على وعد أن يكون في قلب الصينية غدًا، لم يحدث يومًا ما أن أخلت بوعدها. بمرور الوقت يكبر الواحد، ويتذكر كل فترة الفرص التي أضاعها والتي لن تتكرر. غصة ما ترقد أسفل السؤال: لماذا لم أفعلها؟ انقضت رمضانات كثيرة لم أفكر يومًا أن أتخلى عن مشوار المندرة لأفطر مع الجدة. (3) قال لي المخرج: - من الذي ترشحه لغناء التتر الذي ستكتبه للمسلسل؟ قلت له: - سأكتب أولًا ثم نستقر على ملحن، بعدها نختار المطرب معًا. قال المخرج: - نريد مطربًا غير تقليدي. اعتبرتها أمنيات من التي تقال في اجتماعات العمل وينتهي بها الأمر في مجال الاختيارات التقليدية. بعد أن استمعنا إلى لحن الأغنية، كرر الملحن السؤال نفسه عن المطرب الذي أرشحه، قلت له: - عدوية. لا أعرف ما الذي دفعني لذلك. صفق الملحن كثيرًا للاختيار، وكان باديًا في عينيه أن الاختيار معجزة. في الاستوديو عرفت سر تلك النظرة. كنت أقصد وقتها «محمد عدوية الابن»، لم يأتِ في بالي أحمد عدوية الأب، لأنه كان بعيدًا تمامًا عن الغناء، ولا يظهر في أي مكان، كنا جميعًا قد اعتبرناه في عداد المعتزلين. وصل الأب مع الابن، وفرحت لرؤيته، انتظرت أن يدخل الابن في أي لحظة ليقف أمام المايك ليغني، لكن عندما وجدت الأب هو من يقف ليغني فهمت أن الملحن قد أحب الاختيار لأنه لم يأتِ من قبل في بال أي من المشتغلين في الموسيقى، ولا حتى بالي أنا شخصيًّا. كانت البداية متعثرة قليلًا؛ لم يندمج عدوية مع اللحن بسرعة، ربما لغيابه عن الملاعب. كان الملحن ذكيًّا، طلب من عدوية أن يسلطن نفسه بغناء موال فتتخلص حنجرته من التوتر ويدخل في المود. استحسن عدوية الفكرة ثم بدأ يغني: «راحوا الحبايب». (4) كانت الجدة تمر بالصالة أثناء تكومنا أنا والخال على الكنب أسفل المروحة، لتلتقط أنفاسها، وتجفف عرقها، وتراجع ما ينقص الإفطار الذي تقوم بتجهيزه. في إحدى المرات طالت جلستها، كان عدوية يغني: راحوا الحبايب بقالهم عام والتاني ويوم ييجي عقلي في راسي ويوم بيتوه والقلب خدتوه ومن يومها ما جاش تاني راحوا راحوا لاحظت أن الجدة تجفف دموعها دون أن ترفع نظارتها الطبية عن عينيها. لفت ذلك نظر الخال فسألها عن سبب بكائها، فقالت: - أهو بابكي مع اللي بينوح ده على الحبايب اللي راحوا! ثم صمتت قائلة: - عقبال ما أروحلهم أنا كمان! رد الخال مداعبًا إياها: - إن شاء الله. فخلعت ما في قدمها وقذفت به الخال قائلة: - يا جليل الرباية! فانفجرنا في الضحك. فقدت الجدة ابنها الكبير شابًّا في حادثة، ثم رحل زوجها بدون مقدمات، وعلى هامش الابن والزوج كانت تفقد كل عام أختًا أو ابن أخ، لم ألمحها يوما ترتدي غير الأسود داخل البيت أو خارجه، إلا مرَّة واحدة عندما كانت في طريقها إلى العمرة. مرَّة أخرى لمحت دموعها، كانت ممسكة بشرائط القماش الرفيعة الملونة وهي تعقد أحدها بالآخر، لكنها سرعان ما طلبت مني أن أخرج. في الليل يتناول المقرئ سحوره بمفرده، تذهب له صينية تحمل الفول والبيض بالسمن البلدي وملحقات السحور من جبن قريش وزبادي منزلي، ونسهر أنا والخال والجدة نتناول سحورنا ونناقش «منيو» اليوم التالي. بعد أيام تنضم إلينا أصغر واحدة من خالاتي قادمة من الكويت، فيشيع في البيت جو من المرح والنشاط، ويصبح لدى الجدة من يؤنسها ويمنحها الفرصة لتجلس واضعة ساقًا فوق ساق مكتفية بإصدار الأوامر. كانت الخالة تحمل للجميع هدايا مختلفة من الكويت، لكنها كانت تخص الخال بشرائط الكاسيت