على الرغم من حجم الرفض للحكم الدينى، أو بالأحرى حكم اليمين الدينى المتطرف، فإن كل الظروف والملابسات تؤدى إلى شكل من أشكال الحكم فى مصر يتسم بالفوضى وانعدام المعايير وخلط الأوراق الأساسية المتعلقة بالسلطات وتركيبة المجتمع والتراكمات الحضارية والثقافية والتاريخية، أى أن هناك ببساطة محاولات لتسييد نمط حكم جديد يتميز بالمنافسة، وربما الصراع، بين تيارات وقوى سياسية يمينية متطرفة بألوان طيف خادعة تعطى انطباعا كاذبا بالتنوع والتعدد والاختلاف. هكذا يمكن أن نفسر الخريطة السياسية المصرية فى الوقت الراهن والصراع بين الإخوان والسلفيين، وبين الإخوان والجماعة الإسلامية، وبين السلفيين والسلفيين الجهاديين، وبين الأخيرين والإخوان. وكذلك البدائل المطروحة مثل حزب مصر القوية أو حزب الوسط أو أى أحزاب أخرى تتلفح بالدين وعقائد التمييز والإقصاء. كل ذلك يضعنا فى مأزق تاريخى-سياسى لا يتسع حتى لوجود قوى ليبرالية أو يسارية أو وطنية، أو مدنية عموما. فكل القوى غير الدينية لا تزال تدور فى دائرة مغلقة وتكرس لانقسمات وصراعات داخلية وجانبية. إن غياب القوى المدنية بكل توجهاتها عن الشارع يقلص من مساحة وجودها فى ساحة الصراع السياسى، ومن ثَم على الخريطة السياسية. فالشارع المختلف والمتباين الآن هو المعادل النضالى والتاريخى، وهو الخصم الحقيقى والوحيد للقوى الإسلامية اليمينية المتطرفة. وهو أيضا الذى يناضل ضد الهيمنة العسكرية والبوليسية، وإن كان قطاع كبير منه يسعى لعودة الجيش أو يحاول سحب الثقة من الرئيس. فالرغبة فى عودة الجيش عابرة ولها أسبابها المنطقية، وأولها غياب المعارضة الحقيقية الفاعلة والناضجة، ونجاح الإخوان التدريجى فى سحب البساط من تحت أقدام المعارضة وتسييد فكرة «المنافسة السياسية» بين قوى وأحزاب دينية أو ذات مسحة دينية. الإخوان المسلمون يطلقون السلفيين، ويغضون البصر عن السلفيين الجهاديين، فى الصراع مع الأجهزة الأمنية، وبالذات مع قطاع الأمن الوطنى والمخابرات والجيش. ويمنحون أنفسهم الحق بالتحالف مع التنظيمات الجهادية والإرهابية فى ضرب منظومة القضاء. لا شك أن الإخوان يوفرون طاقاتهم إلى أقصى حد ممكن، ويصنعون تناقضات شكلية بينهم وبين السلفيين والسلفيين الجهاديين وبقية الكتل المتطرفة من جهة، وبين هذه القوى والمؤسسات السيادية من جهة أخرى. ولكن من الواضح أن الصراعات والتناقضات الأخيرة تحديدا ليست شكلية، بل جوهرية، بخاصة أن الإخوان لا يرون ضرورة الآن فى المواجهات المباشرة مع المؤسسات السيادية بعد أن انفضح أمرهم فى الصراع المباشر مع المؤسسة القضائية. وإذا أردنا الدقة، فالإخوان المسلمون نجحوا فى صنع وتشكيل أدوات سياسية واجتماعية وأمنية لاستخدامها فى الداخل وبما يضمن تحسين صورتهم فى الخارج وابتعادهم عن الصغائر السياسية. والأهم من كل ذلك، على المدى المتوسط والبعيد، هو تشكيل ساحة إسلامية تتنافس فيها قوى تتشح كلها برداء الدين. هناك حالة تملُّق من جانب الإخوان للجيش، وهناك حالة تحفز واستمراء وتوجُّس من جانب الجيش تجاه الإخوان «السلطة». إذن، لنؤجل الجيش قليلا ما دامت تجربة أردوغان التركية حاضرة ويمكن تكرارها فى ما بعد فى مصر، بخاصة أن الدعم الأمريكى مستمر وإن كان مغلَّفًا ببعض الانتقادات الخفيفة بين الحلفاء. ولكن تأجيل الصدام مع الجيش محكوم بظروف ومتغيرات ليست بيد الإخوان ولا الجيش نفسه مهما حاول الطرفان النفى والإنكار. وبالتالى تبقى الأجهزة الأمنية التى تتساقط تباعا. فوزارة الداخلية أصبحت إحدى الأذرع الأمنية لمكتب الإرشاد، وستظل هكذا إلى أن يستحدث التنظيم شكلا ملائما. أما المخابرات فتتعرض لحملة تشويه ممنهجة كأن الإخوان بعيدون تماما عن الموضوع، بينما تتساقط قلاع الأمن الوطنى واحدة تلو الأخرى. إن كل ما يجرى فى مصر الآن يُخَدِّم على استمرار حكم الإخوان. وكل ما يجرى فى المنطقة يكرس لحكم التيارات والقوى اليمينية الدينية المتطرفة. ومن الصعب أن نفصل بين الملفات الليبية والمصرية والسورية والتونسية والسودانية واليمنية. وقد يكون وصول أى حكم وطنى أو مدنى إلى السلطة فى أى من هذه الدول بداية كارثة حقيقية على خطط الولاياتالمتحدة التى بدأت بالتخلص من حلفائها «الليبراليين!» الذين أتت بهم سواء فى أفغانستان أو العراق. فالخلطة السياسية والجيوسياسية والجيواقتصادية الدولية والإقليمية لا تتطلب إطلاقا أنماط حكم وطنية أو مدنية ولا حتى ليبرالية أو يسارية. إذا كان الأمر يبدو فعليا بيد الولاياتالمتحدة وحلفها الأوروأطلسى، ولا يمكن أن تجرى تغييرات جذرية فى مصر أو فى دول ما يسمى بالربيع العربى الأخرى دون رضاء واشنطن وحلفائها الصغار والكبار فى المنطقة، فمن الممكن أن نواجه الحقيقة والواقع بقوة لتأكيد أن الشارع قد أصبح صمام الأمان وساحة الصراع الحقيقية، ومن سيؤمن بذلك على أرض الواقع والصراع، سواء كان الجيش أو المعارضة أو المخابرات، ستتغير اللوحة السياسية نسبيا. والتأخير يستهلك ويبدد كثيرا من أرصدة أى قوة تفكر فى الجلوس على مقعدين أو تمارس المناورات السياسية الانتهازية والتحالفات قصيرة النظر.