وفي مقدمتها عدوية. وقعت في غرام عدوية مبكرًا، وصرنا أنا والخال نتبادل اكتشاف أغنياته وألبوماته التي لا يعرفها كثيرون. عندما وقع الحادث المشهور لعدوية أصبت بصدمة تتلاءم مع عقلية مراهق صغير لم يختبر حوادث من هذا النوع. وقعت في يدي مجلة بها حوار مع عدوية بعد الحادث بشهور، كان يقول في الحوار: - سأرد على المشككين في رجولتي بإنجاب محمود. قلت للخال إن مطربنا المفضل ضاع. قال لي: - اكتب له رسالة. كتبت الرسالة، وعندما جاء موعد كتابة العنوان على الظرف لم أعرف له عنوانًا، فأرسلتها على اسم الصحفي الذي أجرى الحوار وعنوان مجلته: «إلى الأستاذ محمود الجمل، ومنه إلى الفنان الكبير أحمد عدوية». كتبت له أننا نحبه ونتمنى له الشفاء والعودة سريعًا. أخبرت الخال بما فعلته فاندهش قائلًا: - أنا كنت باهزر! (5) غنى عدوية، وبينما يضع لمساته الأخيرة على الأغنية، انتحيت جانبًا بالتلفون وهاتفت خالي لأخبره بأن مطربنا المفضل يغني كلماتي الآن في الاستوديو. لم يصدق، قلت له: - تكلمه؟ بعد أن أنهى عدوية الكلام مع خالي أعاد لي التلفون وسألني: - إيه موضوع الجواب ده؟ (6) كلما كبرت يقل عدد أيام رمضان التي أقضيها في بيت الجدة؛ بدأت بالتواجد قبل رمضان بشهر إلى أن أصبحت ألحق بآخر يومين في الشهر قادمًا من القاهرة. هاتفتني الجدة طالبة مني أن أحضر الشهر من أوله هذه المرَّة وأكدت على طلبها، وعدتها أنني سأفعل قائلًا: - عايزاني من أول الشهر في إيه؟ ما خلاص راحت على تلاجتك! أصبح في كل بيت في البلدة ثلاجة، ولم يعد هناك أحد بحاجة إلى ثلاجة الجدة، لكن ظل الجميع ينتظرون رمضان ليتذوقوا طعامها. بخلاف رمضان كانت تود كل بيت بالطبق المفضل لدى أهله كل فترة. عندما تشعر بالتعب كانت تدعو: «يا رب يوم عليل ويوم رحيل». كان دعاؤها المفضل ألا ترقد في فراش المرض أكثر من يوم إذا حان أجلها لترحل في اليوم التالي. قبل رمضان بيوم تعبت فنقلوها إلى المستشفى، كلمتها عبر هاتف أمي لأطمئن أنها بخير، قالت: - كده برضه يا ابن الكلب! فهمت أنها طلبت مني الحضور مبكرًا لكي تودع أكبر أحفادها، مدير الثلج، لأنها حسبما تمنت قضت «يوم عليل» في المستشفى، ثم رحلت في اليوم التالي، وكان أول يوم رمضان. (7) نجح تتر المسلسل، وعاد عدوية إلى الأضواء بقوة. تأكد الجميع أنه بخير وقادر على الغناء من جديد فلهثوا خلفه من جديد. صار يطل من البرامج والكليبات والإعلانات. كان خالي يداعبني قائلًا: - إنت اللي رجعته. أقول له: - إنت اللي حببتني فيه. أذكره يوم أن بكت الجدة، يتنهد ويصمت. بعد رحيل الجدة تولت الخالة الصغيرة مسؤولية إفطار المندرة، كانت تلميذة نجيبة أدهشت رجال العائلة الذين قالوا إن الجدة لم تغب. ثم غابت الخالة، ورأيت الخال يبكيها بحرقة أمام قبرها، وبعد رحيل الخال لم تتوقف صواني الإفطار عن التحرك باتجاه المندرة لكن خارجة من بيوت أخرى غير بيت الجدة. (8) كرة من القماش الملون كانت مخبأة أسفل فراش الجدة، أخرجها أحدهم بعد الوفاة. الحفيدة ابنة الخالة الصغرى كانت تعرف السر: كرة القماش الكبيرة مصنوعة من شرائط القماش الملونة الرفيعة، كانت الجدة تصنعها على مهل، كانت دائمة التسبيح، وكلما أتمت ألف مرَّة من التسبيح، عقدت قطعة قماش في ذيل الأخرى، هكذا حتى كانت هذه الكرة، عندما لمستها كانت رطبة، تذكرت يوم دخلت عليها وهي تعقد واحدة في أخرى وتبكي! **ينشر هذا الفصل بالاتفاق مع دار الكرمة للنشر